الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تسمية الأشياء بأسمائها - حول الأحداث الأخيرة في العراق

خالد صبيح

2004 / 4 / 15
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


تأتي أحداث العنف الأخيرة التي وقعت في مناطق مختلفة من العراق، بكل انفلاتها وبما تكتنزه من إرهاصات مخلخلة للواقع البعيد أصلا عن الهدوء والاستقرار، لتؤكد لنا وبما يشبه البداهة التصورات عن الواقع العراقي التي رسمتها الرؤية الوطنية التي لم تضلل بأي صورة وهمية معكوسة عن الاحتلال ونواياه ولا في صورة النظام ألبعثي قبل انهياره وامكان انخراطه في مشاريع مصالحة وطنية هو عاجز عنها بفعل تكوينه المتخلف وارثه الدموي.
وصارت تلك الأحداث تؤكد لنا ماتعتقت معرفته في أذهان العراقيين من ان إدارة الاحتلال في العراق تمارس سياساتها بالأساس وفق أجندة واولويات داخلية أمريكية موغلة في محليتها. فلدوافع إرضاء الناخب والمواطن الأمريكي تحركت القوات الأمريكية في العراق لضرب بؤر الإرهاب والعنف في مدينة الفلوجة وفقط بعدما مثل بعض أفراد تلك المدينة بجثث مدنيين أمريكيين قتلوا في كمين نصبه لهم مسلحون فيها.
والمتتبع لتطورات الأحداث في العراق بعد إسقاط النظام يدرك من ان التطورات الأخيرة هي ليست وليدة لحظة عابرة وإنما جاءت ثمرة مباشرة لتخبطات السياسة الأمريكية وتلكؤها في تسليم ملفات السيادة والأمن للعراقيين مما جعل معالجة الوضع الأمني تكون مرتبكة في جوانبها العامة. كما ان فشل عملية تسليم محركات المفاصل الحيوية لإدارة البلاد بيد العراقيين لا ترتبط فقط بطبيعة السياسة الخاطئة التي انتهجتها إدارة الاحتلال ونواياها المعلنة والخفية، وإنما تعود أيضا، وللإنصاف، إلى قصور القوى السياسية الوطنية العراقية في تقديم نفسها بديلا مقنعا من خلال توحيد طاقاتها وتقديم بدائل وطنية شاملة وليس المصالح الفئوية والحزبية المحدودة وعلى حساب المجموع الوطني. لكن مسؤولية إدارة الاحتلال، باعتبارها المقرر الرئيسي لكامل الشأن العراقي، عن تدهور الوضع وتحوله لهذه المنعطفات الخطرة تبقى جلية ولايمكن إخفاءها أو التستر عليها، لان تدهور الوضع ألان، إذا دققنا النظر فيه سنجد انه كان تحصيل حاصل لمحاولة قوات الاحتلال كسب وتوظيف مختلف القوى في الشارع العراقي من اجل خلق توازنات تصب في النهاية لصالح سياسات الاحتلال، فدفعها ذلك، وتجنبا للتصادم مع القوى السلفية السنية للسكوت على تحركات ونشاطات مدينة الفلوجة ومحيطها أو مااطلق عليه إعلاميا بالمثلث السني طالما أنها لا تمس قوات الاحتلال، لاسيما بعدما ركزت هذه المجاميع نشاطها ضد قوات الشرطة المحلية والمدنيين العراقيين ممن تحسبهم، في مغالطة مفتعلة، على قوات الاحتلال. وطالما بقي المواطن العراقي هو الذي يدفع الثمن فسوف لن تحرك قوات الاحتلال ساكنا لمواجهة العنف الموجه إليه. لكن ما أثبتته تلك الأحداث في النتيجة النهائية هو ان اي تأجيل للمواجهة مع اي قوى تريد عرقلة مشروع إعادة البناء والاستقلال أو تلك التي تريد فرض مشاريعها السياسية والاجتماعية بالقوة والعنت، وهو الامر الذي يتعارض موضوعيا مع ترتيبات إدارة الاحتلال للعراق، فهو سيؤدي إلى تعقيد للوضع أكثر وأكثر ويدفعه إلى زوايا مغلقة سيكلف الخروج منها الكثير من الطاقات والوقت والثروات وقبل ذلك والاهم منه الدماء.. لان فسحة الوقت التي تمنح لأي طرف كان وسلوك غض النظر عن نشاطه سيمكنه من الاندفاع والتطرف أكثر في ممارساته معتبرا ان السكوت عنه، لاسيما أتباع النظام ألبعثي المنهار، هو حالة عجز مما يشجعه على فرض نفسه كأمر واقع لايمكن تجاوزه. من ناحية أخرى لم تكن هذه التطورات، التي هي بشكلها النهائي تصعيد لوضع قائم أصلا، سوى امتداد لعملية صراع سياسي حزبي فئوي محدد الأهداف وان تلبس قناع المقاومة بالنسبة للطرف السني والوطنية بالنسبة للطرف الشيعي. ولايخفى على النظر المدقق من ان السنة( استخدم التعبير بتحفظ شديد وكإشارة إلى قوى سلفية وليس للطائفة عموما) بعدما تصاعدت مخاوفهم وتوجسهم الطائفي، في استجابة غريزية للتصعيد الطائفي من الجانب الشيعي، اخذوا في لملمة قواهم وتجميع عناصر قوتهم التي لم تكن بعيدة عن قوى النظام السابق- فنحن شئنا أم أبينا لا يمكننا نكران ان عناصر واسعة من الطائفة السنية كانت مرتبطة برباط ووشائج عديدة مع النظام ألبعثي، من غير ان يعني ذلك اعتبار ان النظام كان ممثلا للطائفة السنية-. وعلى سبيل المثال وللاستدلال على هذا الرابط يمكن الاستشهاد بما عرضته إحدى الفضائيات في تقرير إخباري عن مدينة الفلوجة قول لإحدى النساء وهي تصرخ بانفعال( أين العرب؟ لماذا يصمتون؟ الم نعمل لهم جيش القدس!!) وكلنا يعرف ماهو جيش القدس ومن أنشأه وما دلالة ان يدعي مواطن انتسابه وارتباطه به وإلى من قام بإيجاده لاسيما إذا قارنا صورة هذا الجيش، الكريهة والمحتقرة، في مخيلة أبناء الجنوب المضطهدين من قبل هذا الجيش وباسمه. وفي مشهد خبري أخر يطلع علينا احد رجال الدين من ذات المدينة ساخطا وغاضبا وهو يشتم الحكام العرب والرئيس المصري ناعتا اياه( بالخفيف) مستخدما المفردة التي أطلقها، استخفافا، راس النظام ألبعثي المنهار على الرئيس المصري. وهذه وتلك، بتصوري، ليست ترسبات عادية للغة وإنما هي متبنيات عقلية ووجدانية لخطاب النظام ألبعثي لدى هؤلاء. ولهذا دلالات بعيدة أخرى فهؤلاء لا يزالون ينظرون إلى الاحتلال على انه جردهم من نعمة وامتيازات وهيبة وقوة السلطة التي كانوا يتمتعون بها ماديا ومعنويا أيام النظام ألبعثي. وهم وبالضبط من هذا المنطلق يعادون الاحتلال ويواجهونه. ولو كانت إدارة الاحتلال تستطيع إعادتهم إلى امتيازا تهم وأدوارهم وان بطريقة ملتوية ومن دون ان تقع في مطب اختلال التوازن لتوقف هؤلاء تماما عن مواجهتها بل وسيتعاونون معها.
ولتأخذ صورة الوضع هيئتها الدقيقة يجب القول ان من يقوم بأعمال المواجهة مع قوات الاحتلال والمؤسسات الأمنية العراقية هم ليسو كلهم من أتباع النظام المنهار بل، وكما هو معلن حسب المعطيات العامة، فيهم من هم من فئات مختلفة تلتقي موضوعيا مع بقايا النظام الذي يوظفها ويحركها حسب أجندته الخاصة ومنهم من هم من أتباع السلفية الإسلامية من عراقيين وغيرهم من وافدين لتحقيق مجد محاربة الشيطان الأكبر وهم من انتماءات مختلفة، قاعدية وغيرها. وهؤلاء يغلب على تركيبهم العقلي والنفسي عموما المزاج ألعدمي في المواجهة وما عمليات الاختطاف الأخيرة إلا تعبير عن هذا الميل وسعي لهدم المعبد على من فيه وقلب للطاولة على الجميع مستهدفا خلط الأوراق فبالنتيجة ان تلك الأعمال ستؤدي وبصورة مكثفة لتقويض اي محاولة لإعادة البناء الذي يرتبط مشروع استعادة الاستقلال والسيادة به ارتباطا عضوي.
أما الطرف الشيعي في معادلة القوة المنفلتة والمتمردة على المجتمع وبالتحديد مجموعة السيد مقتدى الصدر التي تختلف في المنطلقات والخلفية ونوع العلاقة مع المجتمع وقوات الاحتلال مع سابقتها الفلوجية وتلتقي معها في الدوافع الفئوية الضيقة وفي التبعية الإقليمية، فقد نشط وينشط حسب أجندة إقليمية إيرانية العنوان وظفت رغبات وشغف السيد مقتدى وتياره في تسيد المجتمع والشارع السياسي بدفع من طموحه القادم من خلفية صراع اجتماعي وداخلي مع المؤسسة الدينية الشيعية المتمثلة في المرجعية الرسمية والشرعية. فيما شكلت مجمل ممارساته، السياسية منها والاجتماعية، رد فعل على التهميش السياسي الذي عاناه مقتدى شخصيا ومن وراءه تياره والذي نتج( التهميش) بدوره من خلفية صراع العوائل داخل البيئة الدينية.
إذن فان تلك الأحداث لم تكن إلا امتداد وتشكل نوعي لهذا الصراع المحدود على مجموعة مصالح محددة ولا ترقى إلى مستوى انتفاضة تأخذ سمات وطنية شاملة ولا حتى نواة أولية لهكذا انتفاضة لان دوافع الانتفاض غير قائمة ألان في اولويات القوى السياسية الوطنية ولاعند المرجعية ولافي مزاج الشارع العراقي بعمومه. ولايمكن لأي كان، ومهما تكن قدراته على التحريك والإثارة، ان يحرك فعالية تمرد ومواجهة شاملة كالانتفاضة بمجرد ما يرغب هو بذلك أو ان تصطدم مصالحه وتوجهاته مع مصالح وخطط الاحتلال. لأن الانتفاضة لاتاتي نتيجة لرغبات أو تطلعات محدودة لبعض القوى أو الفئات. وعليه لا يستدعي ما حدث كل هذا التهريج والادعاء الذي أثير حول الأحداث وذهب في تأويل أبعادها إلى مديات اكبر من حجم الحدث ودوافعه بكثير كما هو حادث اليوم من قبل بعض الكتاب الذين يدعون الوطنية من غير متبنيات أو مسوغات منطقية غير معاداة الأمريكان ولو جاءت تلك المعاداة من الأمريكان أنفسهم. فانبهر بعضهم وبطريقة مصطنعة بالحدث وراحوا يتقافزون كالبهلوانات في هستيريا ملفتة للانتباه واطلقوا تسمية (انتفاضة) على الأحداث التي يدركون أنها جاءت بتصعيد وحسابات أمريكية بحتة وليس لمن قام بها( الفلوجييون والصدريون) اي دور سوى استفزاز الخصم. وتقمصوا، في استيهام مضحك، لدور القادة الاستراتيجيين للانتفاضة، كما اخترعوها، وصاروا يوجهون المنتفضين، كما تخيلوهم، ويوزعونهم إلى وحدات قتالية من( ثلاث أفراد!!) وغير ذلك من ابتكارات قتالية تم استيحاءها من منافي الشمال الجميلة. وللاستدراك، ودون اي ادعاء أو تمشدق مثلما فعل قادة ومنظري الانتفاضة أقول ان تشكيل قتالي من ثلاث مقاتلين في حرب الشوارع ضعيف وغير فعال وقد يصلح في شوارع سويسرا المرتبة والأنيقة ولكن ليس في شوارع العراق!!!.
ولم يكتف هؤلاء المنظرين بإعادة الروح في خطابهم المتشنج والمنفعل لمنطق تعميم العنف ودفع شباب العراق لتقديم دمائهم قربانا لكي ينجح مشروعهم وتتحقق طموحاتهم بالقيادة وحسب وإنما راحوا يمارسون تعاليا غريبا في كتاباتهم على الآخرين في عودة بائسة للغة الإعلام الفاشي بتقزيم الخصم وتتفيهه وليحتكروا الوطنية لأنفسهم ويوزعون التهم والادانات بالجملة وعلى جميع من يختلف معهم ومع منطلقاتهم ولم يعفوا أحدا منها. ووظفوا كل مخزونهم من اللؤم والدس في النيل من اي مختلف بعدما كانوا، كالعادة، قد ادخروا له تهمة جاهزة( أو زلة) يطلقونها عليه فقط في لحظة يتصاعد فيها الخلاف معه ولا يقدمونها في وقت يكون فيه للموقف سياقه الطبيعي في حوار عقلاني وعلمي بل يقذفونها باندفاعة غوغائية مليئة بالكراهية والضغينة من المفروض إنها لا تليق بمن يدعي الوطنية ويمارس الإبداع.
إذا أردنا، بتصوري، ان ندافع ونخدم فعلا وطننا العراق فعلينا ان نحترم إنسانه ونسعى لان نحقق حلمنا المشترك معه في حياة آمنة ومثمرة وان نسمي الأشياء بأسمائها دون تضخيم ولاقفز على الواقع، خدمة للوطن والحقيقة والإنسان، وان يتوقف من يريد المتاجرة بدماء شبابنا وطاقاته من اجل مشاريعه الخاصة وشعاراته الهستيرية عن التحريض على العنف والانتشاء بمظاهر الدمار والدم.
فلا اعتقد إن الحياة قد انعدمت فيها كل الوسائل الحضارية للصراع وتحقيق العدل خارج دائرة العنف ليكون هو سيد الموقف وصلاة بعض الكتاب، قادة التحكم عن بعد.


السويد
14 نيسان 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يخيب آمال الديمقراطيين خلال المناظرة الأولى أمام ترامب


.. تهديدات إسرائيل للبنان: حرب نفسية أو مغامرة غير محسوبة العوا




.. إيران: أكثر من 60 مليون ناخب يتوجهون لصناديق الاقتراع لاختيا


.. السعودية.. طبيب بيطري يُصدم بما وجده في بطن ناقة!




.. ميلوني -غاضبة- من توزيع المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي