الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسماء

عدنان الدراجي

2009 / 5 / 2
الادب والفن


في حضن دجلة الخير تتثاءب قريتنا الطينية الوادعة باسترخاء, ساكنة بسبات ابدي تحت ظلال النخل, كان الملل ينساب كثيفا متدفقا في أزقة قريتنا، لهذا كنا نتلهف لحدوث مشاجرة ما في مقهى القرية لنستمتع بمهارشة الآباء ولنتعلم معايير اللعن وكيف نتنابز بالألقاب وصنوف السب التي تنصب تماما على الأسماء والأسلاف, وما تكاد تنطفئ الشرارات الأولى حتى تتدفق موجات التفاخر والخيلاء.
أعانني الصمت بحضور أبي وأقرانه الكبار على تعلم استراق السمع ونسج خيوط قناعاتي الأولى وأمور أخرى ففي تلك الأيام كان العالم مختلفا إذ كنا لا نملك شيئا يتيح لنا التبختر والكبر فأضفنا الأسماء إلى قائمة مجانية من المفاخر التي لم نبذل جهدا فيها وكانت بحق معينا لا ينضب.
في قريتنا وشمنا بالأسماء فتصاغرنا تحت بهاء قدسيتها وأريقت دماء لا تحصى على جوانب شرف الأسماء, ولمن أبق من رق اسمه أو حاول, يطاح به نحو حضيض لا متناه, ولولا أني شهدت مداولات تسمية أخي الأصغر لمضيت معتقدا أن اسمي قد ولد معي, لا أتذكر متى خوطبت باسمي أول مرة ولا أتذكر أول من ناداني به لكنه قاسمني وجودي ورضيت بذلك.
لم اغتصب اسمي ولم احتكره فليتسمَّ به من شاء فالأسماء متاحة لنا جميعا كالضوء والهواء إلا أني لم اختره, فرضه أبواي أو رضيا به حين اقترحه قريب لهما جاء مهنئا بولادتي, حينها كنت صغيرا جدا حتى أني لا أتذكر كيف اقتنعا باسم لم يخطر على بالهما من قبل.
قالت لي والدتي يوما انك كنت على وشك اكتساب اسم آخر لولا تدخل ذاك القريب المتحضر الذي رأى فيه مسحة تخلف, ومع استقرار هديته بجوار مهدك نطق بالاسم الذي لازال رديفا لك.
لا أنكر أني عشقت حروف اسمي بل حروفا لأسماء جمة غرست حبها في قلبي, كنت ولازلت أطرب لرنة موسيقاها الأخّاذة, تسكرني جلجلة الأحرف في طبلة أذني فينفرج شغافي ويحتضنها قلبي جذلا.
سألني يوما شيخ القرية بحضور أبي:
-أتحب الأرقام؟
- أحب الحروف أكثر منها!
-لماذا؟
- لان الحروف وحدها تستطيع تأليف الأسماء.
- ولماذا تحب الأسماء؟
- لأنها أول شيء علمه الخالق لأبينا ادم!
ربت الشيخ المهيب على كتفي ونفحني قبضة تمر من صحنه ونلت الحظوة لدى والدي فهش لي وتباهى بذكائي, ونجحت يومئذ بمهارة في إخفاء فشلي الدائم في درس الحساب.
عشت حياتي اللاحقة على مبعدة معقولة من الأرقام إذ انحصرت تعاملاتي بها على قدر توفير متطلبات معيشتي إلى أن جاء يوم التهمتني فيه عاصفة غبراء.
تدحرجت في جوف العاصفة ردحا على غير هدى محشورا بعلب (السردين) المكتظة بأسماء انطفأ رنين موسيقاها, حتى جاء اليوم الذي بصقتني العاصفة في قبو مظلم, كدت افقد شعوري بالوقت لولا وجبات الطعام الذي يدس إليّ من كوة بسعة الكف تنفرج في جسد الباب الموصود.
قطرات الماء الساقطة من سقف القبو ولسعات القمل أو الجرب وأصوات ارتجاج الأبواب هو كل ما يصل إلى حواسي الخمس, خوفي من اضمحلال لساني جعلني اردد كل يوم اسمي واسم أبي وأمي وأسماء أبناء القرية وأسماء سور القرآن.
درجت على طقسي اليومي حتى قبل ثوان من انفجار قرقعة الباب المفزع, عصبت عينيّ وقيدت نحو الخلف ثم سحبت لألقى في ظلمة أخرى, تلاقفتني فيها الأيدي لأعلق ثم انهالت على جسدي العاري حزمة سياط وهراوات وصوت مبحوح يلح على بالاعتراف, اغميّ عليّ وأفاقني دلو ماء بارد غمر بدني فأنبعث الألم كالبركان في الأخاديد التي نحتتها السياط على أعضاء بدني.
لم اقو على الجلوس فمكثت على البلاط البارد إلا أن صوتا مرعبا صرخ بي: انهض يا ألفا وواحد, اعتقدت انه يقصد شخصا آخر لكن رفسة عنيفة أفهمتني بصراحة أن اسمي قد استبدل بالرقم ألف وواحد.
كنت على شفا الانهيار, ما الذي فعلته ليصادر اسمي؟ ألا يكفيهم خطفي واهانتي وتعذيبي, يا الهي أنا لم افعل شيئا استحق عليه التوبيخ, فلماذا كل هذا العدوان؟
تلت ذلك اليوم أيام قاتمة لا ادعى فيها بغير ألف وواحد, ولخوفي على اسمي من الاضمحلال عهدت للساني ترديد اسمي في كل يوم ألف مرة ومرة, وعلى هامش إحدى طقوس التعذيب سمعت احدهم يهمس لصاحبه أن ألفا وواحد قد خدش قدسية اسم القائد وعليه يستحق مزيدا من التأديب.
ولازلت لحد اللحظة ألوذ في أحرف اسمي وفي أحيان أخرى أخبئه درءا لشر قضاة الأسماء.


د.عدنان الدراجي [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري