الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاطع في حيّز العابر

يوسف ليمود

2009 / 5 / 26
الادب والفن


طريق
عشرون عاما. عشر سنوات من الرسم متكومات في ركن الغرفة: لفائف قماش، ورق، وألواح خشب. وعشر من التيه سابقات عليها. تيه! ما أجمل اللفظ وأقسى المعنى! هل الفن بحث عن الذات (طريق)؟ أم هو يبدأ بعد أن يجد الرسام الطريق؟ لا إجابة قاطعة في مجال كهذا على سؤال كهذا. ربما في السديم يكمن سر الفن. عشر سنواتٍ لفائفَ في ركن غرفةٍ ليست أمرا مدهشا، فالحياة متكوّرة في ركن من الكون منذ ملايين السنين. لكنه يندهش لتبخّر سنوات التيه، ومن دون أثر مادي في زاوية ما. أثرها في الدماغ فقط، كطبقة الدهن التي تراكمها أبخرة المطبخ على غبار الرفوف.
ماذا لو أحرق لفائف السنين العشر الأخيرة، هل يضيع الأثر؟ هل يفقد الطريق؟

صرير
الثانية ليلا في لحظة سأم، أطفأت الجهاز الذي لا أطفئه حتى حين أنام. مع اندحار الصرير ارتفع السكون كتمثال غارق انتشلته سفينة راسخة. وارتفع القمر أيضا في سمائي الداخلية، بقبوره وموتاه والأجداث. وامتدت صحرائي كنسيج عنكبوت معلق بين أزلٍ وأبد. وعدتُ ذلك البدائي الحافي أتجوّل في عسل عروقي ورَخامة أعضائي: أكبر من سر، وأعمق من هاوية.
الأشياء غارقة في ذواتها. والنور؟ هو الشيء الوحيد في هذا العالم الجانح عن نفسه. لا ينتظر مقابلا. هو عطاء ليس أخذا. لذا، فالقمر كائن إنساني تماما: أخذٌ (من الشمس)، وعطاءٌ (للأرض وغيرها).
الموتى يعودون إلى السوق بأقنعة جديدة لكن من دون ذاكراتهم القديمة، ويخترعون الأعياد. أميّز أنا السوقَ من العيد. أهرب من السوق وتجاره وزبائنه. كما أني لم أحب العيد مذ كنت طفلا. أعياد الموتى موضوعة في أُطر.
العيد معنى آخر: معجزة هذا الصمت!


حلم
أعمق الأحلام لا تزوره إلا في أعمق النومات، في عمق التعب. هذا على الأقل ما رصده. رأى السماء السوداء نجومها مضاعفة عشرات المرات وقريبة جدا، أو هو مرتفعا جدا كان، لكنه لا يزال على الأرض. أراد التأكد من أنها نفس السماء الدنيا فبحث بعينه عن الأخوات السبع فوجدهن صرن حشدا يصعب عدّ نجماته. هي السماء ذاتها إذن لكن الأخوات توالدن ربما! (في صغره حكت له أخته عن رجل طيب له سبع بنات احترق بهن البيت وهن نيام فصبر الرجل المكلوم وقال هذا أمر الله فرفعهن الأخير نجوما إلى السماء مكافأة للرجل على إيمانه). فكر، في حلمه، أنْ كم الحياة هشة. نجمة محترقة، أو شهاب ضال يصيب الأرض، سوف يمحو كل شيء في لحظة واحدة. فكر أيضا أن الأنبياء الذين مروا على هذه الأرض لا بد أنهم قالوا كلماتهم من هذا الارتفاع. لكنه، في الحلم، سخر من النبوة والأنبياء. كان السواد أكبر من أي كلام. وكان الجمال مهيبا، رغم الذيول المحترقة والشهب المرشوقة كالسهام في كل اتجاه!


سبت
السبت طقسٌ خاص بي أو لي هنا، بعد أن كان الجمعة في مصر. واليومان، أي السبت والجمعة، سوق القمل (الخردة) يجمع بينهما. لا أدري إن كان سوق الجمعة في امبابة لا يزال على عهدي به! عموما وجدت بديلا له في سوق السبت هنا ولو اختلفت الأجواء اختلاف الأرض عن السماء.
قبل الذهاب إلى السوق ورغم أن النوم استعصى عليّ في الفجر، جذبتني صديقتي فاطمة ناعوت من أذني الطويلة (أنا لها أرنب) في حوار سعيد على الفيسبوك على شرف قصيدتها. استمتعت. ثم ذهبت إلى السوق وعدت بنموذج طائرة نحاسية من الأربعينيات، وجدت، إلى جانب عبقرية التصميم الشكلي، التفاتة شاعرية من المصمم حيث جعل المروحتين على شكل قرص بلاستيك شبه شفاف، يوحي بحركة دورانهما. جميل فعلا. كما عدت بالبيرة نكاية في بنت العم ناعوت. والنبيذ أيضا لنهاية الأسبوع.
الربيع يسبّح بحمد الوجود في الشجيرة التي جعلت من نافذتي لوحة متغيرة الفصول والألوان. وأفكر فيما يمكن أن تقوله الروح لترابها، والعكس أيضا: ما يقوله التراب لمن كان صاحبه!


أحد
"الأحد، غطاء ثقيل على غليان الدم".
تريستان تزارا

لكن لي، ليس بالضرورة أن يكون الأحد غليانا. فصراصير الدم تتسلق مجاري الذاكرة في أي لحظة في أي يوم لتستحضر الحشرات والفراشات التي تورطّتُ معها في تفصيلة إنسانية ما. لا بأس!
تقول صديقتي الشاعرة اللبنانية سمر دياب:
"أقول لدود الذاكرة أنت الذاكرة".

فلينتحل الوقت أسماءً ولتنتحل الذاكرة حشراتٍ كيفما اتفق:
أحد، اثنين، ثلاثاء... و"دوخيني يالمونة".


لقاء
على الرصيف، خارج السوبر ماركت أخذتني أقفاص الطماطم بحمرتها الرائعة (نادرا ما أطبخ بها)، فجأة أيقظني من لحظة الغياب هذه رجل تركي قصير غليظ ملتحٍ، اقترب وجهه من وجهي كقذيفة أصابت الهدف: محمداني؟
بعفوية أسرع من لمح البصر هززت رأسي نعم. وإذا به يحضنني بقوة بغبطة المؤمنين الذين وصلوا إلى باب الجنة وينتظرون أن ينفتح وهات يا بوس في التمثال الذي هو أنا: كل بوسة نفثة هي خليط من مسك وثوم ولا أدري ماذا. في هذا الاشتباك الربّاني حاولت أن أتصيد بؤبؤ عينه كي أحظى بلحظة وصل مع هذه البركة غير أني لم أنجح. كانت نظرته في مكان ما بعيد جدا، وأدركت الخطأ: كان هو أمام باب الجنة وارتاح لوجهي السمح جاراً له على الأرائك متكئون، أما أنا فكنت على الرصيف أمام قفص الطماطم!

أفهم نسبية الزمن، لكني تساءلت إن كان المكان يمكن أيضا أن يكون نسبيا!

حيز
الأشجار على حواف المستطيل الأخضر حبلى بالصيف، والمستجمون في اليوم، تبعثر استرخاؤهم في المستطيل. ذكّرني المنظر بلوحة جورج سورا (بعد ظهر يوم أحد في جزيرة لاجراند جات). إنهم نفس البشر، نفس الحركات والإيماءات، نفس الغياب في الأثير، لكن الحواشي والمفردات تغيرت: القبعات التي في اللوحة اختفت من على رأس الواقع، وجيبات النساء الطويلة أضحت بناطيل جينز أو جوارب ملونة تمسك في أعالي الأفخاذ. الحركة أسرع قليلا ربما، والأصوات مطعّمة بثغاء تكنولوجي، لكن البشر هم البشر. أقل من مئة عام مسحت واقعا وكتبت آخر. في لوحة سورا، الناس والشجر والعشب والماء، صاروا نقاطا دقيقة كما لو اقتربنا بعدسة زوم من حفنة رمل. جالسا على مقعد بزجاجة جعة ولفائف من عجين الأرز محشوة بالخضر وأذيال الجمبري (لفائف الربيع اسمها) صنعتها يد فيتنامية. أحب مطبخ آسيا. بجانبي، في حقيبة الظهر، العدد الثاني من "جسد"، المجلة. أنا مطوي في بعض صفحاتها كلماتٍ وأحرفا، كما ناس سورا نقاطاً سكنوا على سطح لوحته.
انتبهت إلىّ جالسا: كنت جسما ممتصا في حيز من أثير!

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال