الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أولاد آرنا

ناجح شاهين

2004 / 4 / 10
القضية الفلسطينية


لم أستطع تجنب الانطباع الأولي أنني أمام "فيلم " تطبيعي ممول، وقديماً قال أهلنا أن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال شيئاً. في البداية جلست أرقب في حذر وترقب " أرنا " وهي تحاول أن تؤسس نشاطات للأطفال، بيوت أطفال ومسرح، وفرقة إنشاد..الخ كنت أظن أن المقصود هو حرف الشبان عن اتجاههم الصحيح، حتى أنني نسيت أن الوقت كان وقت أسلو وما تلاه. وهي فترة -بدرجة ما- شهدت حداً من التهدئة. بعد قليل شاهدت " آرنا " وهي تقود المظاهرات ضد جيش الاحتلال وهي مصابة بالسرطان. وكما ولا بد أن المرء يقدر في مثل هذه الأحوال، فإن المرض في ذاته، " المرض الخبيث " ما غيره، يجعل نكهة الفعل الإنساني أكثر صدقية. باختصار يضفي على نشاط الإنسان بعداً تراجيدياً يذكر بكل بهاء البطولة الإنسانية، فنتذكر على الفور: الإنسان قد يدمر ولكنه غير قابل لأن يهزم.
دخلت " آرنا " عالما جديداً بالتحاقها المبكر بالحزب الشيوعي، وتعرفت على زوجها الفلسطيني الذي كان بحسب ما نقله عنها ابنها المخرج جوليانو خميس طويلا وأسمر، ولهذا أحبته. هكذا ببساطة يتجسد الفعل الإنساني وهو على حواف التلقائية والجرأة والجنون والخلو من العقد، كل ذلك جميعاً.
الأطفال يقدمون أنفسهم كما ينبغي للأطفال في بساطة تامة. ويتحدثون بشكل منفتح على كل الآفاق. لكنني كنت أتحسب الأسوأ. وقد تعودنا نحن عائلة المتشائل ومنذ زمن بعيد على توقع المصائب حتى عندما نضحك، فإننا نقول اللهم اكفنا شر هذا الضحك ولا بد أن نتوجس خيفة في زمن العولمة الأمريكية وتمويلها الهائل لكل برامج الطفولة والمرأة وحقوق الإنسان حتى أفرغوا الكلمات المذكورة من وقعها وجرسها الموسيقي والمعنوي على السواء.
لكن اتضح أن الأطفال لم يطلب منهم أية نشاطات تطبيعية. ويبدو أن المشروع برمته كان من أجل تحقيق الرضا الذاتي وتطبيق رؤية شخصية في الحياة كشكل من أشكال " شراء " المعنى في زمن مراوغته وتعاليه على اليومي والعادي.
كنت ما زلت غارقاً على عادتي في متاهة تحليل المغازي –خصوصاً الأيديولوجية منها- والمرامي البعيدة للعمل المعطى. وهي عملية تنجح غالبا في حجب العمل عن عيوني المنهمكة بالنقد والبحث عن "الدسائس والمؤامرات" التي يحتويها النص عندما أفقت على صوت (المخرج؟) يخبرني بأن علاء –أحد أطفال مسرح آرنا- قد تحول إلى عنصر مقاومة في أحداث نيسان 2002 واستشهد.
في تلك اللحظة وبعدها بقليل شاهدت الفتيان الصغار ينتقلون من طفولة وبراءة عام 1992 وأحلام الدولة إلى صلابة وقسوة الشباب تحت وقع المركيفا والطائرات المروحية الأمريكية الصنع، والجرافات العملاقة تحيل المخيم التعس أثراً بعد عين. أدركت فجأة أن صدفة رائعة فنياً وإن تكن حزينة إلى حد يفطر القلب في المستوى الإنساني، قد أتاحت الفرصة لمخرج لماح وشغيل لكي يلتقط في أناة ودقة تفاصيل حياة أطفال على ثلاث مراحل: من الطفولة إلى الطفولة المتوسطة ثم إلى مطلع الشباب والاستشهاد. لو أراد المرء أن يخطط الأمر على هذا النحو الدقيق ربما ما كان سينجح في ذلك، لكنه هكذا تم.
جمالية اللعبة السينمائية في " أولاد آرنا" تتجلى في نجاحها في تحويل الوقائعي والوثائقي والتسجيلي إلى روائي وتراجيدي على الرغم مما قد يوحي به هذا القول من تناقض. يلتقط العمل بروعة قل مثيلها الأطفال والكبار في خصوصياتهم وتفاصيلهم الأساس في مخيم قدر له أن يكون مخيم الصمود والمقاومة. كيف ينجح الفيلم في تقديم لوحة للاشتباك مع الغيب-المستقبل الذي ما كان بالإمكان الإمساك بتلابيبه على هذا النحو لولا صدفة فنية رائعة وعملاقة. ربما أننا جميعاً نعلم أن القسوة الاجتماعية تولد العنف، ربما أننا ندرك من خلال الأدبيات الاشتراكية – وحتى أدبيات علم الاجتماع أن الإنسان من صناعة بيئته وخبرته الحياتية المجتمعية- لكننا هنا نواجه النظرية حية وموثقة في قالب سينمائي مدهش: يجلس علاء أمام منزل أسرته المهدم، طفل في السادسة أو السابعة من العمر يبدو عليه سيماء البلادة وفقدان الاتجاه. هناك مسحة عدم تركيز وأخرى توحي بالضياع، يحك يديه المتسختين ولا ينظر للكاميرا، ربما أنه خجل من أن تضبطه الكاميرا متلبسا بكل عيوبه وأخطائه. بعد ذلك نشاهد نفس الطفل وقد كبر قليلا ربما عام 95 أو 97 لا أستطيع أن أجزم كان يشارك في تمثيل مسرحية تحت إشراف جوليانو ابن آرنا. وفي هذه المسرحية يكون المطلوب إحضار الشمس، ويقوم الطفل بدوره بثقة وبشكل جميل. أما في سنة 2002 فقد ذهب حلم الطفولة إلى الأبد ولم يعد هناك منزل مهدم وذباب، كما اختفى المسرح والشمس اختفت معه. كان شارون قد اجتاح المخيم، وقد اضطر علاء مع عدد من المقاتلين الذي نجوا من الموت إلى المغادرة والاختفاء. لقد دخل في طور المطاردة. كان مطلوباً ولذلك عليه أن يستسلم. أمه قالت أن الموت أفضل من ذل الإستسلام لكن الذي يقطع نياط القلب هو رد الشاب اليافع علاء وهو يحتضن بندقيته؛ رد بضحكة مجلجلة بأنه لا يمكن أن يلقى عليه القبض أبداً: "وماذا أستفيد إن ألقي على القبض، لا يا عم أنا أختار القبر فهو أرحم."
بعد أسابيع سوف تقدم لنا كاميرا جوليانو فيما تقدم علاء شهيداً محروقاً ويصعب التعرف عليه، لينضم لعدد من أولاد آرنا الذين سبقوه إلى الشهادة. لا جرم، ربما أن ثقافة العولمة لا تبقي مكاناً لأصوات الفقراء من معذبي الأرض. لكن ذلك لا يمنع أن هناك بقية باقية من الحس الإنساني الذي لا يمكن للآلة العولمية الجهنمية أن تستأصله. وبالنسبة لهذه البقية الباقية من الكائنات الإنسانية التي تحس يمكن أن يكون الفيلم مدخلاً مذهلاً للتعرف على قصة "الكارثة والبطولة" التي يسجلها الفلسطينيون على هذه الأرض. وقد وفق جوليانو إلى أن تكون الصفحة التي افتتحها من كتاب الألم الفلسطيني أشدها في الحزن، وأبهاها في الشجاعة والإقدام والبطولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل مؤلمة! | نادين الراسي


.. قصف عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت • فرانس 24 / FRANCE 24




.. نحو عشرة ملايين تونسي مدعوون للتصويت في انتخابات رئاسية تبدو


.. تساؤلات عن مصير قاآني.. هل قتل قائد فيلق القدس التابع للحرس




.. بتقنية -تايم لابس-.. توثيق لضربات إسرائيلية عنيفة على بيروت