الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرمز والأسطورة في شعر بدر شاكر السياب

توفيق الشيخ حسين

2009 / 5 / 30
الادب والفن


مات وهو في السابعة والثلاثين من عمره " غريبا " عن قريته جيكور – كانت البصرة – يومئذ بأجوائهاالتي فيها الشجر والظل والزهر والخضرة تصافح العين اينما نظرت , تفجر لدى الأديب طاقاته الكامنةوتستحيل الحياة في الطبيعة الى مادة شعرية ثرة .. وجيكور قرية الشاعر السياب تقع في قلب هذه الجنة الخضراء .. انها بكل معالمها الأنيسة البسيطة المتفتحة على الشط , هي النسغ والمادة الأولى لشعره .. وغنّاها بصدق .. بقوة .. ورسم جزيئاتها في قصائده حتى موته ...

بين ميلاده عام 1927 ووفاته على سرير أبيض في احدى مستشفيات الكويت عام 1964 , ظلت حياته مزيجا من الألم والتعاسة والحرمان .. مات السياب وترك ثراء ً كبيرا من الشعر الخصيب الذي جعله في مصاف الشعراء العظام بسبب تنوع انتاجه الشعري وغزارته وشموله لكثير من القضايا الأنسانية .. عاش فقيرا وقتله المرض في قمة شبابه الذي انعكس في رثائه لنفسه , ففي وصية له يقول :

( أنا قد أموت غدا ً / فا ن الداء يقرض .. غير ان حبلا ً / يشد ّ الى الحياة حطام جسم / مثل دار تحزن جوانبها الرياح / وسقفّها سيل القطار / ) ..

ايها المسكين يا عاشق الشعر الذي كان لك غدا ً وعدلا .. انك الرائد الحقيقي فنيا ً وتأريخيا ً لحركة الحداثة الشعرية ...

لقد استعمل السياب رمزي المسيح والصليب في اغلب قصائده , ولربما تكرر ورودهما اكثر من مرة في القصيدة الواحدة .. وهذا ما نلاحظه في قصائد ديوان – أنشودة المطر – ان رمزي المسيح والصليب يرتبطان ارتباطا عضويا بمفهوم التضحية أو الفداء والتي تمتد الى طفولة الشاعر ..

يقول عبد الجبار عباس : " ان التضحية عند السياب ليست موقفا مسيحيا , فالمسيح ليس عنده جوهر المضمون وانما هو لون يصبغ به الصورة " .. ففي قصيدة – غريب على الخليج – والتي تمثل غربة الشاعر , وهذه الغربة لم تكن غربة وطن فحسب , وانما هي فكرية ونفسية .. ويقول مخاطبا وطنه بشوق وحرارة وحمله ثقيل ثقل صليب المسيح : ( بين القرى المتهيبات خطاي , والمدن الغريبة غنيت تربتك الحبيبة / وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه / ).. وفي قصيدة – قافلة الضياع – يخاطب الشعوب واللاجئين التي تمثل مأساة الفلسطينين بشخص المسيح للتعبير عن النضال , فرمز بالمسيح ليعبّر عن وجدان البشر بجهادهم من أجل القضية .. ( / كان المسيح بجنبه الدامي / ومئزره العتيق يسد ّ ما حفرته السنة الكلاب/ فاجتاحه الطوفان -حتى ليس ينزف منه جنب أو جبين / الا دجى كالطين تبني منه دور اللاجئين / )..

وفي قصيدة – المسيح بعد الصلب – التي هي قمة الرمزية للمسيح لدى السياب يتحدث وبلسان المسيح مصورا بها صورته هو وكأنه المصلوب الذي انزل من على الصليب وروحه الألهية غير المقهورة تمنح الحياة للطبيعة والناس ..

( / مت كي يؤكل الخبز بأسمي لكي يزرعوني , مع الموسم / كم حياة سأحيا : ففي كل حفرة / صرت مستقبلا , صرت بذرة / صرت جيلا من الناس في كل قلب دمى قطرة منه / وبعض قطرة / )..

استفاد السياب من الأساطير البابلية والسومرية واليونانية اذ مزج بينها وبين همومه الذاتية التي كانت قلقة نتيجة قلق عصره واستنجا ده بالأسطورة كمد لول رمزي نتيجة عشقه المثالي الى عالم حالم يبتعد به عن التناقضات فاستخدمها مرة لأتقاء شر السلطة الغاضبة واخرى اتقاء شبح الموت الذي يداهمه واستحوذ على مشاعره نتيجة المرض الذي طال امده .. وتمثلت في ( اساطير ) و ( ازهار ذابلة ) .. عندما يخبو ضياء الشموع , ويبقى النخيل يئن ويصرخ في قبضة الريح .. وفي ظلمة اليأس ينشق عبر الضباب الكثيف .. وهذا الزمان الذي يستحيل الى لحظات خريف طويل ..

ففي قصيدة ( مدينة بلا مطر ) استخدم السياب تموز البابلية آلهة الخصب التي تخلت عن المدينة فجف فيها كل شئ , اذ لا مطر , ولا زرع , فأنتشر في المدينة الجوع والجفاف فيبدأ أهل القرية التضرع الى الآلهة الخصب وتقدم الى – تموز وحبيبته عشتار – وسار صغار بابل يحملون سلال صبّار وفاكهة قربانا لعشتار ويشعل خاطف البرق بظل من خلال الماء والخضراء والنار ..

وفي قصيدته ( رؤيا في عام 1956 ) يستغل الشاعر – غنيميد – راع يوناني شاب وقع في حبه -زيوس كبير الهة الأولمب – الأغريق فيرسل حقيرا يختطفه ويطير اليه فيقول : ( / ايها الصقر الالهي الغريب / ايها المنقذ من اولمب في صمت المساء / رافعا روحي لأطباق السماء / ايها الصقر الالهي ترفق ان روحي تتمزق / ) .. وهنا الشاعر يرمز الى – روحه – بصورة – غنيميد – الشاب انها صورة ( الحب المقترن بالعذاب ) انها مزج بين الرؤية الواقعية والرؤيا النفسية معا ..

هذا هو بدر شاكر السياب الذي غنى لبلده .. غنى لعراقه .. غنى لشمسه .. لمطره .. لأنهاره .. جداوله ونخيله .. لحلوه ومره .. يقف تمثاله شامخا على ضفاف شط العرب , ذلك الشط الذي نسج له بدر قلائد الورد تزينه .. يقول – ادونيس – عن بدر شاكر السياب :

" الحياة نفسها عند السياب قصيدة , لقاء بين شكل يتهدم وشكل ينهض .. انها انبثاق اشكال لأنها انهدام اشكال وهي كالقصيدة , شكل , وليس الشكل تمثيلا نقليا أو وصفيا .. انه فضاء خارجي يحتوي فضاء ا ًداخليا " ...

وفي نهار شتائي حزين في 24 كانون الأول سنة 1964 خرج أربعة من الرجال يشيعون بدر شاكر السياب الى مقره الأخير في مقبرة الحسن البصري في الزبير وكان خامسهم المطر الذي وهبه السياب اجمل قصائده .. لقد كانت نهاية السياب قصيدة لم يكتبها بدر .. بل كتبها المطر على تراب العراق الخصب .. وهكذا يموت العظماء من الأدباء والفنانين ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع