الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبق القش

نقولا الزهر

2004 / 4 / 17
الادب والفن


ما أن وضعَ { هشام أيوب} فنجان القهوة أمامي، حتى راحت الكلماتُ تتدفق منه كالسيل : لقد تعرفتُ اليوم يا عامر،على صبية رائعة ، متوسطة القامة ، ممتلئة قليلاً ، سمراء ، شعرها يتراوح بين الأسود والكستنائي ، تلبس بنطالاً أسود ، وقميصاً صيفياً زهرياً ، فيها ملامحُ الصبيةِ التي ودعت للتوِ دنيا الطفولة . على صدرها عقدٌ مشغولٌ من الخرزِ الملون، يشبه التمائم التي تضعها الفتيات الجزائريات في منطقة القبائل المطلة عل البحر . وفي أذنيها قرطان برونزيان عريضان . كانت تبدو واثقة من نفسها ، وكأنها أكبر من سنها .
- من هذه الصبية التي تتكلم عنها بهذا الحماسِِ الشديد يا هشام ؟
- للحظاتْ.. يا عامر ، لم أعرفْها ، لولا دموع أختها { نائلة } التي سارعتْ لتقول بصوتٍ لا يخلو من احتجاج:
- بابا....أختي { راوية } .
قلت ُ لزوجتي محاولاًَ حبس دموعي :
- مرت الأيام يا { عَهْد } وراوية أصبحت أطولَ منكِ .
هنا علقت راوية مباشرة مداعبةً :
- بابا : " كمان لازم تشوف أن الماما لابسة كعب عالي " .
- في تلك اللحظة كانت أمنيتي أن تتمزق المربعات الصغيرة ، لألثمَها وأعبثُ بشعرِها........
ثم راح مستغرقاً { هشام أيوب } ، في كلامه على زيارته الأسطورية:
وجناتهم جميعاَ كانت غارقةً بالدموع ،لا يصدقون أعينهم .أمي كانت متماسكة رغم أنها كانت تقرع أبواب الثمانين ، ولكن { الرُعاش } اللعين يبدو أنه شرَعَ في غزوِ أعصابها، وأصبحت مِشيتها متباطئة ضعيفة ، وهي التي كانت حينما تمشي، تطحنُ الحصى تحت قدميها . دهشتي براوية كانت كبيرة ، لأني لم أعرفها إلا في عالمِ عربة الأطفال، والحليب، والألعاب، وتوصيلها صباحاً إلى إحدى جدتيها. وحتى في أحلامي هنا ، لم أشاهدْها أبدا إلا طفلةً صغيرة، لا يزيد عمرها عن السنتين.
قلت لها أثناء الزيارة :
- راوية هل تتذكرين شيئاً عني ؟
أجابت على الفور : بابا ، الذكرى التي لا أنساها ، هي ، حينما كنتَ تشرب القهوة مع الماما على شرفةِ البيت، ثم نزِلتَ مع { نائلة} لتشتري بعض الأشياء المصنوعة من القش من رجل كان يفرِد حاجياتِه على الطريق أمام بيتنا، وقد اشتريتما آنذاك طبقا مزخرفاً جميلاً ، وبعض الأواني الأخرى التي تستخدم لوضع الفواكه، و أدوات الخياطة. ولا يزال في ذاكرتي ذلك المشهد حينما رحت تعلق هذا الطبق المصنوع من سنابل القمح على أحد جدران غرفة الجلوس.
ثم تابعت كلامها قائلة :
- بابا كن مطمئناً ، إني أعرف عنك كلَ الأشياء ، من أمي وأختي وجدتي ، طوال آلاف الأيام التي مضت.
يتابع هشام أيوب:
- اعذرني يا عامر، إذا استغرق حديثي عن راوية معظم جلستنا . لكني أريد أن أقول لك شيئاً، بقي يؤرقني طويلاً؛ فبالنسبة إلى إبنتي نائلة، فقد كانت رفيقتي في الكثير من الأحيان إلى الحدائق والحارات القديمة والأماكن الأثرية الدمشقية. لكن الأمر يصعب إلى حدٍ كبير، حينما يشعرُ المرء أن أحد أبنائه لا يعرفُ عنه شيئاً إلا من خلال الأحاديث والحكايا والصور. إنني الآن أشعرُ بشيء من السرور والفرح يجتاحني من الداخل. و أكِنُ لهذا الطبقِ البسيطِ المصنوع من القشِ كلَ الحب والامتنان .....
يتابع هشام حديثه قائلاً :
- عامر ، لم أتكلم لك عن { عهْد} . كل ما أقول لك عنها ، أن هذه المرأة حينما اختار والداها إسمها ، كان يبدو لديهم حسٌ عميق بأنه جزء من كيانها. فهي كما عهدتها دائماً، في كل الظروف كانت لديها القدرة على أن تبثَّ في السوادِ بياضاً ..وتحيي في الرمادِ عوداً أخضر ....
شكرتُ هشاماً على قهوته وحديثه الرائع المترع بعواطفه الجياشة التي لم يتح لي أن أكتشفها لديه من قبل، وغادرتُ سريره الضيق ،الذي لم يخلُ منذ أيام من المهنئين بزيارته اليتيمة بعد ثلاثة عشر عاماً من وصوله إلى مقابر الزمان الرمادية بالقرب من مقبرة نهر المدينة..........
********************

نقولا الزهر- دمشق- تموز- 1993








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طبق ملون لن يموت
فلورنس غزلان ( 2011 / 1 / 7 - 21:03 )
تعال ياصديقي نقرأ شريطنا السينمائي، الذي لايموت، نعيده ونكرر صوره رغم أن كل إعادة تعني أن نعيش الألم من جديد...لكنه يجب أن ينقل للأحفاد كما نقلنا جزءاً صغيراً منه للأبناء..هو حقهم علينا..كي لانظلم أنفسنا وكي لايظلمونا ويظلموا أنفسهم..المشاهد وازدحام صورها من الصعب أن تتسع لها دائرة الذكرى دفعة واحدة، لكن يمكننا أن نعيد رسم ألوانها كطبق القش الشهير.هذي العهد عظيمة وقد ربت بصمت وانتظار وصبركلاً من نائلة وراوية..وقد خرجتا للحياة كزهرات الفل الندي في حديقة الدار..خيمي عليهن ياعهد ويا عامر واشربا قهوة المحبة الأقوى والأعظم..لأن الغد لذريتكما دون أدنى شك....

اخر الافلام

.. كل الزوايا - الفنان أيمن الشيوي مدير المسرح القومي يوضح استع


.. كل الزوايا - هل الاقبال على المسرح بيكون كبير ولا متوسط؟ الف




.. كل الزوايا - بأسعار رمزية .. سينما الشعب تعرض 4 أفلام في موس


.. رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة يوضح الاستعدادات لعرض افلام




.. سعيد زياد: الجيش الإسرائيلي أمام مأزق كبير والمخرج الوحيد هو