الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن الوطن في أزقة المنافي !

جمعة الحلفي

2004 / 4 / 21
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


عندما صدر (كتاب العراق) عام 1995 وهو مجلد ضخم وأنيق يضم أكثر من 700 صورة فوتوغرافية، تؤرخ للحياة العراقية، منذ مطلع القرن الماضي حتى منتصفه، أعددت بعض الأسئلة لحوار مقترح مع صاحب الكتاب، الصديق، عامر بدر حسون، وكان من بين تلك الأسئلة السؤال التالي: في بحثك الدءوب والمضني عن الصور والوثائق القديمة، تبدو وكأنك تبحث، في هذا الركام، عن وطن مضاع، فهل عثرت على مبتغاك؟ وماذا تعني لك صورة العراق القديمة مقارنة بصورته الحالية؟
ولظروف مختلفة لم تتح الفرصة حينها لإجراء ذلك الحوار مع عامر ، لكنني، وبعد خمس سنوات، وجدت جواباً على سؤالي ذاك، مجسداً في ثنايا كتابه الجديد (كتاب سوريا) وهو الآخر مجلد ضخم وأنيق أيضا يضم المئات من الصور عن الحياة السورية، خلال الخمسين سنة الأولى من القرن الماضي، جمعها عامر من المكتبات والمؤسسات ومن الأرصفة، حيث باعة الكتب والمجلات القديمة (وراقو القرن العشرين كما يسميهم) وكذلك من بيوت الأصدقاء (السوريين طبعاً!).
يقول عامر، في مقدمة كتابه، بما يشبه الإجابة عن سؤال مضمر: في سوريا أستطيع أن أحن إلى العراق دون أن أتذمر من المكان الذي أنا فيه، على عادة المنفيين عن بلادهم، لعلني أحبها لهذا السبب، أو لعلها هي التي تذكرني، عامدة، ببغداد، بل هي التي تطالبني بأن تبقى دجلة في البال وبغداد في القلب!
إذن، الحنين هو الذي حمل عامر ليقضي سنوات عدة في البحث عن صورة الوطن فوق الأرصفة، أو في أزقة المنافي، فبعد أن تأكد أنه لن يعثر عليه لا في المكتبات الكبرى ولا في مراكز البحوث، ولا في الواقع، راح يبحث عنه على الأرصفة… هكذا يقول: من على الرصيف جمعُّت وطني صورة صورة… خمسة عشر عاماً، احتجتها كي اجمع صور الوطن، الذي نأى عن أهله في فوضاه وحروبه وقسوته.
والى جانب الحنين هناك أسباب أخرى حملت عامر على خوض هذه المغامرة المرهقة، مغامرة البحث عن الوطن في الصور القديمة، من بينها محاولة سد النقص في ميدان التوثيق بالصورة، الذي أهملته الحكومات المتعاقبة في العراق. فمنذ مئات السنين والعراق يعيش حالة فقدان الاستقرار، أما الحكام الذين مروا عليه فقد كانوا يتصرفون، كحكام عابرين. كانوا قليلي الوعي بأهمية الماضي أو التراث، كما يقول عامر، ولأن الإنسان عدو لما يجهل، لهذا طالما شعر هؤلاء الحكام بأنهم مهددون من ذلك الماضي أكثر مما هم مهددون بالمستقبل، والحال أنك لا تجد في العراق، إلا نادراً، لوحة على مدرسة أو جامع أو شارع، يشير إلى أنه افتتح من قبل ملك أو حاكم سابق.
لكن ما الذي يميز الصورة عن بقية الفنون الأخرى، كالشعر والقصة والرسم، فهي أيضاً تملك القدرة على التوثيق وعلى استعادة المكان والمشاعر والملامح والذكريات، فلماذا الصورة بالذات؟ ويجيب عامر متسائلاً: لكن من قال أن الكلمات محايدة ودقيقة؟ من يضمن أن استعارة الذاكرة المكتوبة ونقلها من كاتب لآخر، يمكن أن يوصلها كما هي دون إضافات؟ حتى اللوحة الفنية تعبر عن رأي أو رؤية صاحبها أكثر مما تعبر عن الواقع، فهل تتحول صورة البلاد البعيدة إلى أرض ميعاد أخرى مشغولة بالحليب والعسل؟ قد يكون هذا جميلاً للوهلة الأولى، لكنه في النهاية ضد أشياء عديدة، ضد التاريخ وضد الحقيقة، وضد الواقع الذي مازال ممتداً هناك وهناك، لهذا فمن بين جميع هذه الوسائل (هذه الفنون) تقف الصورة مميزة في حياديتها وانشغالها بتصوير المكان والحياة كما هي.. في هذه اللحظة.
أَجل إن زاوية الكاميرا…. قد تعبر عن رأي ما، عن وجهة نظر ورغبة في إبراز شيء وإخفاء آخر، لكنها رغم ذلك تبقى الأكثر حيادية.. فهي تقول لك: الحياة كانت هنا، في هذه اللحظة بالذات، ومن هذه الزاوية كما تراها الآن في الصورة.. كما تراها الآن وليس شيئاً آخر، فالشيء الآخر خارج عين الكاميرا.
في كتاب سورية يكرر عامر بدر حسون لعبة البحث عن الوطن في الصور القديمة، لكن هذه المرة في حارات دمشق وأزقتها، فمن بين مدن كثيرة زارها أو عاش فيها، استهوته فكرة العيش أو النفي في دمشق وحدها، وهكذا قررت، كما يقول، البقاء فيها منذ أول زيارة لها، لكنني احتجت إلى وقت طويل لأعرف لماذا اخترتها. فهل هي ذاكرة المكان؟ نعم ذاكرة المكان، فالإنسان لا يألف المكان بسهولة إن لم يجد في ذاكرته ما يشبهه. وفي دمشق كان عامر، ومن دون قصد، يفتش عن بغداد وعن مدن عراقية وكان يجد بعضاً من هذا.
يقول عامر: في دمشق، القديمة تحديداً، كنت أرى عتبة باب البيت والدربونه والشناشيل، التي توشك على عناق بعضها، والأسواق المسقفة.. فتهدأ روحي قليلاً ويقل إحساسي بالغربة، وأنا أجد ما يذكرني بمدينتي العراقية في هذه الأزقة.
حتى في الصور التي تؤرخ للحياة السورية ينقّب عامر عما يمت بصلة إلى العراق، فهذه صورة للحفلة التي أقيمت في أيار العام 1933 احتفاء بوفد كشافة العراق، وتلك لحفل تكريم الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي في العام 1935 وثالثة لوفد المحامين ورابعة لسيارات النيرن القديمة، التي كانت تنقل الركاب بين دمشق وبغداد. لكن ليس في هذا بالطبع ما يقلل من القيمة التوثيقية الخاصة بالحياة السورية، فهذه الصورة أو تلك لا تشكل، في الواقع، سوى نسبة ضئيلة أمام صور الحياة السورية، بل هي جزء من هذه الحياة نفسها ولا تحمل من العراق سوى تلك الرائحة، التي تثير شهية عامر وتدفعه إلى المزيد من البحث والتنقيب.
في (كتاب سوريا) حشد عجيب ومثير من صور الحياة بمختلف مناخاتها وأحداثها ومفارقاتها وتأريخيتها، فهناك صور لرسومات فنانين ومستشرقين من أمثال البريطاني شارلز روبرتسون والأميركي ادوار تروي، تعود إلى نهاية القرن الثامن عشر، وهناك صور للأسواق والخانات والجوامع والكنائس والمقامات المقدسة. تعود إلى بداية القرن الماضي، وهناك صور لمواقع وأحداث كبرى من مثل دخول قوات الثورة العربية إلى دمشق 1918 ، وكان على رأسها الملك فيصل والجنرال اللنبي. وحريق دمشق الشهير 1925 والجلسة الافتتاحية للبرلمان السوري 1932 وتظاهرات أهالي لواء الاسكندرون احتجاجاً على ضم تركيا له 1929 هذا إضافة إلى صور نادرة لقادة سوريا ووجوهها الاجتماعية والثقافية والفكرية والمهنية من بينهم عبد الرحمن الشهبندر وحقي العظم وإبراهيم هنانو وتاج الدين الحسني ومحمد علي العابد وشكري القوتلي وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعطا الأيوبي وسعيد الجزائري وطاهر الجزائري وفخري البارودي وأبو خليل القباني وعلي درويش وعمر البطش وصالح الجندي وغيرهم العشرات.
(كتاب سوريا) بمقياس الجهد والتوثيق وحسن الاختيار، اثمن وأجل هدية يمكن أن يقدمها المرء لمكان أحبه… وعامر بدر حسون أناب عن العراقيين، ممن أحبوا الشام وتآلفوا معها، في تقديمه لهذه الهدية الثمينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن أسقاط 4 صواريخ -أتاكمس- فوق أراضي القرم


.. تجاذبات سياسية في إسرائيل حول الموقف من صفقة التهدئة واجتياح




.. مصادر دبلوماسية تكشف التوصيات الختامية لقمة دول منظمة التعاو


.. قائد سابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: النصر في إعادة ا




.. مصطفى البرغوثي: أمريكا تعلم أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدف حر