الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان

يوسف ليمود

2009 / 4 / 27
الادب والفن


تكون مربكةٌ أحيانا الكتابة عن إصدارٍ خرج من مطبعةٍ حديثا، بينما تعود كتابته إلى عشر سنين خلت! فعن أي زمن يكون التناول كتابةً: زمن تبلورت النصوص، أم وهي في أيدينا أوراقا بين دفتيّ غلاف! الإرباك مصدره المساحة الزمنية العريضة بين لسان الشاعر وقتذاك ولسانه اليوم، حتى لو لم يطرأ تحوّل في قناعاته خلال رحلته، إذْ هو قد أطلّ علينا هنا وهناك، بشذرات من نتاجاته الآنية التي يمكن من خلالها قراءة بعض من تضاريس جغرافيا لسانِه وآلية عمل هذا الأخير في السنين العشر تلك، من دون رؤية نتوءات مفاجئة أو ثورات أسلوبية. فالشاعر هنا، لأنه يعمل في قلب المعاصر، لا يؤمن بالثورات. يراها تنتمي إلى عالم آخر، إلى الواقع، وليس إلى أرض النص المحروس جيدا بيقظة لسان يتحرى ثقبَه ويحفر في الواقعي، لا في الواقع. وهنا أنقل إحالة الشاعر إلى تعريف جاك لاكان للواقعي أنه "ما يبدأ حين المعنى يتوقف".

"بالصدفة، نثر الفصول" هو الإصدار، منشورات وزارة الثقافة - المغرب، سلسلة الكتاب الأول؛ وصاحبه، احساين بنزبير، شاعر مغربي يعيش في فرنسا. وددت لو لم أضطر لحشر اسم الشاعر، كي أترك في مقالتي ثقبا كنت أطمح له أن يتماهى، بالصدفة، مع منطق كتابته، ومعه هو كشخص في الآن ذاته، ولكن لا مفر من أن آتي على ذكر الاسم، بل وعلى شيء من مزاج الشاعر، فأذكر مثلا أنه يرفض قطعيا فكرة النشر على حسابه لدى الدور الخاصة، ومن هذا نفهم السبب أو السر الأول لتأخره في النشر كل هذه السنين، أما السبب الثاني فهو ليس سرا، حين نفكر في بيروقراطية المؤسسات الرسمية وكيف تتعامل مع الثقافة عموما ومع المبدعين خصوصا، المتفردين بالأخص، النائين بأنفسهم عن معطيات ومحركات المنظر الثقافي في عالمنا العربي!

الديوان مقسّم إلى خمسة فصول هي على التوالي: "من قصائد الربيع، من قصائد الصيف، من قصائد الشتاء، من قصائد الخريف، من قبيل العادة". ويجب الانتباه إلى حرف "من" كي لا نتوهم محتوىً يرتبط بمعاني هذه الفصول (الأربعة) مما تراكم في الوعي الجمعي لمتعاطي الشعر. فقماشة بنزبير الشعرية لا تنطوي في لفائفها لا على حزن أو عاطفة أو نوستالجيا ولا على أي من مدارج الحالات الشعورية التي تشكل القصيدة بمعناها المألوف. نصه بالأحرى ينبلج من "حيث القلق يجعل من صوت الشاعر يبحث عن إقامة في صوت الكتابة وليس في صوت الذات". نقرأ من قصائد الصيف تحت "نشيد الكرسي": "كان الكرسي يعرفه/ أصواتُ الحي/ عطر الحديقة/ يبسملان بحمد جراحه/ أما هو/ ينقش أحلامه/ وسهولَ يومه الصغيرة/ فوق سرْنَمَاتٍ بَليلة...". ثم تأخذ القصيدة منحى سرديا شبه حكائي، ومن ثم تعود ملتوية على نفسها كثعبان يعض في ذيله. لغة مجففة. مُقَلَّمة. مكتوبة بالممحاة. لها ملمس الخيش وصوت الخشب الناشف يسقط في كومة.

يتجسد الواقعي هنا في متطلبات الضرورة اللسانية في خَطوِها في النص. اللسان يملي شرطه. البصرية أيضا لها حيزها في طرف هذا اللسان (تجدر الإشارة إلى كون بنزبير تشكيليا، درس الفن أكاديميا في المغرب وفرنسا). يتعامل مع مفردات المحيط كما المصور حين يحوّر مفردات الواقع ويختزلها في شكل. شكل هو حيزٌ لذاته، وعاؤها ومحتواها. تقابل الشكلَ عند المصور الجملةُ عند الشاعر. في هذا المنطق في التناول تتساوى المفردات في قيمتها. لا شيء يصبح أكثر أو أقل قداسة من شيء آخر. كل المعاني تصبح علَفا للسان، يلوكها ويجترها ثم يبصقها من ثقبه كصوت. أما الدلالة، أو ما تحيل عليه المعاني، فهي ليست هدفا في ذاتها، بل واحدة من عناصر البناء النصّي. مادة خام لتوليد أو لتكثيف التشعّبات الصوتية وخطو الإيقاع، الأمر الذي لا علاقة له بالمنطق الاستمنائي للكتابة الأوتوماتيكية التي مارسها السرياليون، بل هو نقيضه بالأحرى!

الحكي يتشظى في شذرات مركّزة كأنه الوميض في آلة تصوير زمنية: الحرف يعادل البرهة، والكلمةُ الثانيةَ، والجملة ثانيتين أو ثلاث ثوان بالكاد: "ألمي. ذكراها، يوم استتر الخريف وراء الباب. كلامه الماكر. سدَّة النشيد الذي حرقتُ يوما. توأمة التبشير والخط. لألأة الفهود. رقة الجوارب لما تكون لينة. هدأة العزلة وعقوبة الصباح بعد ليل مخمور. حكاية شيخ بين أزقة بلدٍ رفيعٍ. وألمي". لكن النفَس يطول في فقرات أخرى كما في "يد ميت": "يهيم في ذكرى ميت، يردد، وهو مستلق على ظهره، أغنية شيخ القبيلة. ما أعظم هذا الاستفهام وهو يَمْسد يد الميت رمزيا...". إنه إضراب إذن، بالأحرى قطيعة، عن طرق الشعر المأهولة إلى "طريق وطنية" (التعبير الذي يوضحه لنا الشاعر في ختام هذا المقال): "حين تصير الكتابة مرجعا، أرمي كل الكتب وأحرق حوار العارفين تحت إمرة قطتي الجميلة. بعد ذلك، آخذ رماد الصمت وأسوّيه ملِكاً على الجُمَل والفواصل والنقط والرجوع إلى السطر. آه يضحكني وهو يتكلم عن صوفية اللحظات، وصعوبة البياض... الخ... يضحكني إلى حد الموت والعواء... فبَيْن النكوص وجدية المواجع، أحضن قطتي كي أحترم حضورها الفظيع...". ويكفي أن نقرأ السطور التالية تحت عنوان "قصيدة غنائية" لندرك أننا أمام شعرية تتملص بل تنفر من كل ما يجمِّل: "كم أحلم بواقعية الصوت واللغة/ وأتخيل الغناء يموت منتحرا/ ثم على سبورة قديمة أكتب:/ "دع الغناء بعيدا عن أنفي/ كلما جاءني رميته بعصا الفتور وحزن الدانوب/ خريف".

في سياق مقال عن المعاصر يكتب بنزبير: "الشعر كما أراه، على الأقل بالنسبة لي، ليس تعبيرا عن إحساس أو ترجمة للواقع... الخ. هذا كلام يدغدغ الرأس ويصيب بالشقيقة. بل الشعر الذي أعـنيه هو الذي يبحث عن الشعر ويحاول في النثر أن يحدث ثقبا. ولست أتحدث عن قصيدة النثر. بل عما نسميه الشعر أي الذي لا يقاس. وكل ما يقاس، ينقرض على حد تعبير فـالير نوفارينا. ورفوف المكتبات العربية أو الغربية مليئة بهذا الصنف من الكتابات. أما الشعر المعاصر غير ذلك. إنه منجم اللسان. إنه هجرة في المساحة. إنه ثقب في اللغة التي تعلمناها في المدارس و الجامعات…. الشاعر المعاصر لا يكتب كالآخرين. علاقته باللغة واللسان حرب وحيز في حالة طوارئ. الشاعر المعاصر لا يعرف ما الشعر. بل يـبحث عنه في فعل الكتابة ويهيئ رأسه بكل ما في رأسه من ورم".

"بالصدفة نثر الفصول" كان مرحلة في التخلص من شيء ما، يقول. أهو الغنائي أم بحث عن طريق وطنية للكتابة الشعرية! مرحلة الديوان في كتابته، انقطعت تقريبا عما يجري في العالم العربي من كتابة. حذار لم يكن انطواء مرضيا. على العكس، مواصلة الكتابة في حيز اخترته بكل بساطة. اخترته لأكتب في بعد ما بعيدا عن ضجيج ما يحيط بي. أما التأسيس أو المشاركة في حركة إنها وهم. أما وفي ما يتعلق بالطريق الوطنية فهي قصة طريفة والتفافة ذكية للشاعر الفرنسي إمانويل هوكار حين سألوه عن مآل الشعر المعاصر. قال تصوروا حين تصلون إلى أي مدخل مدينة في فرنسا، هناك علامة للسير تشير إلى كل الطرق وأخرى إلى طريق وطنية. والشعر يأخذ جهة الطريق الوطنية المعوجة والحلزونية كاللسان الشعري. أما الاتجاه الآخر فيأخذه أغلب الناس لأنه سهل وخطه مستقيم تقريبا.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى