الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفواهٌ وأرانب.. وتسوسُها ذئاب

جلال القصاب

2009 / 4 / 16
كتابات ساخرة


يتذكّر كبارُنا فيلمًا مصريًا يحكي عائلةً فقيرة مكتظّة الأبناء، عنوانه "أفواه وأرانب"، وتعني أفواهاً جائعة تعدادُها السكاني يتكثّر كالأرانب.
توصيفٌ يتّجه العالمُ بوتيرة مقلقةٍ نحوه، ومع هذا، فهذا ليس الهمّ، بل تواجد ذئاب جشعين ليست عديمة التعاطف مع جوع الأرانب فحسب، ولا أنّها تسرق أقواتها أيضاً، بل أنّها تعتاش برفاهيّتها على الأرانب؛ لحماً وفروًا.
السوق العالمية، والسرقات الضخمة، والنهب العام، يعتاش هكذا من: جيوب، ولحوم، وعرق، وشقاء، وموت، الفقراء، لدرجة أنّ شركات الأسهم والبنوك تُكافئ مجالسَ إداراتها وتنفيذيّيها بحوافز بالملايين، ولو كانت الشركة خاسرة، في تسفّل أخلاقي صلف، وسرقة بوضح النهار.
مؤخّراً، وبعد ثلاثة عشر عاماً، ماتت لكِبَر سنٍّ ببغاءُ بيتنا (المَتُوَّة)، عاشتْ فيها كأحد أفراد العائلة لدرجة يعرفها الزوّار والأصدقاء، والآن كلّما آكلُ شيئًا أتذكّرها، إذْ كنتُ أدّخر وأقتطع لها من كلّ شيء يدخل جوفي: رزّ، خبز، فاكهة، بيض... كانت "المرحومة" ذوّاقةً لكلّ شيء، و"الكاكو" أكبر معشوقاتِها، "حيوانٌ" تتأثّر به النفسُ البشريّة بتماسّ الصحبة، تدمجنا وإيّاه بوحدة تعاطفيّة كونية، فكيف "بإنسان" مِن جنسنا، ألا ينبغي أن يؤلمنا ما يُؤلمه؟! بمعزلٍ عن سوالب هذه "الأخوّة الكونية" مِن مفرّقات وعصبيّات اللون واللغة، والسياسة والاعتقاد!
العلاقات الإنسانية تتعاظم مشاعرُها بالتماسّ والتعايش، نظرتنا للآخر تصبح رحمانيّة حين نمتزج به، فلذلك كلّ أحكام الجور والقطيعة والقسوة على الآخر المختلف، أنتجها أنانيّة العيش والانقطاع في "الكانتونات" والقصور العاجيّة.
يُعدّ صيانةً لماء وجه المحروم، مأسسةُ "الحقوق الشرعية"، وتنظيمُ "المعونات الاجتماعية"، لحسن إدارتها، بيد أنّ ثمّة مشاعر ينبغي أن تُخالجنا لئلا نُصبح "آليّين" نُعطي بالأرقام وبالكبسولات، الغنيُّ بحاجة لأن يتعلّم من الفقير، الواجدُ بحاجة لأن يقرأ مِن وجهِ الفاقد الزهدَ والقناعةَ وعرمَ الفرحِ بالنعمة، ينبغي أن يعايشها عياناً؛ يأكل معهم ويجرّب شظفهم ويرى معاناتهم، ليشكر ربّه على ما أوتي من نعمة، ويُسديها للفاقدين بعطف وحبّ، وأيضاً ليتعلّم شطب مفاهيم الترف السخيفة التي غزت قواميس حياتنا حتى صارت أبجديّاتِها.
كان السابقون مِن "أهل الخير" ينزلون للمعدمين، يُشاركونهم رديء أكلهم، يُساعدونهم بسواعدهم، ويُلقمون جياعهم بأكفّهم، يعيشون عيشهم، ويرون عن كثبٍ مكابدتهم، فإذا خلوا بنعمتهم ليتناولوا غذاءهم تخيّلوا إخوتهم المحرومين الذين جالسوهم، فتنغّصوا، حتى يدْعوا أحدهم يأتي ليُشاركهم موائدهم، رحماؤهم لا يهنئون إلا بحمل طبقٍ آخر لبيت جارهم الأفقر منهم، كانوا يحيَون مشاعرَ الإنسان، واللقمة التي تنزل أجوافهم تدخلها حلالا، ليس إلى جانبها حقّ مضيّع، أو أفواهٌ لببغاء أو لأرانب جائعة تتحلّق حوله "وحسبُك داءً أن تبيت ببطنة.. وحولَك أكبادٌ تحنّ إلى القدّ" (القدّ: جلود مجفّفة وتُعَدّ أردأ الطعام)، وقد لام الإمام عليّ(ع) والياً له حضورَ مآدب (ومؤتمرات) تفتقد تمثيلاً للمحتاجين وآلامهم وقضاياهم (عائلُهم مجفوّ، وغنيُّهم مدعوّ).
قبل شهر كتبتُ متسائلاً: "ماذا لو اصطبحنا على عناوين بجرائدنا: "جلالته أو سموه يتبرّع بخُمْس ثروته لمحتاجيّ شعبه"؟! بعدَها، فرحتُ كغيري حين رأيتُ تباشير خطوات لائقة بالتثمين عنوانُها: "هِبةٌ ملكية بالتبرّع بأرض في سترة تستوعب بناء 6650 وحدة سكنية"، ولحقتها "هبةٌ لأرض أخرى بعسكر تُوفّر 450 وحدة سكنية".. والشعبُ على تلهّف لمن ينزل فيتحسّس حاجاتهم ومعاناتهم، لتستديم الهبات وتُسدّ الحاجات، بكلّ المناطق.
زعماء قمة العشرين الذين ائتمروا لحلّ أزمة العالم، ينقصهم التحسّس التراحمي الذي يتأتّى بمعايشة المحرومين، بدل التعامل الجافّ من فوقية بالأرقام الضخمة، ليحسّوا بفقراء العالم الذي ناهزتْ جياعُه المليار، ويُلغوا التفكير باستعادة مستوى الرفاه والاستهلاك والربحية لبلدانهم وجيوبهم خاصّة، ويتّخذوا الأزمة فرصة لتغيير فلسفتهم وطباعهم، بتحسين نظامهم القيَمي، ومبادئهم السوقية، وتخفيف غلواء الشره وعبادة المال، التي أفضت بهذه الأزمة وستفضي بأفظع منها وبالويلات لو عاضدتها توتّرات اجتماعية وأمنيّة (كما حذّر "بان-كي-مون")، ثمّ تبعتها كوارث الطبيعة -من زلازل وفيضانات وجفاف واختلال أجواء (وهي وشيكة)- دون وجود برامج تكافليّة إنسانية، وقيَم كونية، تقفز على انحطاط مبادئ السوق الرأسمالية وعقليّة مجتمعاته وأفراده.. المهووسة بإشباع الغرائز وأنماط الاستهلاك.

للأسف، تعامل المؤتمِرون مِن داخل النظام العقيم الذي أنتج الفقر العالمي والأزمات بدئا، عبر الاستعمار والاحتلال، وعبر السرقات واستنزاف الموارد، وعبر تكبيل الديون الربويّة للفقراء، وعبر استزراع الدكتاتوريات ودعمها، عبر حياة البذخ والإسراف، والإنفاقات العسكرية الهائلة، وإفشاء الحروب والمجاعات، وعبر تلويث البيئة والمناخ الذي مِن تداعياته الجفاف والفيضانات، كان عليهم توجيه المبالغ لتوفير الضرورات، وتشييد البُنى التحتية، وتطوير الحلول لأمن غذائي ومائي وحضاري، للمجتعات الإنسانية كافّة، تقيها طوارق المستقبل الكارثيّة، بدل الإغداق على البنوك ومرافق الرفاه وإنعاش أسواق الاستهلاك ضدّ كسادها.

غابت المساءلات عن سبب الأزمة التي أكّدت فشل النظام المالي والفلسفة الكامنة وراءه، غابت جذور العلاج حيث كانت جذور المرض واستُعيض بالمسكّنات، لم يخطر لهم تبديل منظومتهم المالية الجشعة لأنسنتها وتعديلها لتُعامل الأقطار الفقيرة وشعوبها "المنهوبة" كإخوةٍ واجبيِّ الوجود، لم ينزلوا بعد لمستوى المحرومين يتحسّسونهم فيكونوا لهم آباءً وإخوةً، المشاعرُ والعقلياتُ التي سلّعت الشعوب واستضعفتها فجعلتها أفواهاً وأرانب مسلوخة.. ما زالت بعدُ منسلخةً عن إنسانيّتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر