الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة من الأدب النرويجي الحديث الجماجم

علي سالم

2009 / 4 / 24
الادب والفن


الجماجم
بقلم الكاتب النرويجي
INGVAR AMBJØRSEN
انگفار آمبيورسن
ترجمة علي سالم
نبذة عن الكاتب :
ولد الكاتب الذي يُعد أحد أكثر الكتاب شعبية في الأدب النرويجي في خمسينيات القرن الماضي . وتتميز كتبة بأوصاف واقعية ذات مرجعية عالية فيما يخص الجانب الأكثر بشاعة من العالم . أبطالة على الدوام غرباء ولامنتمون ، ويقدمهم لنا باستبطان يحمل في طياتة الكثير من التعاطف والدفء . منذ ذياع صيتة ككاتب ، نشر آمبيورسن ستة عشر رواية وثلاث مجاميع قصصية وعدة كتب للأطفال والبالغين الشباب . حقق شهرتة في كتابة
HVITE NIGGERE
القمامة البيضاء . رشحت أحد الافلام المستوحاة عن احد رواياتة لنيل جائزة الاوسكار عام 2001 . نال عدة جوائز أدبية منها جائزة
BRAGE PRIZE
الجماجم
في يوم ما ، قبل عدة أصياف ، كان على وشك ان يهشم رأسها على لوحة أجهزة قياس السيارة . كانا منحشران في طابور سيارات خارج مدينة تولوز تماماً . وكان الهواء يتماوج كالسراب في الجو القائظ ، وكانا قد أنزلا جميع النوافذ ؛ وكانت هي تجلس في السيارة ممسكة بالمقود بيد وفي الأخرى سيجارة . كانت تشعر بالضيق ونفاذ الصبر ؛ لأنة كان مايزال يعتقد بأن لديهما متسع من الوقت . فضلاً عن ذلك ، كان يعتقد بأن الإستعجال لن يوصلهما الى الفندق باسرع من الوقت المطلوب . لذلك ، وضع يدة على كتفيها وشرع يداعب بأناملة عنقها ، لكي يهدئها وليتجنب الكلام ، لأنة حدس بأن الكلمات قد تكون خطرة ، خصوصاً في هذة اللحظة . ظل يداعبها هكذا حتى تراخت وسقط راسها على يدة مثل صخرة كبيرة دافئة . وأبتسمت مدركة أنة كان يفهمها مثل ماتفهمة .
لكنة لم يكن يفهم نفسة . وقد أدهشة تماماً حجم الدافع الذي كان يدعوة بقوة الى أزاحة راسها بعيداً عنة . ورأى في لمحة خاطفة جميع الدماء أمام ناظرية ، ونظرة الاستنكار في عينيها ، وسمعها تصرخ . فسحب يدة . وشاهد ذلك الغشاء الشفاف الذي يفصل بين كل شيء وبين العدم . وقد خلفت هذة التجربة في نفسة أثراً ، أي أثر لم يكن يدري .
تمدد على سريرة ، وراح يدخن . كان باب الحمام مفتوحاً جزئياً ، وكان يراها تقف أمام المرآة ، تضع أحمر الشفاه . أحمر شفاة وردي شاحب كان يجعلة يفكر دائماً بفترة الستينات ، بالشقراوات ذوات التسريحات الشبيهة ببيوت النحل والبدلات المقصبة عديمة الياقات ، عديمة اللون .
وضعت أصبع أحمر الشفاة في حقيبتها وزمت شفتيها أمام المرآة وقالت " هل انتهيت ؟ "
نعم لقد انتهى . غرفة الفطور كانت خالية تقريباً . وكانت الساعة العاشرة الا عشرة دقائق وكانا آخر الناس . بيضة مقلية واحدة كانت تطفو على بركة من شحم الخنزير في صحن أبيض ، والعصير كان دافئاً والقهوة التي أُعدت في جهاز تقطير القهوة غير صالحة للشرب ، لكنة شربها على أي حال وهويراقب بامتعاض وتقزز حركات يدها وهي تقطع بالسكين مح البيضة الذي ساح وأختلط بشحم الخنزير . وراقبها وهي تغمس كل شيء بقطعة من الخبز وتضعها كلها بين شفتيها الورديتين . وأنتابتة رعدة وهو يرى لسانها يتحرك يميناً لجمع فتات الخبز من الجهة اليمنى لفمها .
قالت وهي تمضغ " حاول أن تضع شيئاً في معدتك " . وبدأت السكين والشوكة الآن تعالجان شريحة الخنزير .
رخوة ، مغطاة بالشحم ، ومملحة جيداً .
أشعل سيجارة جديدة ، السيجارة الثالثة ، وقال " لاتفتحي هذا الموضوع ثانية . سآكل عندما أستلم ايعازاً من معدتي بذلك . انها ترسل لي الآن تحذيراً شديداً بعدم الأكل "
ألقى برأسة الى الخلف وقال " علاقتي بمعدتي اليوم لاتبدو على مايرام . لكني لو لم أتمكن من وضع شيء في جوفي ... يألهي ماذا كانت مشروبات الأمس تحتوي ؟ "
" ويسكي وثلج في كأسي . واعتقد ان كاسك كان خليطاً من مشروبات عدة "
كانت ليلة أمس متشحة بغلالة من اللاواقعية . لقد استغرق السفر من جنوب أسكتلندا الى شمالها اسبوعاً كاملاً تقريباً ، بعدها ركبا العبارة من تورسو الى جزر أوركني ووصلا الى كيركوول بعد الظهر مبكرين ، و تناولا سمك القد المسلوق والاسقلوب في مطعم سمك صغير وارادا تمضية الليل في بار الفندق . كانا قد شارفا على نهاية رحلتهما ، وهي جزيرة خضراء وسط البحر شمال أسكتاندا ، كانت مرتعأ لقبائل البكت والنبلاء النرويجيين . كانا يشعران بالإرهاق .
وعلما في نفس يوم وصولهما الجزيرة ، بأن السكان ، أو ربما مدير الفندق العديم الخيال ، قد قرروا مسبقاً تنظيم " ليلة بيرمودا " داخل الحانة . وتدفق عشرات من شباب كيركوول بقمصان هاواي وسراويل قصيرة من بيرمودا . من قلب الريح العاصفة والمطر قدموا الى الحانة ، المليئة بالسياح الذين كانوا يحتسون الجعة باطمئنان ، غير قادرين على تصديق ماتراة عيونهم . وأتخمها شاب مخمور بدمل بحجم بيضة طائر الدُّجّ على واحد من خدية بشراب بحري أخضر ، ثم أبتدأ السباق . واستيقظا من نومة ناما فيها مائلين على سرير مزدوج ؛ وقد نسيت خلع جواربها الطويلة .
قالت وهي تدفع بالصحن جانباً " يعيش الناس هنا منذ خمسة آلاف عام ، هل تعرف ذلك ؟ " وتناولت واحدة من سجائرة " ياآلهي ، ألم يكن ذلك عندما شرع المصريون ببناء الأهرام الكبرى"
قال " لا أتذكر "
قالت " مدافن ، الجزيرة كلها مدافن . هلا ناولتني القهوة ، رجاءاً ؟ "
وصلا الى العزبة في حوالي الثانية عشرة . بيت ريفي ، بناءة المشيد بالطوب متداع جداً ، مرآب مزدوج ، ومرحاض خارجي . في الباحة ثمة دجاجة وحيدة تبحث بمنقارها الاصفر عن شيء بين الحصى الناعم ، شاهدا ظلال أشخاص تتحرك خلف النوافذ عندما أوقفا السيارة في المدخل .
أنة متحف خاص .
لم تكن لديهما أدنى فكرة عن وجود مثل هذا الشيء قبل أن يلمحا الاشارة على بعد كيلومترين الى الشمال من الجزيرة .
المرأة التي خرجت ووقفت على العتبة كانت طويلة ونحيلة ، وعجفاء تقريباً ، أقرب الى الثمانينات منها الى السبعينات ، عيناها غائرتان بعمق داخل وجهها ، لكنهما ماتزالان تنبضان بالحياة . وفكر ، لابد أن لها روحاً غضة : فكرة مبتذلة ، لكن ذلك مافكر فية . وعندما عرضت يدها ، انتابة شعور بأنة كان يعرف شيئاً عن التربة هنا .
مدافن ؟ في هذا المبنى ثمة واحد فقط . لو كان جو هنا لدلنا على الطريق ، حالما ينتهي من غداءة . لم تتناول هي نفسها الغداء ؛ كلا ، لايمكن لهما أن ينتظرا في الخارج حيث الريح العالية .
دخلا فيراندا مسقوفة تمتد على طول المبنى . وعلى الجدار وتحت صف من النوافذ كان ثمة أطر زجاجية . واشارت بسبابتها المعقوفة الى النصال ، والفؤوس الحجرية ، والجماجم ، وبقايا العظام . وتحدثت عن عمر كامل من الحفر في " الحديقة " .
ثم هاهو يرى بأن ما كان يتوق الى فعلة سراً على الدوام كلما زار متحفاً يحدث فعلاً الآن . رفعت السيدة العجوز غطاء أحد ى العارضات الزجاجية ، والتفتت قائلة " من واقع تجربتي استطيع القول بأن لاأحد يمكن لة أن يفهم التاريخ دون لمسة . أنة مثل ... الموت " . وأبتسمت مثل فتاة صغيرة ، فتاة صغيرة نالت على غير توقع هدية ثمينة . بعد لحظة وجدا نفسيهما يقفان هناك ، وكل يحمل بيدة جمجمة .
قالت وهي تمرر بحذر اصبعاً فوق السطح الاصفر الداكن المستقر بين كفيها " أسميتهما لوسي وجون " .
" انهما جميلان . أعتقد بأنهما جميلان . يبلغ عمرهما أكثر من اربعة آلاف عام . الكراهية . الحب . السعادة . الحزن . ماتحملان الآن في يديكما هو كل ماتركاة خلفهما " .
راز الجمجمة بيدة . لم يكن بها ثقل يُذكر . وعندما رفعها نحو الشمس ونظر من ثقوب عينيها لمح النور الأصفر يتخلل الغشاء العظمي الرقيق . كانت الأسنان بيضاء وقوية ، لم يصبها البلى . سن واحد منها فقط كانت مفقودة ، أحد الأنياب .
تُرى ماأسمك الحقيقي ياجون ؟ واي أحلام وردية كانت تدور داخل جمجمتك الهشة هذة ؟
من وراء خواطرة ، كان يأتية صوت العجوز وهي تتحدث عن الناس الذين قطنوا هنا فوق الصخور الأبعد المواجهة للبحر . كانت تسميهم " ناس مخلب النسر " لأن مدافنهم كانت تحتوي على مخالب للنسور . لقد كان مجتمعاً هرمياً : شخص واحد كان مدفوناً مع ثلاث مخالب ، وآخر مع ثمانية . وفي قبر رجل آخر وجدوا أثنتي عشر مخلباً . وحسبوا أن أن القبر يخص زعيم القبيلة ، لكنهم وجدوا ثقباً كبيراً في مؤخرة جمجمتة .
" وماذا عن جون هذا ؟"
ضحكت وقالت " عامل . فلاح . حالم . لم نجد مخالباً في قبر جون ، ولا في قبر لوسي أيضاَ "
وضع الجمجمة في مكانها بحرص ، شاعراً في الوقت نفسة بمهابة عجيبة ، والقى بنظرة خاطفة الى المرأة التي تشاركة حياتة وشاهد انها كانت تشعر بنفس الرهبة . أخذ يمسد جبهة لوسي بلطف كما لوكان يواسي طفلاً من الماضي أو اختاً لو شئنا المزيد من الدقة . أسنان هذة الجمجمة كانت قوية وبيضاء ، ايضاً ، أسنان كاملة . لكن بضعة اسنان كانت محكوكة الى نصف حجمها الطبيعي تقريباً ؛ شاهد زوجة الصياد تجلس بجانب النار ، تمضغ جلداً لتجعلة أكثر نعومة . أنها عملية متواصلة ، مثل عملية الهضم ، أو الرضاعة ، أو النشاط العقلي المتواصل .
وضعت السيدة العجوز يدة في يدها وقالت : " أنت أيمني اليد ، اليس كذلك ؟ "
نعم ، هذا صحيح .
أقتربت منة كثيراً حتى تمكن من تمييز رائحتها ، مزيج خفيف من عطر اللافندر وشيء آخر لم يجد لة أسماً غير رائحة أمرأة عجوز . ولاحظ بان جلدها كان مشدوداً كجلد طبل فوق أنفها وجبهتها ، و شريان دموي صغير ينحدر فوق صدغها الايسر ؛ عيناها كانتا مفتوحتان وزرقاوان . ويحيط بها نور يشبة النور الذي تخلل الجمجمة التي أعادها الى مكانها للتو .
" أنظر الى هذا . تظن أنك تنظر الى حجر ، لكن ماتراة في الواقع هو تحفة "
رأى حجراً . رمادياً ، مستطيل الشكل يزن نصف كيلو غرام تقريباً ، غير منتظم الشكل ، مشحوذ وناعم ، بالطريقة التي يشحذ بها البحر الصخور بصخور آخرى . قالت وكأنها على علم بما يدور في رأسة " كلا ، ليس البحر من فعل ذلك ؛ أنة أحد أسلافك الغابرين "
وضعت الحجر بيدة وطفر قلبة عندما أطبقت يدة علية . كان وزن الحجر الرمادي المستقر في يدة مثالياً ؛ واصبح جزءاً من يدة ، أمتداداً لها : سلاح قاتل .
هزت رأسها : نعم سلاح .
لم يستطع تركة . لقد جعلة يفكر بجدة عندما كان ممدداً على فراش الموت . اثنان وتسعون عاماً ، عصفور عار من الريش تقريباً ، يدا عامل كبيرتان تحولتا الى مخالب بلا لون . لقد طلب منة الرجل العجوز أن يجلب لة الطائرة . الطائرة الطويلة ، وظن أن العجوز قد خرف قبل الشروع برحلتة الاخيرة ، لكنة نفذ ماطُلب منة . وجلس جدة العجوز في السرير ووضع الطائرة الطويلة التي كان جدة من قبل قد صنعها لة قبل أن يموت فوق غطاء اللحاف الأبيض . وأمسك بالمقبض ، دون قوة كبيرة ، في الواقع ، لكنة أمسك بالمقبض . وكانت يداة فوق أكثر أجزاء الخشب سواداً ، ذلك الجزء الذي لوثة عرق جيلين من الراحلين .
قال جدة " لم تعد ملائمة . لقد تجاوزتني الطائرة عمراً " .
لكن الحجر كان ملائماً . أنة يلائم يد رجل بالغ ، اليوم ، وقبل أربعة آلاف عام . أعترتة رعدة ، لقد تأثر كثيراً ، وشعر بالدموع تسقط كخمار أمام عينية . وفكر بماقالتة السيدة العجوز عن عدم فهم أحد للتاريخ دون القيام بملامستة . لقد كان ذلك لقاءاً مع شخصاً كان ينشد الكمال في زمن سبق كل شيء .
لم يقل جو الكثير . فتح ذراعية عندما شاهدهم مقبلين نحوة ، لكنة لم يكن يهمة من أي مكان جاءوا أو من يكونون . رجل يشبة جذع شجرة مقطوع ، رغم خفتة بالمسير على الأرض .
أراهما المستوطنة . دائرة من الصخور نابتة في الأرض المخضلة بالماء .
" لم تكن كذلك في الايام الخوالي . لقد كانت أرضاً غابية . دافئة . وقد وُجدت فيها آثار أربعة أنواع من الشوفان تحت أكوام النفايات " .
وأخرج حقيبة جلدية فيها ست بطاريات . وقال ان عليهما أن يتذكرا تغيير البطاريات في المصباح اليدوي ، وأرتداء واقيات للركب عندما يدخلان . واشار الى الطريق المؤدي الى المنحدرات والبحر . المسألة في غاية البساطة .
ثم عادا من نفس الطريق التي جاءا منها ، ووجدا المدفن ، وهو ربوة مغطاة بالعشب ، لاتبعد سوى ثلاثين متراً عن حافة المنحدرات السوداء . وفي الأسفل كان البحر الأخضر يرتطم بالصخور ، وينثر الزبد الأبيض ؛ ومن عل كانا ينظران الى طيور البحر .
صخور على صخور حتى غطاء التربة ، ترتفع مسافة متر ونصف من القاع ، وتشكل أحدى نهايات المدفن الذي يواجههم . مدخلة كان ثقباً دائرياً .
أخرجا الحقيبة وواقيات الركب والمصباح ، وعثرا على جواب للسؤال الذي لم يطرحة أي منهما . وكان عليهما الزحف كل على أطرافة الأربعة احتراماً للموتى . الممر الرطب الذي يقود الى قلب الربوة كان بالكاد يبلغ متراً واحداً أرتفاعاً ومثل ذلك عرضاً .
غيّر بطاريات المصباح وقال " سأدخل أنا أولاً " .
نظرت الية بريبة " لاأدري ان كنت فعلاً تريد ذلك . لاباس ، حسناً ، ادخل أنت أولاً "
كان الممر ضيقاً . اضيق مما تخيلا . وكان يتصبب عرقاً ؛ وكانت قطرات من الماء تسقط فوق وجهة من السقف . قطرات ماء باردة . وتذكر طريقة التعذيب بالماء ، حيث تنزل قطرات الماء بانتظام على رأسك ، ساعة بعد ساعة ، يوم بعد يوم ، حتى تبدأ تشعر بأن كل قطرة ماء ماهي الا مطرقة ثقيلة .
بعد العاشرة ، وبعد مسافة اثني عشر متراً ، وصل الى غرفة المدفن الرئيسية . سقفها كان عالياً بحيث يمكن للمرء أن يقف تحتة شبة منتصب . فوقف بهذة الطريقة ، وشعر بظهرة يتقوس خمسين درجة فعاد الى السير على أطرافة الأربعة ثانية . صخور ، صخور ، طبقات فوق طبقات من الصخور . السقف كان مصبوباً من الكونكريت ، وقد ضايقة ذلك لأنة يفسد منظر الأزمنة الغابرة .
القبور كانت عبارة عن كوى مستطيلة داخل طبقات من الصخور محمية بالزجاج ضد لصوص اللُقى الأثرية . جماجم ، اكوام صغيرة من الجماجم الصفراء الداكنة . وعظام . عظام سيقان ، أفخاذ ، أرداف ، فقرات ، فكوك وأسنان . قبيلة صغيرة تنام بأكملها هنا .
أي طقوس للموتى أُجريت هنا ؟ وبدا أنة تذكر شيئاً كان قد قرأة عن قبائل البكت ، وكيف كانوا يتركون موتاهم في العراء لتلهم لحمهم الطيور الجارحة والغربان ، وكيف كانوا يعودون لجمع العظام ، ويلتقطونها بعد أن تكون قد تنظفت مما بها ، وتكديسها لاحقاً في مكان آخر . يالة من طقس رائع . هاهو الصياد يعيد لفريستة ماأستلبة منها .
نظر الى الجماجم ، وتحسس جبهتة باناملة وتأمل الفراغ المحيط بة . الجدران حجرية . الجمجمة . الغشاء العظمي الكامن تحت الجلد ـ مادة الدماغ الرقيقة . في الداخل ، في الداخل ، داخل الغرفة ، داخل الدماغ . في الخارج ، الآخرون ، آخرانية الآخرين ، الصور المتبدلة .
أخذ المكان ينكمش ، وراحت الجدران تقترب ، وتعيد تشكيل ردود أفعالة بالطريقة التي تؤدي بها لطمة على الرأس الى تغيير الأفكار والوعي وطريقة ادراك العالمين الداخلي والخارجي .
علية مغادرة هذا المكان . حتى هذة اللحظة من حياتة كان يمتلك موقفاً نظرياً بخصوص فكرة رهاب المناطق المغلقة ؛ والآن يجد نفسة مغموراً في طيات تجربة جديدة . كان يشعر بالفزع ، وبصعوبة في التنفس ، وشعورة بالغثيان كان طاغياً ، لم يكن قد تناول شيئاً من الطعام طوال اليوم ، ولم يكن في جوفة شيء يتقيأة . وبقلب يخفق سريعاً بين ظلوعة ، ونبضات عنيفة في صدغية ، اخذ يزحف عائداً من حيث أتى . ثمة شيء لم يكن على مايُرام ، اذ يُفترض بة أن يشاهد النور الآن ، والعشب والسماء ، لكن المكان كان مظلماً ، وكان ثمة شيء يزحف نحوة . لقد كانت هي التي تزحف . صاح طالباً منها أن تعود أدراجها . أفزعتها رنة الذعر والغضب في صوتة ، فصرخت بانها لاتستطيع . وترجم كلمة لاأستطيع بلا أريد ، رغم انها لم تحمل نداءة على محمل الجد . المجال الضيق ضيق الخناق علية ، وشعر بنفسة يختنق ، وبدأ يهز رأسة يميناً ويساراً ، داخل الجدران الحجرية ، وبدأ الجلد تحت بصيلات شعرة يتمزق ، واحس بالدماء تتدفق ، ساخنة ، ولزجة الملمس ، وفقد المصباح ، وصفعتة حزمة الأشعة على وجهة ، وشرعت هي تبتهل لالة لم يكن لديها وقت لتذكرة من قبل ، وصرخ طالباً منها بأسم نفس ذلك الالة بأن تكف عن عن الصراخ ، طبلتي أذنية ... تقدمت منة حثيثاً ، وضعت يدها فوق يدة وهمست بكلمات لم تطرق أسماعة منذ عشر سنين . وجهها كان قرباً من وجهة . وطرق رأسة بالجدار ثانية . هزت وجهة بكلتا يديها وشرعت تبكي . نطحها برأسة في منتصف وجهها بكل ماأوتي من قوة ، وسمع أنفها يتهشم وأمتلأت يداة بدمها عندما مدّهما ليمنهعا من السقوط .
فيما بعد ، بعد وقت طويل ، قالت " لن أنسى ماقالتة السيدة العجوز حول عدم فهم المرء للتاريخ دون ملامستة . لاأدري لماذا ، لكن كلماتها تجذرت في ذهني " .
كانا قد فرغا للتو من غسل الصحون معاً ، فمسّد قماشة تجفيف الأقداح وعلقها فوق الموقد لتجف ، وذهب الى الحمام ووقف هناك يحدق بصورتة في المرآة . كانت حافة شعرة قد تراجعت الى الوراء أكثر من ذي قبل ، وراحت عيناة تغوصان أعمق واعمق داخل نفسة . أراح جبهتة على الزجاج البارد ولمدة لحظة راجفة غاب عقلة غياباً كاملاً .
ترجمة علي سالم
عن الأنكليزية
من مجموعة
THE NORWEGIAN FEELING FOR REAL
الصادرة عن دار
THE HARVILL PRESS
LONDON
ضمن سلسلة
LEOPARD
القصصية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-