الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناظم حكمت أيقونة الشعر الكوني

رامي أبو شهاب

2009 / 5 / 3
الادب والفن


ذكراي سوف تتلاشى كدخانٍ أسودَ وسط الريح
بالطبعِ سوف تعيشين .. يا سيدة قلبي الحمراء الشَعر:
في القرنِ العشرين
فالحزن ولو طال
لن يبقى أكثرَ من عام.
اختار ناظم حكمت أن يختصر الموت أو أثر الموت على الآخرين في إطار فعل الزمن، مما يعني هشاشة الموت و ضآلته، حيث لا يحقق الموت نصراً سوى فعل التلاشي على الجسد، وليخلف حزنا صاخبا يتحول فيما بعد إلى حزن فلسفي صامت.
ومع ذلك الشاعر يبقى في مجال الأثر، ويبقى الصدى الذي لا ينتهي في الوجدان البشري، وفي سرمدية الوعي، فالشاعر يمارس كتابته فوق الموت، وهو فعل نقض وتفكيك له، ولو أن الموت ينتصر في المادي المجرد فقط حين يخيط للجسد عباءة الفناء، ولكن الأثر الكلامي يبقى متعاليا، ولعل ما قاله الفيلسوف الفرنسي سارتر راثيا ناظم حكمت خير دليل على ذلك: (إن أشعار ناظم حكمت ستعمل على حمايته من النسيان. لقد انتزع ناظم نفسه من القبر بكل كلمة كان يكتبها).
قبل سنوات قررت الحكومة التركية إعادة الجنسية لناظم حكمت بعد أن جردته منها متهمة إياه بالخيانة، هكذا يعود ناظم حكمت إلى وطنه وقد تحول إلى أيقونة، لا تعني وطنه فقط، إنما تعني البشرية جمعاء، كون هذا الشاعر قد خطّ في كتاب الشعر الكوني أناشيد الحرية، بالإضافة إلى كونه قد ترك معالم طريق شعري، تأثر به عدد من شعراء العالم ومنهم بعض الشعراء العرب .
ناظم حكمت صاحب مدرسة شعرية على مستوي الطروحات الفكرية، وعلى مستوى التشكيل الفني للقصيدة التي اتسمت بنبرة الأيدلوجية المتسربلة بثوب البساطة الظاهري، ولا سيما أن قصائده قد حققت معادلة الثبات، وعلقت في مكامن الشعر العالمي، كما هي قصائد بابلو نيرودا، و إيلوار، ولوركا، وكما هي أيضا قصائد الشاعر العربي محمود درويش... هؤلاء النخبة من الشعراء، ظلوا أوفياء للشعر، ولكنهم ظلوا أيضا أوفياء للإنسان المهمش والمقموع والطريد والمنفي .
ناظم حكمت اختار أن يكون شكلا للحياة بنقائها وعفويتها، كما هي أشعاره التي حملت أممية ضمن مستويين:اللغة والكينونة، و هو الشاعر الذي قاده شعره نحو المنافي والسجون، وكان سببا في تجريده من مواطنته التركية، وعلى الرغم من ذلك، فقد قاد حكمت الوعي البشري إلى إحدى أبرز مفاهيمه المسقطة باتجاه منظور أكثر إنسانية ورحابة، فالشعر ليس لحظة جمالية هاربة تولد نسغا من اللذة، إنما هو إعادة تفعيل لمعنى الوجود، وهو انحياز نحو الدلالة الحقيقية للإنسان؛ بأن يكون كما هو دون تهجين مادي لحضارة زائفة وخاوية، و دون مقايضة رأسمالية... حيث تُحيد القيم...وتُداس بنعال النفعية والميكافيلية .
في مقابل كل ذلك وقف ناظم حكمت في شعره منافحا عن بقية القدر الضئيل والمتبقي من معنى الإنسان، وأحقيته في أن يكون مضادا للتشيؤ والسلعية والقهر والعبودية. وفي سبيل هذا التوجه - تخلّق شاعر عالمي- وكان لا بد له من مواجهة مفاهيم الاستعمار والرأسمالية وفلسفتها القائمة في إحدى جوانبها على استهلاك الآخر، وهو مفهوم امبريالي عماده الحق في تملك الآخر واستلابه، بدعم مؤثرات من فلسفات وأفكار وقوى الخطاب الذي وضع لخدمة التوجهات الاستعمارية .
رد ناظم حكمت على الممارسات الاستعمارية والامبريالية تمثل بمحاولة وضع البعد الجغرافي والعرقي من منطلق طباقي في إحدى قصائده، فالأسيوي والإفريقي هو المفعول به بينما الغرب هو الفاعل، وضمن ذلك يتحقق الانحياز الجغرافي الممارس من قبل ناظم حكمت كأحد كتاب مقاومة الاستعمار من منطلق أممي، فالفكر الاستعماري القائم على استعارة الحيز الجغرافي والمدلول العرقي كمبررات على الهيمنة على الآخر، يساهم غالبا بصناعة مقولات تعمل على توليد ما ينتقص من قيمة وأحقية ( الآخر ) المفعول، وهذا ما يمكن أن ندلل عليه بقصيدة يقول فيها ناظم حكمت :
" أخوتي..
لا يغرنكم شعري الأشقر.. فأنا آسيوي
ولا تلتفتوا إلى زرقة عيناي.. فأنا إفريقي
في بلدي لا تلقي الأشجار بظلالها على جذورها
كما في بلادكم أيضا
الخبز بين أنياب الأسد في موطني
والتنين يرقد بجانب ينابيع الماء "
لماذا اختار ناظم حكمت التأكيد على الدلالة الجغرافية في بناء حركة المقاومة ضد الآخر، إذ انحاز إلى قارتين عانتا من هيمنة الاستعمار وويلاته على مدى عقود، ولماذا اختار أن يشتغل على البنية العرقية؟
إن هذا المنطلق للمقاومة يتوفر على عدد من مفاهيم المنظور ما بعد الكولونيالي أو الاستعماري، لقد تكونت رؤية ناظم حكمت عبر عدد من الاستراتيجيات الشعرية في تشييد البنية الدلالية التي تبدو في بعض جوانبها عالية التحقق دون مواربة أو زيغ ، فثمة ما يريد أن يقوله ناظم حمت في قصيدته هذه، إذ تبدأ بكلمة (أخوتي)، و هي تحمل في فضائها الخاص أكثر الدلالات المتوفرة على أبعاد كثيرة: منها الإنساني، ومنها المواجهة مع الآخر، والمقاومة بالكتابة، فالأخوة هنا تتداخل مع البينة العرقية والتي تتحد عبر موقعين: هما القارة الأسيوية والقارة الإفريقية. إن التأكيد على حالة المماثلة والتشابه تعني فعل مقاومة للغربي أي الاستعماري و للإطار الأشمل (الرأسمالية) التي ولدت الفعل الاستعماري الذي انطلق بداية من توجهات اقتصادية، لذلك يحاول الشاعر أن ينأى بنفسه عن سمات عرقية كالأشقر والعيون الزرقاء، والتي تستدعي بدورها بنية عرقية تميز بها الغربي الأوروبي تحديدا، ومع ذلك فأن الشاعر لا يكتفي بهذا، إنما يبتعد في التفسير الشعري الجمالي حين يختلق صورة الوطن المؤسلب، وهنا تبرز مفردات الشاعر الأممي الاشتراكي حين يصر على عبارة (الخبز) التي تعمل على تظليل مساحة كبيرة من البشرية والشعوب المضطهدة، وكأن الشاعر يحذو حذو عبارة ( كلنا في الهم شرق ).
و إذا ما مضينا حاملين ما تضمنه هذا المقطع البسيط من وفرة دلالية تقف على ما تعانيه الأوطان من إشكاليات، هي في النهاية نتيجة للسيطرة الامبريالية التي تستمد سلطتها من الأنظمة القمعية، والتي ما زالت تعمل بسلطة المفهوم الإقطاعي، فالأشجار كما يرى ناظم حكمت لا تلقي بظلالها على الجذور، وهنا تتجسد حالة حقيقية من انفصام يعاني منه الوطن، فالشجرة فعل العطاء، والظلال ينبغي لها أن تتوجه إلى الشجرة أو إلى جذورها، وهي هنا الطبقة السفلى، وهي الأصل وهي السواد الأعظم والمنشأ، وهي الشعب الكادح الذي كان سببا في نماء هذه الشجرة التي تتجاهل جذورها، وتنأى بعيدا في عطائها. هذه الإدانة للوطن نلمحها في قصيدة أخرى له يقول فيها :
إن كان الوطن ما تكنزون في خزائنكم وصناديقكم المزخرفة
إن كان الوطن أن يرتجف الفقير مثل الكلب وتنتابه الحمى صيفا وشتاء
إن كان الوطن امتصاص دمائنا في المعامل
إن كان الوطن أرضا للسادة الإقطاعيين
إن كان الوطن حكومة السياط والخوازيق
إن كان الوطن كم الأفواه ودفع الإتاوات
إن كان الوطن قاعدة أميركية
وقنابل أميركية
وبوارج أميركية
إن كان الوطن هو الأسر في زنازينكم المتهرئة
فإنني أخون الوطن
هذه الخيانة للوطن تعتني بمقولات مقاومة الاستعمار القائم البينة الاقتصادية الرأسمالية، وهي هنا عملية نبذ لهذا الوطن المفرغ من المعنى الحقيقي ، حين يصبح متماهيا بالمستعمر وثقافته التي تقوم على الاستغلال، والإقطاع، والتهميش، والإقصاء للفقير. ثمة هنا سياسية تمارسها القوى الإمبريالية على مدار عقود وقد استعارتها الأنظمة الحاكمة في عدد من الدول لتقوم بتطبيقها على شعوبها، هذا الامتداد البشع لحالة التغول الرأسمالية استدعت نسقا مقاوما من شعراء كشاكلة ناظم حكمت، وبابلو نيرودا، الذين كانا منشغلين بهذا التصور للمقاومة من منطلق اشتراكي، وقد غذت هذه التصورات مفهوم الشعر لديهم بأنه لحظة مطابقة وتأريخ للواقع الاجتماعي والإنساني، ومن هنا تبدت ملامح الشكل الشعري لناظم حكمت انطلاقا من الوظيفة المرجوة من الشعر، فبدا شعره تشكيلا بسيطا، ولكنه لا يفتقد القدرة على تحقيق جمالية الاكتشاف والمتعة اعتمادا على تجميل البسيط وتغريبه ضمن سياقات تحتاج موهبة فذة، كما هي لدى ناظم حكمت .
قسوة الماء :
ترك ناظم حكمت مفهوم الشعر واسعاً وفضفاضا في سبيل الهدف الفكري المقاوم، وطالما كان الشكل يحقق وظيفة المقاومة، فهو جائز وشرعي ومقبول، لذلك لم يحفل ناظم حكمت كثيرا بالشكل أو بالوزن والإيقاع أو الصورة، فالشعر يمكن أن يكون بما يمثله من تحقيق جمالية القول في الإطار الإنساني، ولعل بساطة المفردة تكون جسراً مدهشا من الجمال يعدل حشدا من الصور الشّعرية المُفرغة من الدلالة أو المعاني في سياق القصيدة، ولعل أيضا أكثر القصائد الموزونة والمقفاة فاقدة للأثر كونها لم تأتي مُلتحمة في سياق الإنسان وقصيدته الكونية، هذا الفن الفكري الطارئ وغير المكتمل وغير المحقق هو الشيء الأجمل كما يقول ناظم حكمت في قصيدته " أجمل البحار " التي تحقق ما ينبغي للشعر أن يكونه من لذة كما يشتهي أصحاب مدرسة الفن للفن، هذه اللذة المتحققة في القصيدة لا تخلو من تصور أيديولوجي قائم على ما ينبغي للشاعر الثوري أن يمتاز به من تفاؤل من حتمية الانتصار، وأن المستقبل سيكون دوما أجمل، يقول ناظم حكمت :
أجملُ البحار
هو البحرُ الذي لم نذهبْ إليه بعد
وأجملُ الأطفال
هم الذينَ لم يكبروا بعد
وأجملُ الأيام
هي تلكَ التي في انتظارنا
وأجملُ القصائد
هي تلك التي لم أكتبها لك بعد
...يا صغيري
...يا صغيرتي
ناظم حكمت الشاعر الجميل والثوري والمدهش، يحقق متعة أن تكتشف المعنى في بضع مفردات شعرية حين يخلق الفكرة على بساطتها، ولكن المؤثر فيها متحقق كما هي قنبلة موقوتة، تأتي الكلمات لتعرف أنك قد رحلت عن الكلمات، وقد خلفت فيك آثاراً لا تنتهي من الفتنة في التعرف على الواقع، وهذا الواقع لم يخنه يوما شاعرنا مقابل تهويمات متعالية للأنا الشعري، فمقولات الجمال ربما تكون غائبة، ولكنها حاضرة في النسيج الشعري الكلي المتكامل، فشعر ناظم حكمت كالماء المنساب برقة وصفاء وعذوبة ومع ذلك فإنه قادر على نخر أعظم الصخور وتفتيتها.
الشاعر المبدع هو الذي يضمن نصه قدرا من الفن والتشكيل بُغية تحقيق الأثر المَرجو في المتلقي، فكما يقول عبد الملك مرتاض في معرض تعليقه على الأثر المُتشكل من النص الأدبي حين يقسم النصوص ومقدار شعريتها أو أدبيتها إلى قسمين: القسم الأول هو النص الذي يتوفر على أكبر قدر من الإمكانات الشعرية، ونعني هنا مفهوم الأدبية أو الشعرية التي يمكن أن تحقق التأثير في أكبر عدد من المتلقين، بينما النوع الثاني هو النص الذي يفترض وجود متلق مساوٍ لمنتج النص، وهنا نرى أن شاعرنا قد قرر أن يجعل شعره زاخرا بما يعمل على الارتقاء بالمستوى والخطاب الشعري عبر توجهات أسلوبية، تتخذ من اليومي والمألوف والشائع زاداً لها، بحيث تحقق الدهشة لدى السواد الأعظم من المتلقين، وهذه الشعرية غالبا ما تواري خلفها قدر كبيرا من الفكر والقيم الإنسانية والتحريض والثورة والكثير من الجمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شاعر الإنسانية العظيم
سامي مراد ( 2009 / 5 / 2 - 20:18 )
شيء رائع وجميل حينما يستحضر ناظم حكمت الشاعر الممتليء بالإنسانية حتى النخاع لقد غاب بشخصه لكن أفكاره المطروحة في أشعاره لا زالت ماثلة أمامنا فهو الحالم بالحرية وحالم بمستقبل أفضل على الدوام لأطفال العالم ونسائه وعماله ولجميع المقهورين الذين ينشدون الحرية أن تدهشنا أشعاره يعني أنه باق في عقولنا وضمائرنا وأحاسيسنا كيف لا وهو شاعر الإنسانية العظيم


2 - كلمات تؤسس لغد أفضل
سامي مراد ( 2009 / 5 / 2 - 21:07 )
يقول ناظم حكمت في إحدى قصائده الحركة من المادة إنه القانون الأبدي للمجتمع الناهض لا يوجد سكون توجد حركة سيطلع اليوم على غد ويهدم الغد هذا اليوم دون توقف نحن أبطال اليوم مبشرو الغد نحن نلائم بين الرجال وتدفق التاريخ ونحن الذين يضربون الامبريالية المتضعضعة الأساس نحن مؤسسو الغد

اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب