الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيب وساذج وما بينهما (3)

عبدالجليل الكناني

2009 / 4 / 11
الادب والفن


المرحلة الثانية (2)
من منا الساذج ؟ هل هو واحد منا أم أننا نحن جميعا ؟ . اشبه بلعبة شطرنج يلعبها مجموعة من السكارى احدهما شرب من البحر فسرقته لجته وآخرين ثملين يجيدون أدوات الضحك غير عابئين بنظرة الناس إليهم . وطرف ثالث أمتعته اللعبة وبدا واثقا من ان المدَّ الذي تسلل بين طيات ثيابه لن تتكسر منه دروعه . قال سيد خلف بانه يعرف :- نعم ..فلعله يضيف بضعة آلاف ، ليست كثيرة ، على أسعار المواد التي يبتاعها لي ، أنا أعرف ولكنني قانع بذلك . ولم يكن سيد خلف يخص ، بحديثه ، حيدر النجار أو أبا صافي ، الذي لا يعرفه ، انما شخصا آخر كنت قد ذكرته في المرحلة الاولى ، وذلك لما انتقل الحديث الى الاستغلال الذي صرنا ضحيته ولست ادري ان كان حيدر أو أبو صافي يستغلانني ، أعوذ بالله من الظن ، أم أنني بسبب عاداتي التي اكتسبتها جراء عملي وطبيعته المتقصية الشكاكة قد صرت اطبق تلك المفاهيم على البشر والمعدات معا . تلك الطبيعة التي صارت مفيدة لوظيفتي وسيئة لي . أن تكون عاطفيا خجولا من جهة وشكاكا متقصيا من جهة أخرى فذلك أمر معذب ، بل هو سيء قد يبعد عنك الأصدقاء ، ولولا غلبة العاطفة والحب المطلق ، الذي يجوب مشاعري كقصيدة ورثتها كروموسوماتي مذ كنت مضغة ، لما ظل لي صديق او حبيب كما ان تلك العاطفة ، ذات الطابع الانفعالي ، جعلت مني ، على النقيض من عاداتي العملية ، سهل الانقياد الى الفخ ، مما وسمني بطابع الطيب الساذج وجعل الآخرين يطمعون بي . أعرف ، وان تبرع صديق مخلص لنصيحتي سرعان ما تتسرب تلك النصيحة من الأذن الأخرى ، وكالعادة أخضع فشلي الى تبريرات غير كافية لإقناعي قبل غيري .
تهديدات أسعار المواد مستمرة لتضاعف التوتر الحاصل بسبب القلق على نوعية البناء ودقة القياسات ، ومن هنا جاء قراري بشراء الطابوق والسمنت والحديد بما يكفي تقريبا لإكمال الهيكل حين فوجئت ان سعر الطابوق في تزايد محموم بسبب بدء المشاريع وحلول الصيف والحجز المسبق من العديد من المعامل لبناء عمارات سكنية ، كما يقال، وما أكده حيدر، الذي أضاف بان سعر السمنت والحديد ما زال مستقرا ولكنه سيرتفع بسبب الطلب . وتأكدت من أن سعر أربعة آلاف طابوقة ( دبل طابوق ) بلغ سريعا ثمانمئة وخمسين الفا وقيل ان ثمنه في تزايد . فاستدعيت حيدر قائلا: - الحديد الاوكراني بسبعمئة وخمسين الف دينار للطن الواحد ، انا سألت عن سعره حين كنت في منطقة السيف .
- لا تستعجل . لي صديق ، سيد ....، قد نحصل على الحديد بسعر أقل . كذلك قال حيدر وراح يضغط على ازرار جهاز الموبايل ومن ثم :- السلام عليكم سيد ... نريد اربعة اطنان ونصف حديد.. أوكراني ، أصلي .. لا .. صاحبنه واكع .. بعد سيد .. هذا آخر سعر ؟ .. واصل إلينا ؟.. آخر سعر ؟ .. اتفقنا .
وكنت شديد الترقب واللهفة امضغ كل كلمة يقولها حيدر ، فتحرق جوفي ، بانتظار الماء البارد ، النتيجة ، نتيجة الاختبار الذي لا يعتمد على الجهد إنما على الحظ ، أي زيادة في الأسعار تعني عجزا إضافيا في إكمال الهيكل ، والطابوق رمى بثقله على رأسي فلا استطيع حمل ثقل إضافي ، كالحديد أو السمنت . نعم ؟؟ .. نعم ؟؟ ...
- سبعمائة واربعون الفا للطن ... واصل .
يا الله.. ذهب الظمأ .. وكم كنت سيئا حين شككت يوما بهذا الشاب الطيب ، بالأمس سألت عن سعر الطن الواحد بسبعمئة وخمسين الفا يضاف اليه اجور النقل . والآن يأتي به حيدر بسعر أقل .. واصل .
- شكرا حيدر انا أشغلك معي
- لا.. لا تشغلني، أي شيء تطلب أنا بالخدمة.
- كم المبلغ الكلي ؟ . وأعطيته ثلاثة ملايين وثلاثمئة وثلاثين ألفا ، وشكرا – والسمنت ؟؟
- لم يتغير ، سألت عنه .
- جيد . وكم نحتاج . وحسبنا اطنان السمنت . خمسة وعشرون طنا . جيد . ونقدته مبلغ السمنت ابو الخمس نجوم . مئة وخمسة وثمانون الفا للطن الواحد ( ابو النجوم الصغيرة ) للبناء ، ومئة وتسعون الفا للطن ( ابو النجوم الكبيرة ) للصب ، وبمبلغ كلي اربعة ملايين وسبعمئة الف دينار . ولم لا ؟ الطابوق أيضا فقد تستمر اسعاره بالصعود . ..
الرجل العاطفي هش وكريم وكم تسعده هشاشته ويطربه كرمه . اذن حيدر .. اشتر لي اثني عشر ( دبل ) طابوق ، على معرفتك من شخص أمين .
- أنا أعرف صديقا لي ، أعتمد عليه ، سأتصل به واعطيك النتيجة مساءا .
وفي المساء أعطيت حيدر عشرة ملايين وثمانين الف دينار ثمن الطابوق الذي سيقوم بشرائه . وعلى مبدأ ريَّحت وارتحت نمت هانئا فلم تعد أسعار المواد تؤرقني .
الا أنني في صباح اليوم التالي شعرت بمدى السرعة التي تنصلت بها النقود من بين يدي وتذكرت ابا صافي الحداد وحين ذهبت اليه لم اجد الأبواب فارتأيت انه قد باعها وسينقدني مبلغها الا انه سرعان ما لاحت لي من خلف صفائح الأبواب وأعمدة حديد الشبابيك التي يقوم بصنعها ابو علي اللحام . وحين سألت ابا صفاوي اعتذر لأنه كان مشغولا وان وضع الأبواب هنا حصل اليوم ، واليوم فقط لضرورات العمل .. وأنت تأمر ابو فرح .
ومن هناك في طريقي الي بيت اهل زوجتي اتصلت بحيدر لأخبره أنني سأتأخر حتى المساء فأجابني بهشاشة ودعة انه سينتظر وصول حديد البناء بنفسه .. ولأطمئن .
ولم تكن الخيبة التي شعرت بها حين غادرت محل ابي صافي اكثر وقعا وحرجا من الخيبة التي صدمني بها مرأى الحديد الذي جلبه حيدر . لي تجربة مع حديد البناء جعلتني اميز الحديد الأوكراني من غيره . فاتصلت على عجالة بحيدر، ومهما حاول إقناعي ظللت حرونا عنيدا :- لا أبو كرار لا .. ليس الأوكراني . وهذا الحديد سعره اقل بكثير .. اعرفه جيدا .
- لا والعباس هذه الحديد الأصلي .
- ولكن حين اشترى منه ابو شيرين قلت لي انه ليس الأصلي ؟!
- لا .. لا .. ابو فرح ذاك غير .. انا اعرف الحديد جيدا
- مهما يكن .. ابو كرار .. هذا ليس مثل الحديد الذي اشتريته سابقا ، والذي قلت أنت عنه انه الأوكراني الأصلي !
- لا .. أبو فرح . الحديد ذاك العندك ، هم بيه شويه .. هذا الحديد الأصلي.
ومهما حاول حيدر ، أصررت على ان هذا الحديد ، ليس حتى ، مما يسمونه في السوق بالاوكراني درجة ثانية ولن استخدمه ، ويجب ان يرجعوه..
فقال حيدر :- انتظرني .. انتظرني .. سآتي .
لقد بدا حيدر واثقا من صنعته .. كما ان إصراره جعلني احفز كل دفاعاتي حتى ذهبت بعيدا الى ان المواجهة ستكون حاسمة معه . وأمسكت بكلتا يديَّ بسيخ من الحديد القديم ورحت الويه ببطء ممعنا في استشفاف قوة مطاوعته لي حتى استجاب ، وجربت ذات الحجم من الحديد الذي جلبه حيدر فأحسست او ربما أوهمت نفسي ان الحديد الجديد طاوعني بقوة أقل ، هكذا على الأقل كان شعوري ، وأضفت ذلك إلى دفاعاتي .
وحين جاء حيدر كنت مستدعا لاطلاق كل ما لدي
- انظر.. انظر ابو كرار.. المسحات الثلاثة في الحديد القديم.. وانظر إلى هذا به مسحة واحدة ، وبعضه بلا مسحة ...
ورحت اسوق ادلتي التي حاصرت بها حيدر ، مع اصراراي على ارجاع الحديد بأي ثمن .. مما جعله يمعن النظر ليقول :- صحيح لم اتنبه له .. لا هذا ليس الأصلي .. لم أميزه في المساء حين جلبوه .. يرجع .
- وماذا عن الطنين ونصف التي اشتريتها لأبي شيرين ؟
- ابو شيرين ما عنده اعتراض .. لا تتحدث بالموضوع.
- أخشى ان يعرف ابو شيرين عن طريق آخر أو حين يتم إبدال الحديد فماذا سيكون موقفنا ؟ .
صمت حيدر وبدا مفكرا ، بل ترى من خلال ملامحه ذلك الحصار الذي يعانيه ..فقال بكلمات مقتضبة :- سأرجعه أيضا . انا قلت للسيد- نريد اوكراني اصلي وان صاحبنا مهندس يعرف بالحديد ، قلت له مهندس مدني ولم اقل له مهندس كهرباء .. الحديد يرجع .
وبعد فشلي مع ابي صافي الحداد مع الثقة التي اكتسبتها في مجالدتي لحيدر قررت القيام بتصميم الكتائب وشراء الحديد وتقطيعه وشراء النقشات ومن ثم اوكل امر اللحام الى شخص له خبره . وكم ارقني ذلك القرار ورحت اطالع انواع النقشات المتوفرة في السوق ، سوري ، ايراني ، وارسم مخططات الكتائب وارهق فكري في تصميمها لولا ان أنقذني ابو سامر الذي اكمل بناء هيكل بيته ، بان أرشدني إلى الحداد الصحيح . فتمكنت من الاتفاق معه بما اراحني من حيث نوع العمل ، الذي شاهدت مثيلا له ، والأسعار
وفي المساء اتصل حيدر معتذرا وموضحا سبب جلب الحديد الخطأ فقد قال له السيد أن العمال اشتبهوا بالحديد وهو لم يكن موجودا .. السيد نظيف وسيقوم بابدال الحديد دون ان يأخذ أجرة نقل إضافية . وبسبب ميلي العملي الى عدم الأخذ بالشكوك ، ان لم يكن ثمة دليل مادي ، وتأكيدات أبي شيرين من ان حيدر قد أحرج من الحديد الذي جلبه ولم يكن إصراره الا مداراة لسمعته ، طردت ظنوني بل لمت نفسي ان يكون الآخرين اكثر طيبة وسماحة مني . ورحت استوعب الموقف الذي وقع به حيدر وانعكس ذلك على سلوكي اللاحق معه – لو واحد غيرك لكان قد شك في أمانتي . طبعا يشك .. ولكن الحمد لله اتضح ان العمال أخطئوا .
و قمت بجلب التراب لدفن كل ما تم بناءه . وتوارت الجدران تحت تلة ترابية أخفت في طياتها عناء وقلق وظنون الأيام الماضية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين