الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاغتراب وقضايا أخرى في الشعر الحديث

علم الدين بدرية

2009 / 4 / 29
الادب والفن



من الخطأ والتعميم ، وصف التعبير الشعري بأنه شبه تعبير ، لأن الأجدر به أن يسمى تعبيراً عميقاً ، ينطلق من عبارات عميقة ثرية بالمعاني والدلالات والمفارقات ، تحمل رسالة ، أو قضية ما ، يريد الشاعر أن يوصلها إلى القارئ المجهول .. إلى العالم .. إلى ذاته ووجوده .

وهنالك رأيان متناقضان في الشعر الحديث ، الأول يؤكد انفصال الشعر عن الفلسفة ، وحسب هذا القول ، فالقصيدة لا ينبغي عليها أن تعني شيئاً ، وإنما ينبغي عليها أن تكون . وعلى الشاعر أن يكون صانعاً وليس متنبئاً أو روائياً متبصراً يرسم صوراً للمجهول ، مستمدة من واقع الحياة الراهن والماضي .

والرأي الثاني يقول .. أن الشعراء فلاسفة ، بلغوا أسمى درجة من الخلق والقوة والوعي ، وأن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها . فالشاعر هو فيلسوف ضمني غير صريح ، وحسب هذا التعبير فأن ملكة التكوين هي الملكة التي يصور بها الشاعر ويبدع ، وتتيح قوة التشكيل أو ملكة التكوين ، أي الخيال الخصب للشاعر أن يوحد بين الشعر والفلسفة ، وينتج أشكالاً مفردة ، تتجسد فيها أفكار كلية أو تجريدية .

أترك هذا الموضوع بين آراء الباحثين والمحللين ، لأنتقل إلى موضوع آخر لا يقل عنه أهمية واستقطاباً ، وهو موضوع الاغتراب في الشعر الحديث . فنحن نلاحظ لدى معظم شعرائنا المحليين نوعاً من الغربة الدفينة أو نوعية ما من الاغتراب في هذا العصر المادي الفظيع ، حيث تضيع فيه الجذور والأصل ، والقيمة الروحية والإنسانية ، وتتبعثر فيه أصالة النفس والروح . ولهذا الاغتراب وجوه عديدة يمكننا تحديدها في ثلاث صور وأشكال متداخلة .

1-اغتراب الإنسان عن العالم والكون ، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه .
2-الاغتراب عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماض ، وقيم وتقاليد .
3-الاغتراب عن الذات وهو أخطر هذه الأشكال الثلاثة وأهمها !!

قد نرى اغتراب الشاعر عن ذاته ومجتمعه وعصره ، بحيث يتغنى بلوعة واشتياق وحنين إلى الماضي ، فهو ينكر هذه العصرية الإباحية ، ويعود بفكره إلى الجذور ، مهرولاً إلى الصحراء .. إلى .. وعندما يعيش ويحيا الشاعر في الزمن الصعب ، زمن المحنة ، يتساءل ويتمنى أن يزول ويتغير هذا الزمن المأفون في وضعنا الراهن !! فالشقاء والظلام هما حقيقة واقعة على الإنسان والأرض ، واغتراب الأرض والإنسان يقودان الشاعر ليصبح باحثاً منقّباً ومتسائلاً عن هذه المعاناة والمحن !! متى يزول زمن الغبن هذا ؟ وتزول معه الغربة ، ويظهر وجه الحق ، ويسطع نور الحقيقة في الواقع والحلم !!

وقد يذهب شاعرنا المحلي في مواقف الاغتراب مذهباً معقداً ، فغربته مضاعفة ، وهي غربة عن الزمن والتاريخ والمجتمع ، تبلغ حد التمزق والثورة على الواقع ، والرفض المطلق في بعض الأحيان ، فيكون بلا هوية أو تاريخ ، يبحث تائهاً عن سراب الأشياء في اللغة ، فيثور متمرداً على الواقع الحاضر والأليم ، مغترباً ثائراً على حضارة تغرق وتسقط ، يصارع أمواجاً لا تهدأ من الهزائم والإحباطات .

هذا هو شاعرنا الحديث فارساً مهزوماً ، يحمل سيفاً لا يقتل ، وصوفياً محبطاً صلبت كلماته على أعمدة الريح !!

لا بد أن نقول في مقالنا المختصر والمقتضب حول الاغتراب ، أن الشاعر الراهن هو ككل إنسان ، محدد ومؤقت ، ومحاصر بواقع أمته الكبيرة ، التي يحاصرها خطر أكبر ، هو خطر الوجود ، أو الانقراض الحضاري ، على أيدي حضارات وثقافات أخرى ، تغزو واقعنا من الداخل ، فتفتته إلى أجزاء متناثرة ، من الصعب تجميعها من جديد .

فالشاعر وضمن إبداعه ونتاجه يتجه إلى هؤلاء المهددين الذي هو واحد منهم ، في لحظته التاريخية الراهنة ، منبهاً من خطر الانهيار والانقراض ، ومن الانتحار الذاتي !! وتتعدد المواقف وتختلف الآراء بين الشعراء ، فنرى أحدهم يركض لاهثاً وراء جذوره البدوية ورواسبه القبلية والخرافية ، معبّراً عنها بمناجاة وشوق ، ومشاعر صادقة ، وآخر يثور حانقاً على التخلف والقمع وخنق الحريات والحوار الحر والتعصب المقيت ، متمنياً أن يعيش زمناً آخر وواقعاً آخر .

نعم هذا هو الواقع المر الرهيب ، الذي يعيشه الشاعر ، الباحث عن الحرية والكرامة الإنسانية ليصوغها في إبداعه الأدبي . فهو يعاني ثقل الانحطاط الحضاري الذي شوه الإنسان العربي وأفقده إنسانيته طوال ستة قرون خلت ، منذ إحراق مكتبات بغداد ، ووصولاً إلى العثمانيين ، ونير حكمهم الذي أورثنا الجهل والمرض والفقر ، وامتداداً إلى الدول الاستعمارية وأثرها السلبي حتى يومنا هذا ، ضمن الاضمحلال والتقهقر في غياهب العالم الثالث وتآمر الدول العظمى ، والزعامات التقليدية على مصادر الاقتصاد والثروات الوطنية ، والقضايا المصيرية ، فالشاعر يعيش كفاحاً طويلاً ومضنياً لاكتشاف ذاتيته والدفاع عن مبادئه وعقيدته ووطنه وعروبته ، مبعثراً في مستنقعات الفساد والتخاذل والتردد ، بين التوفيق والازدواجية ، يعيش في أحواله المتردية من سيئ إلى أسوأ ، فالأنظمة الفاسدة والقيم المنهارة والمجتمع المتفكك ، تبعث به أن يبحث عن حل .. وأي حل ينقذنا من ظلام النفس وغربة العقل والروح .. وهو يتساءل وينبئ ويعكس نتاجه شعراً ، نقوشاً وجدانية في وعي القارئ المجهول ووجدانه .

إنّها مأساة وقضية ، فالكوارث والمحن تمر بنا في ليل آلامنا الطويل ، ليل التساؤل والغبن عاصفة هائجة ، تثير الشكوك !! نحن نجهل ما سوف يجيء .. وما يخبئ لنا القدر ! ماذا بعد هذا الحمل الطويل ؟! والمخاض العسير ؟! هل يتمخض الحاضر عن مستقبل آخر ، وفجر مغاير ، ورؤية أخرى مشرقة مشرفة !! وهل تتحول الكلمة في رحلة العدمية هذه ، إلى منارة وهدى ، فتكون مسيرتنا الثقافية علامة فارقة وشاهداً علينا وعلى الطريق ، وعلى التغيير نحو الأفضل ؟!

أم أنها تبقى نذير شؤم ، وصدى صور وأحلام ، وأطلال ذكرى وغربان بين ، تنعب على بقايا أمة صنعت التاريخ يوماً .. وتؤلف المعلقات والأهازيج ؟! وتقودنا من اغتراب إلى اغتراب !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا