الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيب وساذج وما بينهما ( 4 )

عبدالجليل الكناني

2009 / 4 / 25
الادب والفن


المرحلة الثالثة -1
خلصت من تجربتي السابقة وما تلاها أنني أظل سيئ الظن واقل طيبة مما يرى الآخرون ، والذين في غالبهم يتحينون الفرصة لخداعي كما يفعلون مع غيري ، حتى وان كان ذلك الخداع بلا جدوى ، إنما بدواعي متعة همجية يحركها ما يشبه المرض المتوطن في النفس ، ولعله خزين الألم والإحباط الذي عانى منه العراقيون وخصوصا الشباب الذين تربوا على قيم غابوية يتسيدها الذئاب وتديرها الثعالب ، بالإضافة إلى سيادة نزعة الكسب السهل ، والطمع الذي تغذيه قنوات الترف والموضة والخيال المريض الباذخ .
وحين اقلب تلك الثنائية أرى أنني ربما احد هؤلاء ، فالظن السيئ انما وليد ذلك المرض النفسي ، كما ان السلوك الاستغلالي المخادع ليس سوى وسيلة دفاعية تحت مبدأ ان لم تكن ذئبا .. فهل تراني في واقعي حمل مستذئب ام ذئب تحت جلد حمل ؟ ذلك ما أتمنى أن يطلعني عليه شخص حيادي لا يحمل بين ثنايا روحه ظنا سيئا بالآخرين ، وله من القناعة ما يغنيه عن التطلع ، إلى الخيالات المفرطة ، بنهم .
وحتى الساعة لم يقم ابو صافي ببيع الأبواب ، كما ان السيد الذي ابتعنا منه الحديد ظهر جليا كذبه حين أتى العمال بالحديد البديل الأوكراني وقاموا بنقل الحديد المرفوض . قلت لهم بعد ان نقدتهم الإكرامية :- مع انكم احرقتم دمي ليلة كاملة بجلبكم الحديد الخطا ولكنني لا استطيع ان اتغاضى عن تعبكم . وكان كلامي ذلك لا يخلوا من خبث وسوء ظن ، لمعرفة الحقيقة فاندفع احدهم بعفوية :- لا والله نحن نقلنا ما امرنا به وليس لنا ذنب .
- اذن ليس ذنبكم ؟
فايده الآخرون بحرارة الا أن رجلا يكبرني سنا قال بصوت تثقله الهزيمة :- لا عمي .. لا .. نحن اخطأنا . فقلت له :- لا يهمك حاج .. انتم اخطأتم .
عمليا ليس ذلك بمبرر للشك بحيدر ، ان كان السيد قد خدعنا . ويجب علي ان لا اوغل في الخبث وسوء الطوية . ولكن يبدو ان النفس أمارة بالسوء . . فهرعت للسؤآل عن سعر طن الاسمنت . لأحصل على الإجابة التي تتواءم مع حبكة المسلسلات التركية والتي يقحم كاتبها ، بالأحداث ، بمبالغة مفرطة كي تجعل من البريء الطيب عرضة للشك والاتهام الظالم . هذا ما حصل لحيدر ، لولا انني لم اخضع لحبكة الكاتب واتهم حيدر بقسوة .
فرق كبير ، في سعر طن الاسمنت ، خمسة وثلاثون ألفا ، وذلك المبلغ يضرب بخمسة وعشرين طنا كنت قد طلبت من حيدر جلبها . فسارعت لأطلب منه ايقاف الشراء . ومع انني اتصلت بحيدر من خلال الهاتف النقال إلا أنني اكاد ارى ذهول عينيه . واميز الحيرة فيهما . وحين الح لمعرفة السبب قلت له بأنني قد حصلت عليه بسعر اقل بكثير ، وعلى عكس توقعي أن يكثر من طرح الأسئلة قال باقتضاب :– جيد ، إذن اشتريه .
وحيث أنني الَّّّّّفت في خيالي حوارا مطولا حول الاسمنت ، مع حيدر ، فان اليوم التالي جاءني بسيناريو مختلف . يفتقد لأي حوار او أدنى إيماءة تخصه . لعله لم يكن يعرف بانخفاض الأسعار ، ذلك الانخفاض الكبير . نعم احاول الا اكون سيئا .. ولكن الا يكون لارتفاع اسعار الطابوق دور بانخفاض أسعار الاسمنت ، حين عزف الناس ، مؤقتا ، عن شراءه . سيقول احدهم انك حقا ساذج.. ربما . ولكنني استعدت المبلغ الذي أعطيته لحيدر لشراء الطابوق ، ايضا ، عندما وضعته بين خيارين احدهما صعب ان لم يكن مستحيلا. فالاول هو استعادة المبلغ من صاحبه الذي اتفق معه على شراء الطابوق والثاني هو ان يقوم ذلك الصاحب المفترض ، والذي تأخر كثيرا ، بجلب الطابوق كله غدا . وبإصراري على ان لا يكون هنالك خيار ثالث ، اعاد حيدر مبلغ الطابوق . ويبدو لي ان حيدر الذي لم تنصفه المصادفات بحبكتها الغريبة قد مل ان يكون في موقع الشك لذا وجدت سلاسة وليونة في استجابته لقراراتي الأخيرة . فاشتريت ، بوسيط آخر ،خمسة وعشرين طنا من الاسمنت بالسعر الجديد ، وبنفسي ، عددا من ( دبلات ) الطابوق بأسعار مختلفة ولكنها اقل مما اتفقنا عليه مع صاحب حيدر . بدا لي ان سوء الحظ الذي رافق حيدر قد تزامن مع حظ حسن لي ، بان نفذت من الفخاخ الثلاثة ، الحديد والاسمنت والطابوق . مع أنني قد وقعت في فخاخ لاحقة اقل وطئا .
الرجل الذي لم اشك به ، إطلاقا ، هو صادق البناء الذي قام ببناء البتلو والذي أثرت في نفسي أمانته وإخلاصه فأوكلت له مهمة البناء بالكامل ، حينها جلس ابو علي ، القرفصاء ، واتكأ على الجدار المجاور وصمت طويلا مستطلعا الموقع متأملا خريطة البناء التي تجلت على الأرض بين ثنايا التراب . بدا لي ان تأمله لن ينتهي مما زعزع صبري الذي كاد ينفذ لولا ان قال : - الطابق الأول والثاني والجدران الخارجية والستارة وكل شيء بخمسة ملايين كل شيء انا اتكفل به نقل الطابوق والاسمنت والرمل وجلب ( الدراريب ) وكل شيء وحين لمس موافقتي الفورية ، بل امتناني البادي ، في كلماتي القليلة قال : - انا حسبت كل شيء باقل كلفة ممكنة ، لا اريد ان يقول أحد بان صادق قد استغلك .
- شكرا ابا علي انك حقا منصف . وقد اخترت كلمة منصف كي لا يضن بأنني قد وضعت في مخيلتي مبلغا اكبر من ذلك . وكان ذلك تقديرا موفقا مني للرجل الذي طلبت خدماته ولكن سوء التقدير لم يكن قد تخلى عني أو انني قد صرت اهلا لتفاديه بل انني قد خضت سلسلة من التجارب غير الموفقة ومنها وضع أطنان الحديد والاسمنت وبعض الطابوق في القطعة المجاورة والتي تعود لامرأة أرملة وأطفالها القاصرين . تلك المرأة التي جاءت لتعرض قطعة الارض للبيع . مما زادني اطمئنانا على عدم اضطراري لنقل المواد في وقت قريب لولا ان جاء من يخاطبني بلهجة رسمية طالبا رفع المواد خلال اليوم او الغد . لم اعرف من يكون الرجل هل هو اخو المرحوم ؟ زوج ثاني ؟ وقد بدا صاحب القرار الأول فقال لي :- ارفع المواد اريد بناء القطعة . ولانني ادرك حقه في ذلك ، وان من اخطأ هو انا ، رحت افتش عن عمال لرفع المواد ، فاتصلت بشاب اسمه محسن كنت قد استعنت به كثيرا في ترميم الكرفان وحين جاء بصحبة آخر ليطالعا حجم المواد . انتدب صاحبه احد الجدران وصالب رجليه وراح ربما يمارس اليوغا – هاه ؟ ماذا ؟
- لا انا لم آتِ للعمل . فقال محسن:- رأى ان العمل متعب .
- ماذا متعب ؟ وانت شاب .. آه ليتني لم اكسر ظهري بالعمل . لكنت الساعة قد انهيت نقل المواد . وتوجهت الى محسن :- وانت ؟
- ساعمل حتى يحضر أخي عصرا
نقل محسن أربعة أطنان من الاسمنت مسافة عشرة أمتار وغادر دون علمي ليتصل بي من البيت :- بكم ننقل الطن الواحد يقول صاحبي؟ .
- كم تريدون انتم ؟ ووضعت في مخيلتي ان المبلغ لن يتجاوز الثلاثة الاف للطن باسوأ الاحوال . صمت محسن لبرهة ثم قال ستة آلاف للطن ؟
- ماذا هل ستنقلونه بواسطة شاحنة ؟
- لا ..
- اذن لماذا ستة الاف ؟؟ العمال ينقلون الطن الواحد الى الشاحنة ومن ثم يرافقونها ليضعوا الاسمنت في المكان الذي يرتأيه رب العمل ، بثلاثة آلاف .
- الأمر يختلف .
- اذن ساضع سيارتي في المنتصف ، خمسة امتار عن الاسمنت ، وخمسة أمتار عن موقعه الجديد فتضعون كيس الاسمنت على السيارة وتجرّون نفسا تم تنقلوه . وهكذا يكون الثلاثة آلاف دينار للطن مبلغا منصفا.
- لا .. الأمر يختلف .
ويبدو ان عرض محسن كان الأفضل ازاء ما فعله بي اربعة من السنافر ، حين ركبت حصان الفرسان وانتشلتهم من الشارع ، عائدين بلا عمل : – لدي لكم عمل ، سترونه ، لا تتعجلوا ، انا واثق من انكم ستنجزونه اليوم .
وقف الاربعة وتأملوا – هذا سمنت كثير !!
عشرون طنا . انظروا تلك اربعة اطنان نقلها عامل واحد خلال ساعة . وانتم اربعة لديكم اليوم ، بطوله ، يمكنكم نقلها ، وكذلك جرّ تلك الاطنان الخمسة من الحديد ، عشرة امتار ، عن مكانها الحالي .
- هذا كثير نريد اخذه مقاولة (قطعي )
- بكم ؟
- مئة وستون الفا
- ماذا ؟؟ اقل من يوم واحد عمل ، وكل واحد منكم يريد اربعين ألفا ؟؟!!
- لا يهمك .. ننقله بيوم واحد او يومين . لا يهمك
- انتم لستم كادحين ، إنكم تعملون بعقلية مقاول ، وانا ، رب العمل ، الكادح الحقيقي . اكملوا عملكم بالاجر اليومي اذن ، ولكن باخلاص ، رجاءا ، وبما يرتضيه ضميركم .
كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة صباحا حين التقيت هولاء ، الصبية المقاولين ، في الشارع العام ، عائدين بلا عمل ، وبعد المفاوضات ، قاربت الساعة التاسعة لمّا شمروا عن سواعدهم استعدادا للعمل ، فالتفت الناطق الرسمي لهم وهو أضألهم حجما :- نحلّ في الواحدة .
- ماذا تبدأون في التاسعة صباحا وتنهون عملكم في الواحدة ظهرا . انا اعرف ان العمال يبدأون في السادسة صباحا وينهون عملهم في الثانية ظهرا .
- في الثانية ، موافقون . ولكننا لم نتناول طعام الإفطار .
ورحت اتابع موقع العمل حيث يعمل صادق البناء ومجموعته بنشاط . وتلك السنافر تتخبط في ضياع ، فارتأيت انهم جائعون ، وتجاذبتني مشاعر متضادة ، ففي حين آلمتني ما آلت اليه احوال هؤلاء الصبية ، الذين ، لاشك ، اقرانهم الآن في مقاعد الدراسة ، اثار حنقي تلك الروح الجشعة التي نمت بين اضلاعهم العجاف . فسارعت لأجلب لهم الطعام... كيلو كباب ، ولكلٍ تفاحة وعلبة عصير . وفي الطريق قال لي ابو سامان وهو ينظر الى كيس الطعام :- حتى الطعام تأتيهم به ، حقا لا يملكون سوى قوة العمل . فقلت له :- بودي لو أكمل بناء البيت ومن ثم أعيد صياغة الأفكار وفق الواقع المرير ، فلعلي اكتشف نظرية جديدة ليست عمالية على الإطلاق .
ولم اجد عمالي الجدد ، ولما فتشت عنهم رأيت واحدا يلوذ في الزاوية البعيدة فوق أكياس الاسمنت ، وآخر في نهاية صف الحديد ينحني ولا يقف ، واثنان قد التفا حول البيت المجاور ، لعله الجوع يا للمساكين !!
وكما رسمت في مخيلتي فانني قد ضربت عصفورين بحجر ، أولهما إرضاء نفسي باطعام هؤلاء البائسين . وثانيهما ، هو ما ستؤول اليه نتيجة كرمي معهم . فقال احدهم – بيك خير وتدلل عمي . وراح يلوك طعامه بنهم. فاستبشرت خيرا . وغادرتهم لتفقد بناتي الصغيرات .
وحين عدت ، في الساعة الثانية عشرة والنصف ، لم اجد سوى واحد منهم ، ذلك الذي يقف فوق الاسمنت ، واختفى الثلاثة ، وثمة ( العربانة ) وقد انكفأت جانبا واعوج حوضها واندلق منها كيس اسمنت . لم ينقلوا من الاسمنت ما يزيد عن طن واحد ( عشرين كيس ) وعدد معدود من قضبان الحديد .
فصحت بحنق :- أين هي نتيجة عملكم وأين أصحابك ؟ فأشار إلى داخل موقع العمل .
اسرعت لافتش عن هؤلاء ، السذج ، والذين يمتلكون روحا مخادعة وليس لديهم دهاء الثعالب ، فوجدت اثنين منهم جالسين يتسامران . - هل لكم ضمير ماذا تفعلون هنا ؟؟
- ننتظر الماء . صاحبنا راح ليجلب لنا الماء .
- اخرجوا من هنا ، هل تعرفون الحرام ؟ . أنا لا أعرفه مثلكم ، الا انني لا استطيع خداع الآخرين . انتم لا تستحقون شيئا ،( الواحد منكم نص عامل بروح مقاول ) . تعالوا خذوا اجوركم .
جرجرت احدهم ذلك الناطق الرسمي والمدافع عن حقوق الطبقة العاملة ، فانصاع الآخرون خلفه ، وعند الكرفان نقدتهم اجرهم بالكامل ، ستون الفا .
- لولا ان أهلكم ينتظرون هلَّتكم ، ظافرين ، لما أعطيتكم شيئا ، انتم مخادعون . ولا تستحقون حتى الطعام الذي أكلتموه .
- قال الناطق :- إذن أبرئنا الذمة .
- عن أي شيء ؟! تقولون إنكم لم تهملوا في عملكم فلِمَ أبرئكم الذمة ، هل هذا يعني انكم أهملتم ، فعلا ، وعن قصد ؟؟!!
- لا .. إنما بقي ربع ساعة .
فضحكت بسخرية ومرارة – يا للضمير !! حسنا ، أبرئكم الذمة عن الربع ساعة ولكني لن أبرئكم الذمة عن عملكم . وغرزت كلماتي في عيني السنفور الناطق - أنت المدافع الرسمي عن حقوق الطبقة العاملة ؟! .
اذن ليرى ، ابو سامان - هذا الذي لا يملك سوى قوة العمل . وهنيئا للحزب الشيوعي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم


.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا




.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور


.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان




.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل