الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المثقف الحزبي إلى المثقف الحزبائي

عبد الإله بوحمالة

2009 / 4 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


يولد المثقف على الفطرة لا منتميا ولا مواليا ولا منحازا، ولما يتحزب فحزبه هو من يؤدلجه، ييمنه أو ييسره، يبرجزه أو يبلتره (من البروليتاريا)، وقبل أن يموقعه بين نخبته وصفوته، يعطيه هويته الحزبية ولونه السياسي وانتماءه الجماعي.
يخندق الحزب السياسي المثقف المنضم إليه في صف، ويختصره في فكرة ويرهنه إلى قضية ويكبله بدور.. يكيف خطابه السياسي والإيديولوجي ويحدد معجمه اللغوي والمفاهيمي.. ويشذب، إلى أقصى الحدود، شعث مقولاته ويخفف إلى أدنى المقاييس شطط عباراته ومصطلحاته.
باختصار إنه يصهره في المثال صهرا، ويصبه في القالب صبا ويخرجه، في المنتهى، شبها من الأشباه.. نسخة من مستنسخ وترسا من تروس.. واحدا من كل ورقما ضمن عدد..
أي يصبح المثقف مثقفا حزبيا منتميا ومتماهيا كأنه الحزب وكأن الحزب هو.
يعيش المثقف الحزبي دائما ضمن حدود الإطار التنظيمي والنظري العام لحزبه.. لا يبرحه إلى أطر أخرى بدعوى الالتزام والانضباط.. ويطل حينما يطل على الواقع المحيط به والمتحرك من حوله من نافذة الحزب الضيقة مهما اتسعت.. لا يقرأ هذا الواقع إلا بعين الحزب الواحدة والوحيدة، ولا يحلله إلا بأدواته ومقولاته الخاصة، وفي المجمل العام لا يحكم عليه أو يتموقف منه إلا من خلال أحكام الحزب الجاهزة ومعايير الثابتة.
يبقى المثقف الحزبي مدة طويلة من عمره السياسي رابضا مرابطا عند بوابة الحزب، جاثيا أمام عتباته، يحرسه ويذوذ عن حماه.. يدعو صباح مساء إلى أفكاره، ويبشر بمبادئه ويروج لها ليستقطب وافدين جدد، زبناء ومنخرطين.
يعهد إليه عادة، باعتباره ماسكا بزمام المنطق، مالكا لقريحة الكلام بتبييض صفحات الحزب وتمجيد تاريخه النضالي وتلميع واجهته وترميم ما قد يوجد في السيرة من شروخ، وحينما يدخل إلى حرم الحزب لا يدخله إلا طائعا مبايعا للزعيم متمسحا بأعطافه مجددا لولائه مهللا لحكمته مباركا لسداد أفكاره.
ولأن المثقف الحزبي لا يستطيع أن يطرح أسئلة الشك والاستفهام حول شرعية الحزب الذي ينتمي إليه ولا حول مذهبه الإيديولوجي ولا حول زعيمه الملهم الخالد، فإنه يظل بين المثقفين المستقلين خارج سيرورة الزمن وتواليها السريع، محكوم بإيقاع الزمن الراكد غير الممرحل.. يعيش مخاضات الحاضر الذي يولد للتو برؤى وأحلام وأوهام الماضي الذي احتضر ومات وتعفن..
ولو حدث وانتبه المثقف الحزبي، وهذا لا يحدث إلا قليلا، إلى شساعة الهوة بين الزمنين، يكون بلا شك قد فكر من خارج النسق.. من نسق جديد أو حتى من نسق الخصوم والفرقاء.. أي أنه ارتد ووعى وعيا مضادا ينتهي به، إلى خارج الحرم.
يستطيع المثقف الحزبي، في هذه الحالة، أن يصمت نهائيا.. أن يبتلع لسانه ويختفي عن الأنظار أو أن يتوارى في الظل، لكنه لا يستطيع أن يعود إلى فطرته الأولى قبل التحزب، حرا محايدا مستقلا، ومن يتيسر له ذاك التحول السهل بخطوة أو التفاتة أو بجرة قلم وقلب معطف، يكون بالتأكيد قد انتقل من مثقف حزبي إلى مثقف حزبائي وهذا توصيف آخر لجنس آخر.
توصيف لجنس من المثقفين يرتبط وجودهم بالمشهد السياسي الحزبي حينما يختل أكثر وحينما يصبح مائعا أكثر وعبثيا وفوضويا أكثر..
مثقف رحالة، كثير التجوال سريع الانتقال، لا يؤمن بفكر، ولا يخلص لمبدأ، ولا ينتصر لطبقة، ولا يدافع عن قضية.
المثقف الحزبائي، حربائي الطبع، لا يستقر على لون ولا على خط ولا على خطاب.. يغير جلده السياسي بسهولة حسب الظروف الخاصة ووفق المؤشرات المصلحية.. يسبق الأحداث حينا ويتنبأ بها أحيانا.. لا ينحاز إلا إلى الصفوف الرابحة وثلة الأقوياء..
متملق موهوب.. متسلق محترف.. مبدؤه الأعلى أن يكون مع الراكب حتى ينزل، وإذا نزل السابق استمسك فورا بتلابيب اللاحق، لا يترجل ولا يتباطأ ولا يتوقف أبدا.
عدو المواقف الثابتة هذا النمط من المثقفين..
لا يراكم حوله أي رأسمال رمزي يدل عليه أو يعرف به أو ينسب إليه.
خطابه جامد عند حدود درجة الصفر في الحمولة.. يتكلم اللغة نفسها بالمعاني نفسها من موقع اليسار كما من موقع اليمين كما من موقع الوسط، وفي أية منظومة كانت من المنظومات، رجعية محافظة، أو تقدمية متحررة..
يندفع مع كل موجة في أوج مدها وعلوها ويتركها قبل الجزر.. ينساق مع كل تيار طالما كان جارفا متقدما.. سفنه لا تعدم ريحا وأهدافه لا تخطئ مراسي.. بوصلته المصلحة الشخصية دائما، لا شيء قبلها أو بعدها أو غيرها.. ينسل من كل أزمة سالما ويخرج من كل غنيمة غانما.
ليس للمثقف الحزبائي شرط موضوعي في الالتحاق بأي حزب سياسي حينما يراه كاسبا مهيمنا متقدما إلى الصفوف الأمامية.
كل شروطه ذاتية أنانية، لا تهمه هوية ولا فحوى أفكار ولا سمعة قادة.. يستطيع أن يتبع، بضمير مرتاح، أنبياء مبشرين كما يستطيع أن يمشي خلف شياطين غاوين مضلين.. وفي الحالتين معا يبدع ويجيد ويتفوق على نفسه باستمرار مادام هناك نفع، ومادام هناك مكسب وفيء..
يمارس الإمعية باحتراف، لكنه في الحقيقة هو إمعة مع نفسه فقط وليس مع أحد.
المثقف الحزبائي مفيد جدا لحزبه في جميع مواقعه وظروفه.. هو اللسان السليط إلى حد السوط والعطب، وهو قائد حروبه القذرة وفتوحاته اللا أخلاقية.. هو الذي بمقدوره أن يسود ويلطخ أية بقعة بياض يمكن أن تلوح في صفحة الخصوم بضربة واحدة من عبارة أو بعنوان مقال أو بشعار مسكوك حينما يكون الحزب في المعارضة..
وهو أيضا من في وسعه بسهولة أن يجعل الرأي العام الغاضب المتذمر يستنشق عطر الزهور والرياحين من مزبلة في الجوار أو من فساد في العتمات حينما يكون الحزب مسؤولا في الحكومة.
ومع ذلك فإنه الخطر الكامن طول الوقت في حضن حزبه..
هو المتربص الدائم بمصيره وسمعته، لأنه منعدم الوفاء ميت الضمير غير مأمون الجانب.. يعرف عورات الحزب صغيرة كانت أو كبيرة، قديمة كانت أو حديثة.. ويعرف مناطق ضعفه وهشاشته والمواطن التي قد تصيبه في مقتل إن أشار إليها بكلمة..
مطلع على مثالب الزعيم وأخطاء القادة عالم بتفاصيل الخدوش غير المرئية في صورهم.. لذلك فهو الشر الذي لا بد منه والمحارب المرتزق الذي يطمع الحزب دائما في الحفاظ عليه وإرضائه وشراء صمته.
ثقافة المثقف الحزبائي عادة ما تخوله امتلاك أسلحة ومهارات متنوعة.. وكل أسلحته قابلة للبيع والشراء لمن يدفع أكثر..
لا يتوانى في شحذها حتى تكون في مستوى معاركه وحروبه التي لا تتوقف والتي يخوضها تارة بالأصالة عن نفسه وتارة بالنيابة عن أحزاب يمر سريعا من ترابها أو يحلق خاطفا في أجواء سمائها.
لا يحارب إلا بلسانه ولا يقارع إلا بقلمه.. حبره مأجور رغم أنه لا يعترف بذلك، فصاحته نصال قاطعة، بلاغته كيمياء خانقة، حججه مجانيق دامغة.
وهنا مكمن خطورته..
للتذكير: حينما يهيمن المثقف الحزبائي على مشهد ثقافي وسياسي ما، فهذا دليل على أن هذا المشهد قد أغرق إلى أبعد مدى في التعفن والانحلال.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال