الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرة الحصاة البيضاء

عدنان الدراجي

2009 / 4 / 14
الادب والفن


افتقاد حصاة بيضاء صغيرة لموقع في قبضة مترهلة لا يعني شيئا, فالحصى أكثر مما يحصى, إن تنوع أحجام الحصى وأشكاله وألوانه يعسر تصنيفه, فمن ينتبه لصفاء هذه الحصاة البيضاء وكم هي صقيلة وخالية من الشوائب ومغايرة لصويحباتها اللاتي مكثنَ في تلك الكف.
لونها الأبيض يتدرج في استطالتها الرشيقة حتى ليغدو في طرفها العلوي رقيقا ساميا مستفزا لبياضها الكثيف المشرق في أجزائها الأخرى, كان انحناء احد سطحيها برقة فوق استقامة سطحها المستوي يمنحها كياسة وبهاء وحنانا.
كانت شغوفة بالضوء, تلهو معه, وتسمح له بملامستها بتلذذ عجيب كأنها تستمد منه حيويتها, فعشقها وهام بها رغم علمه باستحالة اختراقها, فما أن يلجها حتى يذوب فيها و لا تدعه حتى تخلق منه انعكاسات منتشية بألوان الطيف.
مكوثها القسري في أكوام الحصى الموحلة لم يطفئ تفردها بل منحها اشراقة تغري من يقع بصره عليها بالتقاطها كحجر كريم لكن سرعان ما يطاح بها إلى وحل قمامة ما, أو تهمل منزوية على قارعة طريق مترب.
ربضت في زمن ماض على ضفة دجلة مستلقية على مهد رملي نظيف تغتسل بمويجات النهر الناعسة, وتلهو ببراءة مع شعاع الشمس المتراقص فوق حبات رمل الشاطئ, لكن ترف العيش لم ينسها أيام صباها في موطنها الأول.
كيف تنسى خرير الغدير الذي سكنت في كنفه ومداعبات غصن الشجرة اللعوب التي تمازحها بحجب أشعة الشمس عنها للحظة ثم تنزاح لتظلل جزءا أخر من الغدير.
في يوم نحس أسرت مع كثيب رمل, ونقل الجميع بشاحنة قبيحة إلى موقع مكتظ بأكوام الرمل والحصى وقضبان الحديد وأكياس الاسمنت.
لم يستقر الحال بها هناك طويلا إذ تقاذفتها المعاول نحو جوف آلة مزج الخرسانة المرعبة, فدارت بها مزمجرة بفضاضة طائشة محدثة دوامة هائجة, جعلتها تتدحرج على الجدران المعدنية القاسية بلا هوادة, محاطة بمزيج لزج من مسحوق الاسمنت الأسود المختلط مع حبيبات الرمل الحمراء الدبقة مع الماء, وحين تهيأت الآلة لتفرغ أحشاءها فغر إناء معدني عميق فاه وأسرع ينزلق تحتها كي يستقبل برازها الطري لكنه اخطأ الموقع المناسب بقليل مما أتاح للحصاة البيضاء السقوط بجوار الإناء المخيف.
استقرت بقرب الآلة الصاخبة غير مكترثة بالوحل المحيط بها, مشرقة نقية لامعة لم تمس بخدش ولم تكسر كغيرها ممن التهمتهم الدوامة.
لم تمكث طويلا حيث التقطت من موقعها ودست في كيس قماش يرقد باسترخاء تحت ظلال جدار ليس بعيد من موقعها الأول, سمح لها امتلاء الكيس بقطع الملابس النظيفة بالاختباء وكتم حضورها المشرق, وحين خيم الصمت عصر ذلك اليوم, افرغ الكيس من محتوياته, انزلقت منه لتستقر بمحاذاة الجدار.
اعتادت التنقل فلم توحشها الغربة لكنها تفتقد أجواء الاطمئنان والاستقرار حتى أنها تغبط غيرها من الحصى الرديء الذي تجذر في أسس وسقوف البنايات أو اللاتي تسللنَ بمكر تحت طلاء الأبنية الأسمنتي.
كان هدير محركات المركبة المتراجعة نحو فناء البناء التي لاذت به الحصاة نذير فصل جديد من حياتها, توقفت المركبة ثم شهقت مقدمة حوضها نحو الأعلى لينساب من تحت بوابتها سيل من التراب الناعم الذي شكل هرما مخروطيا لا تبعد حافة قاعدته كثيرا عن مكمن الحصاة البيضاء.
تكرر مجيء المركبة القميئة وتزاحمت الأهرامات الترابية حولها مع قدر غير معقول من الغبار الكثيف, لم تهنأ بانقشاع السحب الترابية إذ انشق فجر اليوم التالي عن ضوضاء معاول صاخبة أخذت تنهش أجساد أهرامات التراب وتذره في أنحاء المكان, وقبل زوال الشمس طمرت الحصاة البيضاء تحت طبقة رقيقة من التراب.
سكنت الحصاة البيضاء صابرة على مضض, كيف تتملص من ورطتها وهي تفتقد للأرجل والأيدي وصلابتها تحرمها من الحركة الموجية الدودية, لكنها أخرجت أخيرا حين مهد بجوارها موقع سكن لنبتة ما, التقطها كف متسخ لبرهة ورافقته نحو الخارج, لكنه أسقطها من غير قصد بعد أن طوح بذراعه على حافة الطريق الإسفلتي.
سكون الطريق أغرى سرب العصافير على الهبوط بجوارها, تأملتها عصفورة يانعة ثم التقطتها بمنقارها الرقيق, ولسبب غير مفهوم زهدت بها العصفورة وغادرت المكان مع رفيقائها منزعجة من زمجرة مركبة هائلة قادمة باتجاه الحصاة البيضاء.
لم تحد بأنملة عن الشاحنة فدعسها الإطار الأمامي وأودعها في ثنايا حافته الجانبية, كان الإطار يدور بسرعة مجنونة لا تقاس بسرعة آلة مزج الاسمنت بأي شكل من الأشكال.
ومن فرط التسرع الهائل للإطار المهوس بالدوران حول محوره خُلعت الحصاة البيضاء من مكمنها وقُذفت بقسوة نحو العشب النامي على أكتاف طريق الشاحنة المجنونة.
اصطدمت بشدة بالأرض الصلبة عدة مرات ثم تدحرجت لمسافة قبل أن تفقد زخم سرعتها العاتية وتستقر بهدوء بين الأعشاب الطرية على سطحها المستوي, كان مستقرها الجديد مثاليا, فليس هناك طموح تتمناه أكثر من أجواء مسالمة تنعم بها قبل أن يداهمها العطب.
بهاء صفائها ورقة جوهرها لم تطمعانها يوما بالاسترخاء في إطار ذهبي معلق على جيد فاتنة ما أو أن تحتوى بحلقة فضية تزين أصبعا مترفا, لكن تهون عليها ضربة مطرقة من أن يطأها حذاء متسخ بأقذار الأنجاس.
حنو الأعشاب الندية عليها أشعرها باطمئنان مفتقد, فهي بعد كل تجاربها لم تفقد صفاء لونها ولم تخدش, لكن ينغصها دائما ذكرياتها مع (مقاليع) المشاغبين الذين اجتهدوا في جعلها أداة جارحة أو وسيلة لهو.
تأقلمت الحصاة البيضاء الصغيرة على بيئتها الجديدة من غير جهد كبير, لكن لم يدعها خوفها تنعم بالاستقرار المنشود, فهناك دائما احتمال مرعب يعود بها إلى حيث كانت في جحيم دوامة العجلات والآلات.

د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري