الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنفلونزا الخنازير

أماني محمد ناصر

2009 / 5 / 12
كتابات ساخرة


على الشاطئ الرملي للبحر، جالسة كنتُ وحدي، على يميني فنجان قهوة وكوب ماء، وسيجارة لم أعتدها إلاّ في ذلك اليوم، وقبالتي يجلس على طاولة أخرى، ذات المسؤول الذي رأيته للمرة الأولى في العاصمة، والذي طردني من مكتبه حينما علم أنني لستُ صديقته المسؤولة الفلانية التي كانت تنتظره في الخارج وأخطأ الحاجب بيننا وأدخلني عوضاً عنها!!!
كالعادة، كان حوله رجال يشبهون المصارعين الأميركيين...
كنتُ أستذكر ماضيي الرهيب، ماضي مواطنة مقهورة لحد الألم والوجع، من مسؤول يركب أفخر أنواع السيارات لتقله لأفخم الفنادق في ذات الوقت الذي تنتظر به بفارغ الصبر الباص الأخضر الطويل كي يقلها لوظيفتها...
من مسؤول يأكل الكافيار في ذات الوقت الذي تكون حصتها من الفلافل حصة القط الجائع دوماً...
من مسؤول كل مفاتيح الكون معه، مفتاح رصيده البنكي، وسياراته الفارهة، ومنازله المتنوعة، ويخته البحري، ومعامله وشركاته، في ذات الوقت الذي تعتز فيه أنها كبرت وقدّم لها ذويها مفتاح منزلهم (الباطوني، نسبة إلى الباطون) الحجري...

التفتُّ إلى حقيبتي لأتناول منها علبة كبريت صغيرة لأشعل سيجارة، وهج الشمس جعلني فجأة أطلق العنان لتكشيرة من حاجبي الأيسر كما يطلقها مواطننا المغلوب على أمره حينما يصل لسمعه زيادة أسعار المواد الغذائية...
بحركة لا إرادية خبّأت وجهي بين يدي، كما يخبئ المسؤول العربي وجهه حينما يمر أمامه مواطن اختلس منه مالاً مقابل وظيفة له لن ترى النور (اختلس المسؤول من المواطن)...
وعبثاً فتشتُ عن علبة الكبريت ولم أجدها!!!

بصارة بصارة، تحبي آخد بختك يا بت؟
قلت لنفسي ولمَ لا، لأجرب بختي...
ناديتها
شوفي اسمك إيه يا شابة؟
اسمي ريا، أقصد أماني...
بيضي البخت...
يعني إيه...
يعني ادفعي فلوس
منين؟
مش عارفة، ادفعي وبس

التفتُّ ثانية إلى حقيبتي لأتناول منها مالاً، وقعت عيني في عين المسؤول، رجفت، ارتفعت حرارتي، عطستُ، وركض كل رجاله ليضعوا كمامة على وجهه، خوفاً من انفلونزا المواطن العربي المقهور على أمره!!!
فتشتُ عبثاً عن خمسين ليرة كانت في حقيبتي ولم أجدها...
تناولتُ ساعتي وقدمتها لها، قائلة:
- لا املك غيرها
لا أدري كيف رضيَت بها وعلى مضض... المهم أنها رضيت وقالت لي:
- اسمعي يا بت يا أماني، أمامك 3 مفاتيح، ماشاء الله ماشاء الله
- كم؟
- أقولك 3 مفاتيح!!!
- يعني إيه؟
- مش عارفة، حكتبلك حجاب تحطيه تحت مخدتك، وتنامي وتشوفي المفاتيح في منامك وتعرفي هيّ خاصة بإيه؟

ورحت أفكر في هذه المفاتيح، هل هي لشقة وسيارة وشركة؟
رصيد في البنك، ويخت، ومقعد في المجلس النيابي؟
لماذا التسرع؟
سأنفذ ما قالت وأرى
ولأني مواطنة عربية مغلوب على امرها، تعلقت بتلك القشة، قشة الثلاث مفاتيح وصدّقتُ القصة!!!

ذهبتُ إلى المنزل، وعلى رؤوس أصابعي مشيت وفي يدي الحجاب أقبض عليه كما يقبض المسؤول العربي على كرسيه الجالس عليها...
وضعت الحجاب تحت وسادتي كما أوصتني البصارة، ونمتُ قريرة العين هذه المرة دون الحاجة لابتلاع حبة دواء منوّم، إذ أنني سأرى مستقبلي كله متجسداً في مفاتيح حلم اليوم...
ورحتُ في نوم عميق عميق، لأرى نفسي أمام ذات المسؤول الذي يلاحقني أينما كنتُ،وبيده الخمسون ليرة التي لم أجدها في حقيبتي!!!
قلتُ له: حتى هذه سرقتها مني؟ نظر إليّ شذراً مقدّماً لي المفتاح الأول، دهشت، وفرحت، بل لم أستطع التعبير عن فرحتي، بالتأكيد هو مفتاح لمكتب المسؤولية، وأشار لي بأن أتبعه...
تبعته وطعم القهوة التي رشفتها على شط البحر ما زال عالقاً على شفتي، أشار لي إلى بقعة من الأرض، ودون كلمة طلب مني أن أذهب إليها...
ذهبتُ فرحة، بل ركضتُ ركضاً قبل أن أجفل من قبرٍ مفتوحٍ أمامي، التفتُّ لأسئله، فلم أره، عدتُ لأتأكد مما أشاهده، وإذ بيد على كتفي وصوت المسؤول ذاته يقول لي:
هذا هو المفتاح الأول!!!

أردتُ أن أسأله والمفتاح الثاني لمَ طالما آخر المطاف في الحياة هو القبر، فأسكتني بإشارة من يده وطلب مني أن أنزل هذه الحفرة!!!
نزلتُ مرغمة، بل مجبر أخاك لا بطل، وأغمضتُ عيوني، وإذ بي أرى مفتاحاً في يدي، وباب من حديد، سررتُ جداً، لأشعر فجأة بيد ذات المسؤول توضع على كتفي طالباً مني أن أفتح هذا الباب بالمفتاح الذي بين يدي..
ركضتُ ركضاً وأنا أفكر بما في داخل هذا الباب...
وضعتُ المفتاح بالثقب، يالله، الباب لم يكن مقفلاً، فتحته، وإذ بنار تلسع وجهي، رجفت، جفلت، وتراجعتُ للوراء، باب نار جهنم فتح أمامي!!!
لأسمع صوت المسؤول العربي يقول لي:
هذا جزاؤك في الدنيا الكي بالنار، بنار لن ترينها أبداً...
سألته لماذا؟
أجاب: لأنك مجرد مواطنة عربية لا قيمة لك إلاّ بما تقدمينه لنا من جيبك
قلت له: لكني معدومة الحال
أجابني وهو يقدّم لي المفتاح الثالث وبيده سيجارتي التي لم أرشف منها رشفة واحدة، وعلبة الكبريت ذاتها:
-ولذلك سيكون مصيرك كل يوم ما سيحصل معك من استخدام هذا المفتاح...
نظرتُ إليه شذراً، ثمّ عانقت المفتاح الثالث والأخير على أمل ان أخلص من هذا الكابوس الرهيب الرهيب!!!
وبإشارة منه، عرفت وجهتي، ذهبت بالاتجاه الذي حددته أنامله، ووجدتُ باباً، على الفور قمت بفتحه ، وهج الشمس جعلني فجأة أطلق العنان لتكشيرة من حاجبي الأيسر كما يطلقها مواطننا المغلوب على أمره حينما يصل لسمعه زيادة أسعار المواد الغذائية... لأرى نفسي بعدها أمام فضاء واسع والأرض من تحتي والسماء من فوقي، قررتُ العودة كي لا أقع على الأرض من هذا المكان الشاهق، وإذ بيد ذات المسؤول تقدم لي كوباً من الماء وتدفعني يده الأخرى من الباب، لأُرمى منه إلى الأرض، وأحاول جاهدة شرب كوب الماء كي لا أموت عطشى، وإذ بالماء يتناثر من يدي، لأستيقظ مبللة في فراشي وحرارتي مرتفعة ترافقها نوبة من العطاس الشديد، وأختي فوق رأسي تمسح عرق وجهي قائلة:
فهمت... فهمت... الكابوس ذاته!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
العراقي ( 2009 / 5 / 12 - 06:34 )
موضوع مميز بمعنى الكلمة .......وكنت امنى ان نرى اكثر من ثلاث مفاتيح ............واحلاما سعيدا مستقبلا


2 - هل لازال الباص الأخضر الطويل
أبو هاجر : الجزائر ( 2009 / 5 / 12 - 12:30 )
الأستاذة اماني المحترمة هل فعلا لازال الباص الأخضر الطويل ، ام مجرد استلهام لوقائع ماضية .لأن ذلك الباص عرفته في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ولي معه حكايات وأنا القادم من الجزائر الجديد على المجتمع السوري.بداية من الشراشيف و أشرطة الكاسات و الأضواء المختلفة لقد شبهه أحد الأصدقاء بكباريه متنقل .لازلت أتدكر سائق الباص الأخضر الطويل وهو يتناول الشاي ويستمع لأغنية اشتهرت في بداية الثمانينيات لمطرب يدعى فؤاد غازي إن لم تخني الذاكرة كان مطلعها يقول راح أزرعلك بستان ورود .ولقد كنت داخل الباص الأخضر الطويل في حادثة الأزبكية كنت قادم من اتستراد ركن الدين ولما وصلنا امام سنما السفراء وقعت الحادثة يعني دقائق معدودات بيني وبين الموت وهناك حكايات أخرى مع الباص الأخضر الطويل .كما لي حكايات مع السرفيس. اما الهوب هوب فذاك حديث آخر ،طبعا انا أتحدث عن فترة لا تعرفينها .


3 - تـأيـيـد كــامــل
أحـمـد بـسـمـار ( 2009 / 5 / 12 - 16:36 )
مقال ناعم لذيذ القراءة, رغم بساطة موضوعيته وتخيلاته. فشة خلق مقبولة من الكاتبة التي اؤيد مطلبها لدى الحوار المتمدن بالعودة إلى عنوان مقالها الأسـاسـي, وعدم تغيير أي حرف منه.كما أنني أستغل هذه الزاوية قرب إدارة الموقع لأطالب بإفساح مزيد من المجالات للنساء الكاتبات حتى تتعادل مع الرجال عددا.. وفـكـرا!!!...
أحمد بسمار مواطن عادي بلاد الله الواسعة.

اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا