الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا... انها ليست كفي !

حيدر الحيدر

2009 / 5 / 11
الادب والفن



أجزاء جسمي الحقيقية ُ كلها كانت تعود لي ،
ساعة خرجتُ مبكراً صباح هذا اليوم من اجل التبضع لشهر رمضان .
كان رأسي مثبتاً برقبتي التي تدور ضمن حدودها فوق جذعي
الّذي تحمل ثقله طرفايَّ السفليان ،
أما طرفايَّ العلويان فكانتا تتحركان بمرونة ٍعند إتصالهما بالمنكبين .
وهكذا كانت تعمل بنشاطٍ وإنتظامٍ جميع أجزاء جسمي ...
أما عيناي اللتان تغوران بتفاصيلهما الدقيقة داخل تجاويف رأسي ،
فكانتا تتجولان بعدستيهما الصغيرتين في رحاب ذلك السوق الكبير ،
الّذي قصدته هذا الصباح .
شعرتُ بالارتياح وغمرتني نشوةٌ عارمةٌٌٌ وكأني أرى الفرحة ترتسم ُ من جديد
في ذلك السوق القديم منذ سنين ثقالٍ اتعبتنا عناوينها .
الباعة بمرحهم المعهود وعباراتهم الساخرة إفترشوا الارصفة الضيقة ،
وكلٌ يُروِّج لبضاعته وبطريقته الخاصة ....
العدستان تتحركان بشغفٍ وهما تحاولان إستباق الزمن في التقاط المشاهد
ونقلها لحظةً بلحظة ٍ الى مركز القيادة في الرأس بكم ٍ هائلٍ كثيفٍ من الصور :-
[ تلك طفلة ٌ يطير بها الفرح ُ وهي تُمسك بيد أمها ، لقد ابتاعت لها دمية ً صغيرةً
وعلبة شكولاته ودفاتر مدرسية تُرفرف في سماء اغلفتها فراشات بألوان الاقلام
التي رتبتها داخل حقيبتها المدرسية الجميلة ، ليستقبلها الصف الاول،
بعد ان تهيأت المدارس لفتح ابوابها معلنة عن بداية سنةٍ دراسيةٍ جديدةٍ بكل معانيها ...
تنتقل العدستان لصاحب متجرٍ يعرض بضاعته بأمانٍ ،
يتسلم بعض الأوراق النقدية من احد المتسوقين ،
يتفحص بسخريةٍ صورة المهزوم الهارب مبتسماً بخبثٍ عليها .
ينفثها ببصقةٍ متقززاً من بشاعتها ، ويرميها في درج خزانته
بإنتظار إستبدال العملة الجديدة بها .....
إنتقالة بالعدستين لزاوية أخرى ...
إمرأةٌ عجوز ٌ إتخذت مساحة ً ضيقةً من الرصيف مكاناً لبيع الشاي ..
جلس من حولها عمال بناء كُلفوا بترميم بناية ٍ مجاورةٍ ، دمرت الحرب اجزاءًمنها .
ربما كانت العجوز مضطرة لهذا العمل الّذي لا يناسب شيخوختها ،
ولعلّها فقدت من يعينها من اولاد ٍ في حرب ( البسوس ) ... !
بالقرب من المكان معوَّق حربٍ توكأ على عُكازةٍ شُدت أجزاءها بخرقٍ خضراء اللون
اللون جاء بها من مرقد ( أحد الأولياء الصالحين ) تبركاً ، يتنقل بمشقةٍ بالغةٍ ،
وهو يبيع أعواداً من البخور الهندي ...
تستمر العدستان في تجوالٍ سريع ونشاطٍ غير معهودٍ وهي تلتقط الصور
في تتابع ٍمنتظمٍ ٍوتبثها الى الدماغ الّذي أخذ يفسر الأشياء بسرعةٍ
خشية أن يتخلف عن الكومبيوتر الحديث .
في خضم ذلك الزحام الشديد تنتقل العدستان لتثبا صوب نحيفٍ هزيلٍ أصفر الوجه ،
بلحيةٍ كثةٍ ، تدور عيناهُ الجاحظتان بإرتباك وترقبٍ غامض ،
وهو جالسٌ خلف مقود شاحنةٍ لا أظنها كانت تحمل ُ لعباً للاطفال ]
إنتبه لنظراتي فإرتجفت كفه اليمنى التي كانت تُخفي شيئاً ما .. !

كل شئٍ كان يبعث على الإطمئنان قُبيل ان تضغط اصابعه الشيطانية على ذلك الزر الأسود .
وفي لحظةٍ خارج حدود الزمن الجميل إنفجرت الشاحنة ،
وتحول المكان لهباً مشتعلاً بفعل دوي عاصف ٍ إهتز على إثرها ذلك السوق الكبير .
تطايرت الأشلاء لترتطم بما يُحيط بها ، وإنطلق الدخان لاهثاً مغلقاً أبواب النجاة .
حينها أدركتُ أن رأسي يطوف مُحلقاً في الفضاء يبحثُ عن مكانٍ يستقر فيه .
وبين المسافة الزمنية تنقل ُ واحدةٌ من عينيه بعدسةٍ مشوشةٍ صوراً ،
تختلف عن سابقاتها من الصور :-
[ تتهشم الاباريق في موقد النار ويلتصق جسد العجوز بجدارالحائط القريب منها ،
بينما تلتف عباءتها بأحد أعمدة الكهرباء لتصبح راية حداد فوق أشلاء زبائنها ،
الّذين لم يهنؤا بشرب الشاي .
أطراف الطفلة تُمسك بدميتها الصغيرة ورأسها يعانق صدر أمها الممزق ...
تتناثر دفاترها وأقلامها الملونة حول جسدها الناعم ،وهي تسرح في نومٍ أبدي ٍ
تحلمُ بترديد : دار.. داران .. دور .
التاجر البدين يتوارى داخل متجره المحترق،
وتندمج أنفاسه بنغمات الدخان المتصاعد من دُرج خزانته ،
فما عاد بمقدوره إستبدال العملة .
أما بائع البخور فقد إنشطرت أجزاءه فوق الطريق وعلى كل بقية منها
عود بخور مشتعل يفوح برائحة المقابر في موسم حصاد الأرواح ]
وأخيراً يستقر رأسي عند ناصية الطريق .أشعر بدوارٍ وغثيانٍ ،
تُسدل أجفاني ستائرها بهدوء ٍ وأنا اُغادر ذلك المسرح الرهيب ...
أفتح عينيفي قاعة تفيض بالضياء ، أجد رأسي محمولاً بين كفّي مخلوقٍ غريب ،
موشح بالبياض .
صرخت به : الى اين تريد برأسي ؟
أجابني ببرودٍ : لألحقه ببدنك ...
شعرت بنوع من الرضا بعد أن الصق رأسي برقبتي التي كانت دائمة الاتصال ببدني .
نظرت الى جسدي فوجدته بساقٍ واحدةٍ أما الثانية فلم أظفر برؤيتها ،
شأن ساعدي الأيمن الّذي لا أعلم أين إختفى !
يتقدم مخلوق آخر وهو يحمل ساقاً بقدم غريبة ليلصقها بصابونة رجلي .
صحت به : ويحك ... هذه ليست بساقي .
أجابني مبتسماً : نحن أدرى بك منك بساقك .
ضحكت من قوله ،
وقلت له : ألا ترى إني أحتذي حذاء ً اسود ،وتلك الساق بقدم ٍ تحتذي ( بوتين ) ؟
أغلق فمي بكفه وقال لي هامساً :أس .. نحن لا نتدخل في السياسة .. !
جاء آخرٌ بساعدٍ تدلت منها كف ٌ بأصابع ضاغطةٍ على زرٍ اسود .
وقف بميمنتي وهو يحاول إلصاقها بعضدي الأيمن من المرفق .
تساءلتُ كف من تكون هذه .. ؟
وصحت به صارخاً : أنا لست صاحب هذه الكف ..إنها ليست كفي ..
إخلع هذه الكف وتلك القدم عني .. إرفعهما عن جسدي .
ضحك مني فازداد صراخي حتى إنحبست انفاسي .
تنبهت لنفسي ممدداً فوق سرير ٍ أبيض ، مبتور الساعد وبساقٍ واحدةٍ
وحين حاولو إسناد ظهري لوسادة السرير ،شعرت بثقل في رأسي .
نظرت في المرآة التي أمامي بتلك العدسة المشوشة ،
رأيت وجهاً ممزقاً لا يشبه وجهي ،
تجاوزتُ وجهي المهشم وساقي المبتورة ،
وركزتْ عيني الوحيدة نظراتها الثائرة صوب أعلى اليمين من جسدي ..
وبدأت أصرخ : تلك الكف لم تكن كفي ....
أكاد لا أصدق .. كيف حدث ما جرى ولماذا ؟؟
إن أجزاء جسمي الحقيقة كلها كانت تعود لي ساعة خرجت مبكراً هذا اليوم
وقبل أن تلمح عيني ذلك الإرهابي البغيض وتلك الكف الرعناء بأصابعها الغادرة
.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيدر الحيدر ــ 30 / 9 / 2003
من مجموعتي القصصية ( أصداء تدوي في فضاءات أحلامي )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال