الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحافلة

يوسف اليوسفي

2009 / 5 / 23
الادب والفن


الصيف كائن عدواني....خصوصا لمن لا يملك تمضيته بين الرمال و الماء الازرق المنعش
و هو عدواني أكثر اذا كنت تنتظر الحافلة....في منطقة جرداء...دون واق او ظل ظليل...و هناك كنت
تحت نار الشمس...و في رحمة الحافلة التي قد تخلصني من انصباب كل هذا اللهب فوق رأسي....لكنني كنت اعلم انني احلم...فرحمة الحافلة بطيئة كسلحفاة عجوز...و انتظارها قد يدوم لساعات طوال...و لا مفر
لا وسيلة نقل اخرى...الامل سراب يختفي ما ان تقترب منه
الانتظار....الانتظار...الانتظار
انا هنا أترقب الحافلة الاسطورية...الموظف ينتظر أخر الشهر او ترقية وهمية...المراهقة تنتظر فارس أحلامها...الشاب ينتظر شفتين أو فخدين يدخل بينهما...الزوجة تنتظر بعلها في قاع البيت....الزوج ينتظر النادل ليطلب بيرة أخرى...العاهرة تنتظر زبونا متخما بالمال....المؤمن ينتظر الفرج...العجوز ينتظر الموت
كلنا ننتظر شيئا...و الانتظار في الشرق اللعين مهنة و فلسفة حياة...طريقة عيش سوداء ترضى بالزمن الذي لا يرضى باحد
في محطة الوقوف كنت واقفا...منتصبا كنخلة...كان بجانبي رجل خمسيني يحمل على وجهه زمنا من البؤس...و امرأة سمينة مع ابنها الذي بدى لي اصفر اللون بشكل مرعب
كنا مستسلمين لعطف مصلحة الحافلات الوطنية...نرقبها كالبراق الذي قد يحملنا الى الجنة...و الجنة في هاته اللحظة كانت كل مكان ليست فيه الشمس...حتى لو كان مرحاضا او قبرا
اقترب مني الرجل ببطئ ...جبهته تلتمع بحبيبات العرق المالح...سألني
هل تعلم يا بني متى سيأتي الطوبيس؟
أسنانه مسوسة و شفتاه زرقاوان...يبدو انه مدمن على الكيف...اجبته
لا يا حاج...توقيت الطوبيس عشوائي..و يمكن ان يتأخر طويلا
...نظر الى الارض...و زفر زفرة شممت فبها رائحة الموت الاكلينيكي و قال
شكرا يا بني...ماذا سنفعل..لننتظر
لو كنت رساما لاتخدت هذا الرجل المنهوك مثالا على البؤس و الاستسلام في العالم
الاستسلام...انه دائنا العضال...فكرت
الثورة..او حتى الاحتجاج...شيء مجهول في أراضينا...لا نعرف له طعما او لونا او رائحة...ربما لانه في كل تاريخنا نادر..او مطموس...لا احد يريده او يرغب حتى ان يفكر فيه
احذر المخزن...احذر معلمك...احذر من أبيك...احذر من الله
و الحذر هنا مرادف للخوف...و الخوف عشيق الاستسلام...اخوه في الرضاعة الوجودية
ليس في الامكان أروع من ما كان....و مادمت فقيرا موبوئا منهوكا منكوحا من الزمن و الكون...فتلك رغبة الله او طبيعة الامور...ارضى بها و لك الجنة..و احمد الله صبحا و عشية...و قل اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه
لا احد يريد رد القضاء...لا احد يريد أن يقول لماذا هدا القضاء علينا نحن فقط؟لماذا يختصنا نحن فقط بالمعاناة و الصبر المرير؟ في حين ان هناك من يتمتع و يعيش دون حسيب أو رقيب؟دون قضاء و قدر
علمونا الخنوع...فصرنا كائنات ناعمة لا تحتج و لا تقول و لا تجرؤ...صرنا قططا أليفا ترضى بالفتات طمعا في الجنة...و التنويم الديني عقار فعال في تخدير الناس
مدد يا قضاء مدد
أفقت من هواجسي على حركة الرجل و هو يتقدم...الحافلة قادمة...أخيرا
توقفت بعيدة عن المحطة بمئتي متر...جرينا لنلحق بها...تعرقت ...ركبت
كانت ممتلئة عن اخرها...علبة سردين أخرى تمشي في شوارع من ملح
أخرجت دراهمي من جيبي و مددت عنقي لأبحث عن الجابي...عرفته عندما صرخ..
تقدموا الى الامام ...الحافلة فارغة من الامام..دعوا الناس يركبون
كان بجابني..و كان حاقدا على الكون و البشرية و كل الحشرات التي تسمى مجازا بالناس
مددت يدي بصعوبة لامده بثمن التذكرة...اخدتها ...أشتريت تذكرة لكي أحشر بين اكوام اللحم البشري...الناس العادية في المجتمعات العادية تدفع نقودها لترتاح و نحن هنا ندفع نقودنا لنعاني
مدد يا قضاء مدد
الحافلة مختلطة...و فيها من كل الالوان
الرجل الذي كان امامي كان يتحرك بطريقة غريبة...تضايقت لانه داس على قدمي أكثر من مرة...ماذا يفعل هذا الكائن؟
اوو...هناك فتاة امامه...فتاة محتجبة..شابة لم تتجاوز الخامسة و العشرين على أكثر تقدير...و المهم انها ذات مؤخرة محترمة...كان الرجل ملتصقا بها كليا...و لا حظت أيضا انه يضع يده اليمنى على جزء من فخدها
اللعنة...الفتاة لا تقول شيئا...تنظر امامها فقط...يبدو انها تستمتع أيضا أو انها تريد ذلك
الرجل ملتصق دائما...تبا لماذا لا تنهره..ألا يسمى هذا تحرشا؟
اللعنة على هذا الكبت؟لو كان هذا الرجل او هاته الفتاة شبعانين جنسيا لما تناكحو بسطحية في قلب الحافلة...اللعنة على هذا الحرمان الذي ينهك الشباب...اللعنة على سبب الحرمان
تذكرت الزواج...و تكاليفه..و متطلباته التي تكاد تكون خرافية...لماذا الزواج؟لماذا لا يتمتع الناس ببعضهم بدون عقد و هموم؟لا احد يدري...او بالاحرى الكل يدري..لكن لا احد يجرؤ على الجواب
الله حرم الزنى...او الجنس بين غير المتزوجين...لكن أليس حراما و جرما أن يبقى الشاب محروما و الزواج شبه مستحيل قبل الثلاثين؟ أليس حراما ان تبقى الفتاة المتفجرة بالرغبة سجينة سريرها الفارغ في انتظار العريس الذي قد لا ياتي؟
مدد يا قضاء مدد
الرجل لازال ملتصقا...ما بين فخديه منتفخ...الفتاة صامتة و تابثة
النكاح الفوقي مستمر...انه يستمتع...انها تستمتع...او هكذا ظننت...الم يقولوا الصمت علامة الرضى...انها راضية
و الحافلة تمضي
تمضي
و انا أحس بالذوبان...و الاندثار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحافلة ... أو نعش الموتى الأحياء
فراس الفتلاوي ( 2009 / 5 / 23 - 09:12 )
هو الكائن ,, صرح هائل من ركام أحلام و إنتظارات , تدكه الشمس دكاً , لينزف أوجاعه المألوفة -راضياً محتسباً- في حضرة المتورمة كروشهكم بالسحت , و المنهمكة قضبانهم -بمفاخذة الرضيعة- , و الموبوءة ألسنتهم بأسماء -الصنم- الحسنى ...

بكل دعة الأرانب ,, ينزف الكائن صبراً حيال أرباب الحل و العقد إرضاءاً لكبير أصنامهم الذي يدر بنكاً تأريخياً يدر عليهم ذهباً أحمراً ...

بكل شراسة و نقمة و جبن الضباع ,, ينهش الكائن ذاته و عياله ...

في عرض لا نهائي ,, يدور فيلم -الحافلة- كرحى تطحن الأمنيات الجافة ... يغفو الكائن على وسادة هائلة من ملح , تتسع لكل الأحلام النافقة ...

موقف الحافلة ,, سيشهد إلى إشعار آخر , نزيف صمتهم الأبدي و هم يلحسون عسل الإنتظار بلسان فاقد للذاكرة ..

يوسف اليوسفي ,, صديقي المرهف و المبدع , برغم أجاج الملح الذي أمطرت به ذاكرتي و صمت الصامتين ,, و برغم تأريخ العمائم و الأصنام و العسف الذي أودى بك إلى هذه الكتابة , و أودى بي و بك إلى غيابة منافٍ نعلم يقيناً أنها تمسح تأريخنا الجديد قبل أن نكتبه .... برغم كل هذا أسعدتني بسرديتك أيها الجميل ...

فراس الفتلاوي / أسفار

اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس