الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شبر الخفارين

الطيب طهوري

2009 / 4 / 12
الادب والفن


...إنها الليلة الثالثة التي أبيت فيها ساهرا ذاهلا مترددا: أحفر أو لا أحفر..والعام الجديد تقترب بدايته بسرعة ما كنت أتصورها قبل هذه الليالي أبدا..و..
أتذكر أنني حملت الفأس أكثر من مرة ، وتراجعت عن الحفر أكثر من مرة أيضا عندما حلت بداية السنة الماضية..
أذكر أن أخي الذي يليني مباشرة في ترتيب ولادتنا حاول نزعها مني مرارا دون جدوى..
ترجاني إعطاءه الفأس ولم أعطه..قال: إذا خفت هاتها ، اترك الأمر لي ، سأحفر بدلا عنك .. لكنني لم أعطه..
منذ الصباح حتى بداية اليوم الثاني وأنا أرفع الفأس وقبل أن أهوي بها على الأرض أتراجع .. ويصيح أخي: هات الفأس .. هاتها..
حين انتهى اليوم الأول تنفست الصعداء وانسحبت خجلا ..ولم أعد إلى البيت إلا بعد أيام..
احتج أخي كثيرا.. حملني مسؤولية عدم الوفاء بالعهد .. وجر باقي أفراد الأسرة إلى تحميلي المسؤولية ..
واجهني الجميع غاضبين علي وساخطين على سلوكي ..
رفعوا رؤوسهم وقالوا لي بحدة لم أعهدها منهم قبل اليوم: أنت أكبرنا ، والعادة جرت أن يتم الحفر من قبل الأكبر دائما.. وصاح البعض: يالك من جبان..
منذ زمن بعيد سألوها : أيتها الأم صارحينا .. من يكون أبونا؟.. قالوها بصوت خافت مليء بالتردد والخجل..
وحقيقة الأمر أنهم كانوا قد طرحوا عليها نفس السؤال وبنفس التردد والخجل منذ أن مات جدي بحسرته التي ملأ قلبه بها أهل القرية الذين كانوا كلما أنجبت جدتي ولدا ورأوه يكبر أمام أعينهم وتتضح ملامح وجهه التي لا تشبه بالمرة ملامحه، إلا وتهامسوا فيما بينهم : إنه ابنه.. مشيرين إلى ذلك القادم الذي كان يأتيهم حاملا تينه وزيتونه على البغال التي يدفعها بعصاه الزيتونية أمامه..
كانوا يقولون لبعضهم : انظروا عينيه .. ألا تلاحظون أنهما بنفس لون عينيه وشكلهما..إنها نفس القامة ..نفس لون البشرة..
يعلق بعض الكبار: هل نسيتم؟ لقد كانت وهي صبية تستقبله بالفرح العارم .. ألم تكونوا تلاحظون ذلك الفرح على ملامح وجهها ، وترونه يسرع السير في خطاها ؟ ألم تكونوا تشاهدونه وهو يملأ حجرها مبتسما بحبات التين والزيتون فيما لا يعطي الأخريات من مثيلاتها أكثر مما يملأ أكفهن ؟
ويضيف آخرون: ومن دون كل أهل القرية كان لا يحلو له المبيت كضيف إلا عند أبيها أو زوجها ؟
كان الكلام في البدء همسا لا يتجاوز حدود الإثنين أو الثلاثة..لكنه وبسرعة مذهلة انتشر بين كل نساء القرية .. بين كل رجالها ، وحتى أبنائها وبناتها.. وأمات جدي بحسرته وهو يحس باحترامهم له يقل وتقديرهم يختفي ، ويرى غمزاتهم بعينيه ويسمع همساتهم بأذنيه ..
ورغم أن جدتي كانت تحتج وتسب وتشتم حين كانوا يطرحون السؤال المتردد الخجول.. إلا أنها كانت تهدأ تماما بعد احتجاجها ذاك وتجيبهم بانشراح تام: لا تتسرعوا .. سيأتي اليوم الذي تعرفون فيه كل شيء..ثم تأمر بإغلاق فم كل من يحاول مواصلة الحديث بوضع كف يدها اليمنى على فمها..
وكانت تلك الإجابة المبهمة لا تزيدهم إلا ألما وسخطا .. لكنهم كانوا يجرون أرجلهم ويخرجون الواحد تلو الآخر ساهمين..
كانت جدتي ملكة جمال القرية .. حقيقة لا ادعاء..
منذ صغرها كانت مثار اهتمام الجميع..
وحين جاء جدي على فرسه الشهباء لا بسا بردته البيضاء الناصعة وممتشقا سيفه اللامع رحب به أهل القرية كثيرا .. تنافسوا على ضيافته .. ذبح بعضهم الكباش وذبح البعض الماعز ، أما الآخرون من فقراء القرية فقد اكتفوا بذبح الديكة..
ولأنهم استحسنوا حكاياته التي كان يرويها لهم بشكل مشوق جذاب ويملأها بالكثيرمن الحديث عن شجاعته و مغا مراته العجيبة.. وارتاحوا لآياته التي كان يقرأها عليهم فقد طلبوا منه الإقامة بينهم معلما لأبنائهم ومرشدا لهم في حياتهم..
ولم يبد الأمر غريبا لهم أبدا حين سمعوه يقول ودون أدنى تردد : على الرحب والسعة.. لا أتصور أنني أجد مكانا لي أفضل من الإقامة بينكم ..ثم يضيف وهو يتأمل وجوهم بعمق: والله لقد أحسست بأنني واحد منكم منذ أن أنزلتني هذه الشهباء بينكم، مشيرا بأصبعه إلى فرسه التي كانت تقف غير بعيد عنه..
ولم يكن جدي سوى شخص عادٍ ، قصير القامة بعض الشيء ، عيناه أميل إلى الجحوظ وبشرته سمراء فاتحة.. لكنه سرعان ما صار حكيم القرية ،مدبرأمورها والمخطط لحاضرها ومستقبلها..
ولم تكن جدتي سوى واحدة من بنات القرية ، لكنها كانت الأجمل بينهن جميعا..
كان كل واحد من رجال القرية يمني نفسه بأن تكون زوجة ابنه مستقبلا .. و..
.. خطفها جدي من أعين الجميع .. أدخلها قلبه وهي ما تزال صبية تتعلم حروف الهجاء على يديه ، وتحفظ آي القرآن من شفتيه..
لم يتردد أبدا حين رآها وقد صارت في سن الزواج القروي ..
تقدم بسرعة فرسه الشهباء نحو أبيها ، وأمام جميع من كان حاضرا طلب يدها ..
ذهل الجميع.. لكن أبا جدتي قال ودون أي تردد أيضا: مبارك زواجك من ابنتي..
ثم أضاف وكأنه يبرر قبوله السريع ذاك: يا حكيم قريتنا ومعلم صبياتها وصبيانها ..
قبل عام من وفاتها كرروا عليها نفس السؤال خجلين مترددين ، وبشفاه تكاد ترتجف..
و..أطرقت جدتي برأسها طويلا، ثم رفعته وتوجهت بعينيها الحادتين إلى عيونهم التي كانت موجهة نحو الأسفل واحدا واحدا ..
لم تحتج كالعادة.. لم تسب ولم تشتم..
لم تقل لهم مثلما تعودوا أن يسمعوا : لماذا تسألون؟ ألا يكفي أنكم موجودون؟
بل قالت وبصوت فيه الكثير من الخشوع والرهبة: سأخبركم يوم موتي.. ولم تزد كلمة واحدة..
نظروا إلى بعضهم البعض .. حاولوا التكلم من جديد.. وصمتوا حين رأوا عكازها الفرسي يحملها ويسير بها بعيدا عنهم..
وخرجوا الواحد وراء الآخر ..
وانتظروا..
كانوا يحسون أن يوم موتها قريب .. وكانوا ينتظرون..
وكان جدي على فرسه الشهباء حين دخلت الموت ومسحت على أصابع رجليها..
انتفضت جدتي وصاحت بصوتها المرتعش الذي كان ما يزال قويا: تعالوا يا أبنائي..
واجتمع الأبناء باكين حولها..
سمرت عينيها في عيني كل واحد منهم .. الأكبر أولا ثم الأوسط فالأصغر..
قالت: احفروا كل سنة شبرا في الحوش..
كررت :كل بداية عام جديد شبرا..
أضافت: شبرا واحدا.. لا أقل ولا أكثر..
وأغمضت عينيها إلى الأبد..
نظر الأبناء إلى بعضهم البعض حائرين..
ضربوا الأكف بالأكف..وكان واضحا أنهم لم يفهموا شيئا..
لكنهم فهموا.. بعد أن دفنوها وعادوا إلى الدار باكين .. قال أبي:
هل فهمتهم يا أخوي قصد كلا مها؟
ولم يترك لهما أية فرصة للكلام حين أضاف: إنه السر..
أبونا.. أليس كذلك؟ قال الأصغر..
وانتظروا..
ولم يدم انتظارهم كثيرا حين شاهدوا غيم العام الجديد يتقدم نحوهم ..
لمن يكون شرف بدء الحفر ياترى؟ سأل أبي..
وأجاب الأوسط: لك يا أخي.. أنت أكبرنا..
ورفع أبي الفأس .. لكنه قبل أن يبدأ الحفر انتبه:
شبر ماذا يا أخوي؟ طولا أم عرضا أم عمقا ؟
واتقفوا على أن يكون طولا وعرضا وعمقا معا..
و.. سقط أبي ميتا بعد أن قاس الطول والعرض والعمق وتحقق من إجادته الحفر ..
في السنة الموالية رأيت عمي الأكبر حائرا مترددا..
وحفر أخيرا..تشجع وحفر..
وفرح كثيرا حين رأى نفسه واقفا بعد نهاية الحفر والتأكد من قياسات الطول والعرض والعمق..
لكنه لم يجد شيئا.. تماما كأبي..
في السنة الثالثة.. حفر.. والتحق بأبي..
ولحق بهما عمي الأصغر بعد الانتهاء من حفره الثالث..
وها أنذا أقف حائرا مترددا : أحفر .. لا أحفر..
أحفر.. لا أحفر..
أح.. فر.. لا..
أح..
فر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب