الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بقعة دم ( قصة قصيرة )

أحمد ابراهيم السعد

2009 / 4 / 19
الادب والفن



عندما ترن نغمة الرسائل الواردة عبر نقالي وحتى تنتهي اشعر وكأن ثمة هنود حمر يدومون حولي برماح مهددة بالطعن . في مساء متأخر من يوم الأحد دغدغ رنين رسالة جسد نومي الذي من عادته التفضل علي بأحلام مبعثرة ، وبعيد يقظتي بساعة تقريبا فتحت الرسالة :( خالي العزيز.. مساء الخير .. غداً سيقيم قسمنا رحلة جامعية في متنزه الأندلس يسعدني وجودك )
أكثر من عشرة سنوات خلت على التحاقي بآخر سفرة جامعية ،وكلما حاولت إغماض عيني بغية استذكار أصدقاء السفرة تنط أجسادهم بوجوه ممحوة ، كذلك الذاكرة رفضت بعناد بدوي أن تجري أسمائهم على لساني ، ولا من فرصة أمامي لاستحضارهم كما هم بعد حريق الصور الذي شبته خطيبتي قبل أن تكون زوجتي في ذكرياتي المحنطة في البوم الصور . حدث أكثر من مرة أن التفت في الطريق إلى شخص يلهوج صائحا باسمي، فألمح يده الملوحة من نافذة سيارة مارقة..أقول وكأني امني النفس بعودة حياة الذاكرة : انه احد زملاء الجامعة ، لكن سرعان ما استدرك رضا التكهن بوجوه أصدقاء الخدمة العسكرية – لماذا لا نسميهم زملاء العسكرية ؟ - لم اسمع مرة إن قال احد مثلا: كان لي زميل في الجيش... ما معنى أن نكون أصدقاء في المعسكر وزملاء في الجامعة ؟ لم أقرر قبول الدعوة لكني استيقظت في ساعة مبكرة من صباح الاثنين ،وقبل أن أدخل الحمام فتحت الرسالة كأني أتأكد بأنها حقيقة . عند جلوسي في المرحاض انتبهت لصرصار يجاهد بأقدام رفيعة محنة الانزلاق والسقوط في الثقب ، تصورتني أشبهه ، تخيلته أنا ، ورغم ذلك أطلقت العنان لبولة موجهة أنهكت قواه و قبل أن يتداعى في الثقب المظلم قررت ألذهاب إلى السفرة .

***********

الشرطي الواقف عند باب المتنزه قلب هويتي كسلعة رخيصة ، وتصورته سيسأل: بكم تبيع ؟
لكنه قال : من دعاك ؟
جرو أبلق يهز ذيله وهو يشمم حذائي .. خطر لي أن ارمي له لفافة الخبز والبيض المسلوق – ثلاثة بيضات وخيارتين- لم أعلم زوجتي بذهابي إلى السفرة ، لأني تخيلت اندهاش وجهها الجامع بين الغضب والاحتقار ، كذالك سأسمع صوتها وهي تقول : بطران
كان لهذه الكلمة قيمة، وأردت أن أرد بها على تساؤل الشرطي .. الجرو المسكين هرول يوص أثر ركلة الشرطي ..
عاد ليسأل : لم تقل لي من دعاك ؟
من جاء بتلك الفتاة التي تشبه السعادة لتجيب عوضاً عني ؟ وهل لحرجي رائحة تتحسسها النفوس الطيبة فتسارع لإنقاذي .. كما أني قررت أن لا أرويها لأحد مغبة تكذيبي .. وها أنا أرويها الآن فليصدق من يصدق .. )أنا من دعاه( .. قالتها بحزم بناتي بوجه الشرطي الساهم بجمالها . خجلت من صورة وجهي المتبسم في هويتي التي انتقلت باسترخاء مطيع إلى يد منقذتي المجهولة . عندما دخلنا كنت أسير خلفها ، بدت لي كأنها مثالية الطول ، وكأني قزم ذليل ، ولحظة أن قالت بنبرة يشوبها الحذر من غير أن تلتفت بأن أستمر بالسير خلفها تملكني طيش ارعن إلى ركلها من الخلف ، وبدأت أكرهها بصدق ،أكرهها ونفسي في آن واحد . كان عدد كبير من الشباب والشابات بملابس ملونة ، يتصايحون بمرح صبياني ،ويتضاحكون لأتفه الكلمات ، أحدهم جلب جهاز تسجيل كبير الحجم ألتف حوله عدد من زملائه أو لنقل أصدقاءه وكأنهم كانوا يعالجون خلل فيه ، وما هي ألا لحظات حتى انبثق صوت الموسيقى في أرجاء المكان ، ثمة حلقة من الفتيات المحجبات بدأن الغناء بملامح وجوههن المحقونة بأنغام محبوسة ،فيما سيقانهن المطوية على أرض المتنزه شبه المعشوشب تهتز برقصة يحلو لي أن أسميها ( رقصة المشلول) .
لماذا كل هذا الوقت وأنا لم أنتبه إلى شعرها الرملي المنسدل بطوله حتى بقعة الدم المتمردة بخثرتها على صفار كنزتها ؟.. آه لو طال الشعر لاكتفيت بشكرانها وأكل لفافة الخبز والبيض والخيار ومغادرة المكان بأسرع ما يمكن . كم كانت حركة مسرحية رشيقة حين التفت لي بكامل جسمها وقالت وأطراف أصابعها تلامس درابزين نافورة ناشفة : إلى هنا انتهت مهمتي ، وفي المرة القادمة أطلب ممن دعاك أن ينتظرك عند الباب.
- مهمتي بدأت الآن ، قلت .
- ماذا ؟
وريد أنتفض من بياض جلد رقبتها، نازلاً باخضراره حتى سلسلة القلادة المثقلة بصليب فضي. تصورتها ستقول : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا ،و تخيلتني تلك الروح التي هبطت، وجرى على لساني أن أقول لكني لم أنطق به : قال كذالك قال ربك هو علي هين أنه أمراً مقضيا .
- أنت مسيحية ؟
- شبكت أصابعها وقالت :عليك أن تقول شكرا عوضا عن هذا السؤال.
- شكرا
- أسمح لي بالمغادرة ؟
- كلا
- هل أنت مجنون ؟
- نصف عاقل
- لا تجعلني اندم على فعلتي معك
رن جهاز نقالها – كان داخل حقيبة دائرية كبيرة الحجم من قماش كاكي تحتوي على جيوب كثيرة كبيرة وصغيرة ، جانبية وأمامية ، حتى يبادر للذهن بأنها في الأصل قميص عسكري . لم تبارح المكان ، إنما أدارت لي ظهرها وبدأت ترطن بلغة أضنها ارمنية ، وبدت يدها متعبة من حمل الحقيبة المنتفخة على ما اظن بحاجيات الرحلة ، فتارة ترفعها من حمالتها المبرومة كجديلة عجوز وتارة أخرى تنزلها الأرض ، فيما اتخذت بقعة الدم شكلا آخر مع خطواتها المتذبذبة في بقعة مكان تتمايل فيه وتنظر إلى حذائها الرياضي الأبيض ، كانت بوضع من يجرب ارتداء حذاء جديد ، فيما إنا بحال من أمر بنقل جثة إلى أهلها . خطر لي بأنها الفرصة المناسبة لأعود بأدراجي من حيث أتيت، وأن بقعة دم في دبر فتاة لا أعرفها لا تساوي في حياتي المضغوطة في الحروب ثقب رصاصة في جبين صديق. حرصت أن لا اصدر صوتا عند تقهقري إلى الخلف ومن ثم الهروب ، نعم ، كان خياري الهروب ، أردت أن أتنفس هواء حريتي .. بقعة الحيض قيدت تفكيري بمسؤوليتها الحمراء .. قلت بصوت خرج من فضاء حلقي : سأهرب .
لقد هربت، رأيت أقدامي تتحرك، وحذائي يصدر صوت فراري المرتبك على بلاط شاخت ألوانه ، لكن، وكأن رصاصة أصابتني من الخلف كان صوتها : أنت ، توقف !
هل أواصل العدو أم أسقط صريع ندائها الذي شعرته استغاثة ؟ كنت أعرف خياري لذا عدت من حيث تركتها . سرت نحوها بخطى عجولة وفي رأسي فكرة الاعتذار، لكن حين وقفت أمامها ، قلت : كنت أهرب .
- ضحكت وتساءلت باندهاش : إلى أين .. ومن من ؟
- من بقعة الدم
تحركت ملامحها بتعبير الشفقة . انتظرتها تنطق بأية كلمة ، لكن فضاء عينيها نطق بموجة دمع .. لم أظنني مخادع لهذا الحد حين هتف عقلي بلعب دور سريالي بوصفي كائن الحرب المصدوم .
حافظت على أبقاء عينيها مفتوحتين حتى لا تنسكب الموجة دموعاٍ وتساءلت: لماذا تهرب من بقع الدم ؟؟
- لأنها تبدو أكثر بشاعة عندما يدورها الفراغ .. كأنها بصقة قهر .
- هل تراها داخل رأسك أم رأيتها فعلا فهربت ؟
عينيها التي نشفت من موجة الدموع أوحت لي بأني أعيش داخل حلم
وأن لا سلطة لي على لساني.
قلت : أتجيبينني على سؤالي
قالت بطريقة أم تتحدث مع ابن صغير مدلل : أساءل وستجد الجواب.
- لو قدر وعلمت انك تسيرين وعلى ثيابك الخلفية بقعة دم .. كيف ستسير الأمور معك ؟
- سأركض هاربة
- ربما سيكون أسهل أن تجلسي على أقرب مقعد
- أنه حل مؤقت وليس نهاية المشكلة .
- ما رأيك بمن يأتي ليسير خلفك لغرض أخفاء البقعة حتى أقرب تكسي .
- تقصد رجل !!
- أنه الخيار الوحيد .. أعني مشاهد واحد خير من عدة مشاهدين .
هزت رأسها كأنها تريد طرد فكرة شريرة ثم قالت بنبرة من أثقلته الهموم : جعلتني أشعر حقاً بأن ثمة بقعة دم في ثيابي الخلفية .
- لم لا نجلس على المسطبة الخشبية هناك .. الطلاب بدءوا يتوافدون نحونا ؟؟ قلت
- ما المشين في هذا ؟ قالت
- لنجلس أولاً ، قلت
- كلا علي أن أذهب
لم أكن قد حزرت أن ماذا أفعل لو أصرت على مغادرتي ببقعة دمها ؟ تذكرت فلماًً لعادل أمام يحاول في إحدى مشاهده أستأ خار البطلة بتمثيل دور مريض نفسي .
- ما لذي يضحكك ؟ قالت
- عادل أمام
- وأنت لماذا تضحكين ؟
- أنت
بدأنا نضحك ..نضحك .. نضحك ... ننظر لبعضنا ونضحك .. جلسنا على المسطبة ونضحك .. نزلت دموعنا من الضحك .. ووعينا إلى الجرو الصغير وهو يحرك بوزه الأبيض وذنبه الأسود ويتنطط في مكانه مع الضحك والرقص والموسيقى الضاجة في فناء المتنزه .. فارتفع ضحكنا عليه .. سألتها وقد كرهت نبرة صوتي المشروخة من فرط ما ضحكت.. هل أصل حقيبتها قميص عسكري ؟ وما أن سمعت السؤال حتى أمسكت بطنها وكادت تتقيأ من الضحك .. أصبح وجهها وردياً كلون المناديل الورقية المبتلة بدموعها .. لا أعرف لم بكيت أنا. كانت فرصة لأن تغيب حقيقة الدموع .. بدأت أنحب وهي تضحك ضحكاً.. بعدها لا أعرف ما جرى .. لكن أتذكر على نحو كأنه الوهم أن الموسيقى توقفت ليحل محلها الصراخ .. والضحك توقف ليحل بداله اللغط المفجوع بالشتائم .. كانت على ما أذكر شتائم غير متبادلة ، و يتخللها صوت يكرر كلمة (يا كفرة ) ، قالها أكثر من مرة قبل أن أفقد الوعي أثر ضربة قوية على رأسي ، لأصحو بعدها على منظر رفيقتي المسيحية وهي مسجاة على وجهها قرب مسطبة جلوسنا وقد امتلاءات ثيابها دماٍ عبيطاٍ غيب بحمرته المتخثرة بقعة الدم .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا


.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا




.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو


.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا




.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر