الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدينار

سهر العامري

2009 / 6 / 1
الادب والفن



لم يكن يعلم أن مصيره سيؤول في صبيحة يوم مشمس من أيام بغداد الباردة شتاءً الى خزينة حانوت صغيرة كان صاحبه يبيع فيه الحليب ومشتقاته من جبن وزبدة ، مثلما كان يبيع كذلك أنواعا من الأشربة الملونة ، وأقراصا مدورة من الخبز ، خاصة خبز الشعير الغني بالسعرات الحرارية ، تلك السعرات التي كان صاحب الحانوت لا يفهم معناها ، ولا يدري ما هي ، ولكن طالبا من طلاب الجامعة التي اعتاد على تناول فطوره عنده ألقى تلك الكلمة على مسامع الحاج خليل ، صاحب الحانوت ، والقادم من مدينة اصفهان في إيران قبل ثلاثين سنة على وجه التقريب ، فقد كان أبوه قد انتقل بهم الى بغداد بعد أن عمل حمالا في خان يجمع فيه القماش ويدعى خان الزرور ، وفي سوق ملتصقة بسوق الصفافير المطلة على شارع الرشيد ، وقد كان هذا الوالد يشم الدينار الواحد حين يقع بين يديه ، وينتشي بعطره حتى يعود ثملا لا يتبين الأشياء من حوله ، وذلك بسبب من أن أجره ليوم واحد من عمل متواصل كان قليلا ، لا يتعدى بعض الدراهم المعدودة ، ينفق مقدارا منها على ما يحتاجه هو وما تحتاجه أسرته من غذاء يومي، ويحتفظ بالنزر القيل في كيس قماش شده بإحكام ليضعه بعد ذلك في جيب داخلي من ثوبه يرقد على قلبه تماما ، ورغم ذلك كان يضع كف يده اليمنى عليه بين الحين والآخر حتى وهو ينوء بحمل ثقيل على ظهره .
حين يبلغ هذا النزر القيل ألف فلس يقوم بتحويله الى دينار ورقي واحد يزدهي بصورة حصان عربي أصيل ، يرتقي صهوته ملك العراق ، ولهذا السبب كانت الناس تسمي هذا الدينار (أبو حصان) وكان الفقراء من الناس يعدون من يملك دينارا واحدا من الأثرياء الذين يشار لهم بالبنان ، وذلك لأن جيوبهم ما نزل بها دينار ورقي أبدا، وكل ما كان ينزل بها هو أفلس حمر ، أو دراهم فضية اللون، وهذا هو السبب الذي جعل الدينار ذلك ينتقل بين جيوب موظفي الدولة الكبار ، أو أصحاب المحلات ، أو ينام في جيب أحد ملاكي المزارع والبساتين الكبيرة .
قبل يومين فقط وصل هو الى بغداد بعد أن كان يعيش في مدينة الموصل متنقلا بين جيوب تجارها ، أو جيوب موظفيها الكبار ، وفي هذا الحي أو ذاك من أحيائها الغنية ، فهو لم يتعرف طوال حياته على حي فقير من أحياها ، فلماذا يعيش هناك في ظلمة البيوت وقذارة شوارعها ، وكثرة ضجيجها ؟ لقد شاء القدر أن يقضي آخر يومين من أيام حياته في حي الزهور من مدينة الموصل بين نهدي امرأة كان زوجها الحاج محمود يعد من بين أغنياء المدينة ، وقد اعتادت زوجته تلك أن تضع ما تحصل عليه من دنانير في صدرها الذي كانت تعفره بالعطر صباحا ومساء ، وهذا ما جعله أن يدخل في نشوة سكر تمنى معها أن يظل أبد الدهر حيث هو لا يبرح مكانه ، كيف لا ؟ وهو يعيش بين رقة نهدين طافحين وبين فيض من عطر يغمر الروح منه بسعادة ما بعدها سعادة .
لكن هذه الحال لم تدم به طويلا ، فقد رحل الحاج محمود بزوجته الى بغداد ، وبينما كانا هما يسيران في شارع النهر منها أخذت لبها قلادة من الذهب في حانوت صائغ صب عقله كله في صياغتها حتى أنها تفرد عن كل قلادة رأتها في محلات ذلك الشارع ، ولهذا قررت أن تشتريها بما لديها من النقود التي كان من بينها ذاك الدينار المعطر والذاهب في سكرة أبدية .
- لا . لن أذهب . أموت هنا ، ولا أعيش هناك !
لم يسمعه أحد ، وكل ما أحس به هو حركة الأيادي التي تلاقفته ، ليستقر هو في نهاية المطاف في خزان صلد حديدي يفيض برائحة كريهة لم يعد باستطاعته أن يتحملها ، ولهذا كان يقضي الوقت كله مبتهلا الى السماء من أجل خلاصه من هذا السجن الذي لم يرَ من قبل سجن مثله رغم كثرة السجون التي مر بها ، ورغم الأيام الكثيرة التي قضاها فيها ، ولهذا لم يرق له من أيام حياته إلا تلك الأيام التي كان يقضيها بين نهود النساء أو في جيوب الرجال .
لقد ظل هو في سجنه هذا سنوات طويلة ، دخلت عليه دنانير على أشكال مختلفة ، ما كان قد رأى دينارا مثلها من قبل ، ولكنه في آخر ما مر به من الدنانير لاحظ أن لا وجود لدينار بينها من فئته هو ، وهذا ما ثار الفزع في نفسه ، وخاف من ضياع ذكره الحميد بين الناس ، كيف لا؟ وهو أبو الحصان الذي كانت الأسرة الواحدة في بغداد تعيش يوما كاملا بربع من أرباعه الأربعة ، فقد كان الواحد من تلك الأسر البغدادية يتباهى وهو يحمل ذلك الربع في جيبه مارا فيه على الحوانيت والمطاعم المصطفة على طوال شارع الرشيد ، فإن شاء أن يتناول وجبة غداء طيبة ولذيذة في مطعم الشباب الشهير كان له ذلك ، وبسعر لا يتجاوز المئة فلس لا غير، وربما أراد كذلك أن يجلس في مقهى يتناول فيه قدحا من الشاي بعشرة أفلس ، وقد يعمد الى شراء كتاب جيد ، أو مجلة مفيدة من شارع المتنبي ، ومع ذلك يعود الى داره ومعه بقية من ذلك الربع !
- عن أي زمان يتحدث هذا المجنون ؟ تساءلت ورقة نقدية من فئة 250 دينار حلت مساء أمس في ذلك السجن الحديدي ، وأمضت ليلتها الأولى مع أبو حصان الذي راح يفاخر الجميع بتاريخه المجيد ، وكيف أنه أمضى شهرا كاملا في جيب جلالة الملك المفدى مثلما قضى ليلتين اثنتين من ذلك الشهر معه عندما كانت خطيبته ، فاضلة ، في زيارة له ، تلك الأميرة الجميلة التي هي حفيدة آخر السلاطين العثمانيين ، وحيد الدين ، والمولودة في العاصمة الفرنسية ، باريس ، سنة 1940 ، وقد كان جلالته الملك قد تعرف عليها سنة 1954 في حفل أقيم في بغداد صيف ذلك العام ، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ قام بخطبتها بعد أن سحره منها عينان خضراوان ، وقوام فتان ، وصدر طافح ، وبسمة تشع بالجمال ، وتشرق بالأنوار .
لقد تمت الخطوبة تلك بعد أن أمضى العاشقان ساعات فاضت بالغرام ، هناك على الأراضي التركية ، وهما يقومان بجولات بحرية في مضايق البسفور أو على شطآن مدينة استنبول ، مثلما كانا يقومان بجولات متعددة في الكثير من الدول الأوربية ، وقد كانت صورتاهما تزينان أغلفة المجلات الصادرة في تلك الدول ، وكان الكل بانتظار الساعة التي سيدخلان فيها عش الزوجية ، ولكن خبرا نزل بالأميرة الفاتنة كالصاعقة سمعته من الإذاعة البريطانية يعلن عن قتل الملك الحبيب ، فذهلت ذهولا تاما ، وسالت دموع حرى على وجنتيها الورديتين ، لقد تبخرت الأحلام الجميلة، وصارت سرابا في أرض يباب!
ما كاد أن ينهي أبو حصان روايته عن المأساة المفجعة التي نزلت بالأميرة الحسناء حتى صاح به دينار بريمري من فئة الخمسة والعشرين ألفا :
- تلك فجيعة واحدة أيها الأخ ! لقد حلت على الناس في العراق فجائع لا تعد ولا تحصى ، فقد قتل رؤساء رميا بالرصاص ، مثلما احترق آخرون في نيران الدنيا ، وهم معلقون في الجو ، ثم دارت حروب طاحنة أزهقت فيها أرواح ملايين من البشر ، هذا عدا الألوف الذين أعدموا أو دفنوا في مقابر جماعية ، فلقد كان الرئيس الذي تعلقت رقبته فيما بعد بحبل مشنقة لا يتوانى عن قتل البريء، مثلما لا يبالي في أن يكون هذا البريء امرأة أم طفلا !
تحرك أبو حصان حركة غير طبيعية ، وكأنه أراد بها أن يعبر عن حالة الاختناق التي تستولي على نفوس المستمعين إليه، ولكنه
أخيرا تساءل :
- من أي جيب قدمت أنت ؟
- من جيب صولاغ !
ضحك أبو حصان ضحكة عالية تنم عن سخرية واضحة على ما قاله له أبو الخمسة والعشرين ألفا ، وراح يردد مع نفسه : صولاغ .. صولاغ .. بريمر .. بريمر .. بوش .. بوش ! ورغم محاولاته الكثيرة في تذكر اسما من بين هذه الأسماء عند العراقيين الذين عاش في جيوبهم لسنوات كثر ، لكنه لم يفلح في ذلك ، ولم تسعفه ذاكرته في أنه سمع باسم واحد من هؤلاء من قبل ، ولهذا صار على قناعة تامة من أن هؤلاء غرباء عن العراق ذلك البلد الذي عرف أسماء مثل : حسين وخلف وسالم ومسعود وجاسم وغيرها من الأسماء التي دخل جيوب أصحابها.
- نعم . هم وغيرهم غرباء عن العراق ، ولكنهم حكموا في العراق بجبروت أمريكي وبتواطئ إيراني . قال ذلك أبو الخمسة والعشرين ألفا ثم سكت بينما بدا حزن عميق في عينيه.
- لماذا أنت حزين الى هذه الحد ؟
- حزين لأنني أرى ثروة العراق تنهب كل يوم ، وبطرق شتى يعجز أي إنسان عن عدها بأية صورة كانت ، فأغلب الذين تربعوا على كراسي الحكم أباحوا لأنفسهم سرقة أموال فقراء العراق ، وأولهم وزير المالية !
- عجيب ! تقول وزير المالية ؟
- نعم . وزير المالية نفسه الذي لا يحمل في جيبه دنانير إلا من فئتي أنا ، وكثير ما سمعته متبجحا يقول : أنا مهتم بالدينار أبو الخمسة والعشرين ألفا فما فوق ، وكان يقضي جل وقته مفكرا بالطريقة التي سيحمي بها ثروته التي جمعها بالتحايل والغش ، وعن طريق المكاتب التجارية التي فتحها بتلك الأموال في أكثر من بلد ، وغالبا ما يكون مستغرقا في أفكاره هذه وهو يجلس في مرحاض يقضي فيه حاجته ، ولهذا ، والحق يقال ، أنه ابتدع نظرية اقتصادية مرحاضية تفضي الى اللاشيء ، فقد صرح ذات مرة وبعد خروجه من المرحاض مباشرة أنه وضع للعراق ميزانية انفجارية وربما قد سمعت أنت أن الحكم السابق قد وضع خطة اقتصادية لخمس سنوات في مطلع السبعينيات من القرن الفائت سماها الخطة الانفجارية،ولكن انفجارية صولاغ- أيها الأخ العزيز- رغم تبجحه خمدت بخمود أسعار النفط ، وأنت تعلم - يا أبا حصان - كيف كنت أنت ذا قيمة معتبرة حتى قبل ظهور النفط في العراق .
- نعم . أذكر ذلك ولا أنساه ، واصل كلامك ، فأنا لم أفهم بعد منك الخطوط العامة للنظرية المرحاضية ، ولكنني سمعت من العراقيين الذين كنت أتنقل بين جيوبهم بنظريات اقتصادية حديثة مثل : النظرية التشاؤمية أو التفاؤلية أو فائض القيمة ، ولكنني ما سمعت طوال عمري بهذه النظرية التي تتحدث عنها .
- أتعلم أنني على خجل من أقول لك أن صاحب هذه النظرية المعطرة بالروائح التي تعرفها أنت قد استمد خبرة في علم الاقتصاد من عمله في بيع البهارات مع المرحوم والده في سوق الشورجة من بغداد .
- إني أفهم من كلامك أن النظرية المرحاضية عمودها الفقري هو بيع البهارات شرط أن يكون هذا البيع في سوق الشورجة أو أية سوق أخرى تضارعه ؟
- عذرا - أيها الأخ - أنا نفسي لم أفهم من هذه النظرية شيئا ، فكيف تريدني أن أفهمك ، فالسمة التي تطغى على الوضع في العراق هو أن كل شيء فيه غير مفهوم ! وثق ثانية أن كل شيء في العراق الآن غير مفهوم !
----------------------------------------------------------
*قصة قصيرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??