الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث

يوسف ليمود

2009 / 5 / 7
الادب والفن


الفن، كطاقة، وفي مطلقه، منبعه المنطقة نفسها في الوجدان الإنساني، في أي مكان كان. يستوي في هذا القديم وما بعد القادم، رغم التنوع غير المحدود في الأشكال: من منطلقاتها ومصبّاتها، من تقاطعاتها وتعارضاتها، من بدائيتها ومعاصرتها... تتلون هذه الطاقة وتتشكل حسب مؤثرات المكان والزمن، لكن يبقى المنبع واحدا: معبِّرا مرمِّزا تائقا رائقا عكرا ثائرا رقيقا عنيفا مندمجا مترفعا مناجيا غامضا... إلى ما شاء أو شِيـئ له من أشكال ووصفات. الحقيقة الثابتة أن الفن متحول غير ثابت، وهذه نعمة!

بعين خبيرة وذكاء، يجمع متحف بايلار بمدينة بازل، بين مجموعة هائلة ورائعة من أقنعة ومنحوتات الفن الأفريقي وأخرى من فنون أوقيانوسيا - جنوب المحيط الهادي، وبين نماذج من الفن الحديث لبعض من الأسماء الشهيرة التي شكلت الحساسية الفنية في القرن العشرين، خصوصا النصف الأول منه، كماتيس وليجي وبراك وبيكاسو وروتكو وبول كلى. نفترض أن العارف قليلا بتاريخ الفن الحديث، قرأ عن تأثير الأقنعة والنحت الأفريقي على بدايات الفن الأوروبي الحديث. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، كانت هناك حركة استجلاب وتجميع وتجارة للمنحوتات الإفريقية، نشطت فيما بعد بين الحربين العالميتين على يد جامع التحف التاجر بول جيوم، فدخلت بعض هذه الأعمال الفنية مراسم الفنانين كالعجائب من الأشياء التي يحيطون بها أنفسهم وتشكل عالمهم.

كان لقاء ماتيس بأول قناع أفريقي، من قبيلة الفانج، في مرسم صديقه أندري ديران في خريف 1906 بمثابة عود ثقاب الوعي الفني الأوروبي بسحر الشكل الأفريقي، في الوقت ذاته كان بيكاسو وبراك يتشربان الحلول والتحويرات الشكلية المبهرة في تلك النماذج التي وصلتهم، ويبخّان بعض رذاذها في منسوجتهما التكعيبية. غير أن الدم الغجري الذي كان يسري في عروق بيكاسو جعله يتوحد مع الطاقة السحرية المضغوطة في تجاويف ونتوءات تلك المنحوتات، ومن ثم وُلدت وجوهه المحرّفة، بحلول مساحاتها الخطية والتلوينية، ليتحطم الواقع في اللوحة إلى غير رجعة ويعمّ خير الفن (وفساده أيضا!) في الأرض.
ثمة جانب تفاعلي ندركه في هذا المعرض الذي يحمل عنوان هذا المقال، والذي هو احتفالية تمتد لأربعة أشهر قادمة، من خلال عرض بعضٍ من نماذج الفن الأوروبي الحديث، إلى جانب فن تلك الثقافات، والذي نهل أصحابه مباشرة أو على استحياء من الفن الأفريقي، مثل ذلك الأسباني القصير الأشهر الذي امتص هذه الأشكال عبر دراسات طويلة وكثيفة، لتتشكل منها فيما بعد وجوه نسائه المعوجة والممطوطة والمستديرة كالأقنعة المثقوبة بفراغات وتجاويف ونتوءات عيون وأنوف وأفواه، ما كان لمنطقها الشكلي ليخطر على بالِ فنانٍ ساحةُ عمله سطح؛ كما ندركه كذلك من خلال نماذج من عمل ماتيس، كالكولاج الورقي الملون لعارية بالأزرق تعوم كضفدع على مساحة صفراء، يكاد يتطابق شكلها المحوّر مع شكل واحدة من المنحوتات التي تصور روح الأنوثة، من دون تركيز على إبراز انتمائها إلى النَسب الآدمي أو إلى عالم الأحياء المائية! نرى له كذلك لوحته الكولاج "طحلب أبيض على خلفية خضراء وأحمر" تتماهى فيها تلوّيات الأبيض مع التفريغات المتصاعدة على تماثيل الكوريفوري الخشبية من بابوا – اندونيسيا.

لم تُجمع النماذج الفنية الحديثة التي تتخلل هذا الحشد الهائل من فنون تلك الثقافات "البدائية"، إلى نظيرتها فقط حسب فكرة التأثير والتأثر، إذ يعتمد ترتيب العرض والجمع بين بعض الأعمال الحديثة وأعمال تلك القبائل السحيقة مكانا وزمنا، على عناصر متنوعة، كالانسجام الشكلي أو صدفة تلاقي الحس عموما، فنرى لوحة مونيه الضخمة (تسعة أمتار في ارتفاع مترين) التى رسم فيها زنابق الماء، يزحف أسفلها تمساحان من الخشب (طول كل منهما سبعة أمتار ونصف متر في ارتفاع نصف متر) من نهر كوريفوري المذكور أعلاه. التماسيح في الوعي الشعبي الإندونيسي أرواح تنتمي إلى العالم السفلي، لكن يبدو أن الجامع بين هذين الروحين التعيسين وبين زنابق مونيه، هو الحيز المائي الذي خرج منه كلا العملين الفنيين، وسهولة اجتماعهما معا في حائط متحف جميل، حيث اللوحة من المجموعة الثابتة للمتحف.
وفق المنطق نفسه، أو بمنطق الصدفة في تشابه عنصر من هذا العمل مع آخر في ذاك، نستطيع أن نجد علاقة ما بين الخطوط في واحدة من التجارب التجريدية الأولي لكاندينسكي وبين انبعاجات الكتل في مجموعة من تماثيل الفانج؛ بين الرسوخ الشكلي في لوحة سيزان "بورتريه مدام سيزان"، ومنحوتات شخوص السينوفو الجادة الملامح الرصينة، من ساحل العاج؛ بين إحدى اللوحات الخطية من بول كلى، والزخارف المحفورة أو المنقوشة على مجموعة من التماثيل التي تصور مسوخا من جزر بولنيسيا؛ بين الدكنة المغبشة في ألوان روتكو، والحس التلويني في بعض الأقنعة؛ بين الرقة المفتعلة في لوحة لـ ميرو، والرشاقة والعظمة في منحوتات الدوجون؛ أو حتى بين لوحة لـ بييت موندريان، متجردة إلا من أربعة خطوط مستقيمة متقاطعة، ومجموعة من منحوتات المالاجان من نيو ايرلاندا الكثيفة الخطوط والتفاصيل، الجانحة بخيالها في شكل حوت طائر يحمل على طرف أنفه الشخص الميت ليعبر به إلى العالم الآخر في سلام!

ليست كثافة الحضور الكمي للأعمال الفنية الساحرة لهذه الثقافات المتخلفة هي ما يجعل النماذج الفنية الغربية تبدو كديكور يكاد لا يكون ملحوظا، بل الروح والطاقة والدم الحار الذي منه خرجت. إن الوقوف أمام أحد تماثيل النكيسي، من الكونغو، المغروسة في صدر التمثال، المصنوع من خشب الزان، وأكتافه ورأسه، عشرات بل مئات المسامير والنصال وقطع الحديد، بينما بطنه تجويف يحوي تمائم ولفائف وتعاويذ، تسد فتحته قوقعة أو مرآة صغيرة، تدفع الأرواح الشريرة بعيدا حين تقترب لتلحق الأذى؛ هذا الحضور الشرس، وهذا الفهم لمفردات العالم والتعامل معها كأرواح تتحرك في اللامرئي، كما البشر في المرئي، وأيضا ذلك الحس العفوي بجماليات بصرية شكّلتها الروح وبلورها الغموض، لهو حضور ضاغط كثيف مؤثر وموقظ للشعور الناعس بالحياة في قلب المشاهد ولو وقت المشاهدة فقط، فما بالنا بحشد من هذه الغيلان الخارقة الجمال!

هذه الأعمال التي هي مزيج من فن وعقيدة وخرافة وروح قبَلية وأسلوب حياة وزمن بعينه، رغم وحشية جمالها وعبقرية حلولها الشكلية، تبقى فنيتها أسيرة ذلك الدَرج العقائدي الخرافي القبلي، كما هي أسيرة زمنها، وليس هذا بعيب، بل هو قانون السيرورة! لكن هذه مناسبة للتأمل في الروح الحرة للفن الحديث، الغاسلة عن نفسها براثن الخرافة والعقيدة والقبلية، في سعيها نحو الفن الخالص، إلى نبعها الصافي الذي هو الوجدان الإنساني يبصر جماله بنور التفكير وليس بغبش الخرافة.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي