الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة أوباما ولي النعم

رمضان متولي

2009 / 6 / 6
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


"باراك أوباما" شخص عادي جدا في الولايات المتحدة، رئيس جمهورية - نعم، لكنه قد لا يستطيع أن يغلق شارعا واحدا في أصغر ولاية أمريكية يقوم بزيارتها. ورغم المخاطر التي يتعرض لها أوباما باعتباره أول رئيس ملون للولايات المتحدة مما يجعله هدفا للجماعات العنصرية المتطرفة من البيض في بلاده، كان أوباما يخاطب جماهير الولايات المتحدة أثناء المناظرات مع منافسه الجمهوري "جون ماكين" في ساحات مفتوحة بدون قناصة فوق أسطح البنايات وبدون إغلاق المحلات والشوارع!

لكن أوباما عندما يزور مصر تختلف الأمور، حالة الطوارئ المفروضة علينا بشكل دائم تنتقل إلى اللون الأحمر القاني، ويرتفع الاستنفار الأمني وكأن أمرا جليلا لا يقل عن إعلان الحرب تتأهب له الدولة المصرية. وهكذا تتحول مصر إلى أقل من أصغر ولاية أمريكية – تغلق الشوارع وينتشر القناصة فوق أسطح البيوت كما تنتشر فرق من العساكر المجانية في جميع الشوارع التي سيمر منها موكب ولي النعم، صاحب الباب العالي، مهما تضمن ذلك من عدم احترام لمصالح العامة واحتقار آدميتهم.

ومع ذلك، كل هذه الملاحظات مجرد ملاحظات شكلية، والأخطر هي الأمور الأكثر جوهرية التي تتعلق بطريقة استقبال الرئيس الأمريكي الجديد. فقد احتفى الإعلام المصري بمقدم أوباما وكأنه المهدي المنتظر الذي يملك مفاتيح الجنة بما لديه من "حلول مبتكرة" لمشاكل وقضايا أثبت تاريخها الطويل استعصائها على الحل من خلال طرق أبواب العم سام.

الأمريكيون اكتشفوا مبكرا أن الأمر الوحيد المختلف في أوباما هو لون بشرته، ورغم الأهمية التاريخية لهذا الأمر، لم يقدم الرئيس الجديد – ولن يقدم – أي جديد بالنسبة للأمريكيين عن رئيس جمهوري أو ديمقراطي آخر، لأن كلا الحزبين يعبران عن مصالح واتجاهات الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، ممثلة في مؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، وإن اختلفا حول قضايا هامشية. أوباما قدم حماية سياسية لشركات الاتصالات الأمريكية الكبرى ضد أي قضايا تعويض بسبب مراقبتها لاتصالات الأمريكيين بالمخالفة للقانون، كما أسقط التحقيق في جميع جرائم التعذيب التي ارتكبت في عهد بوش. لقد كان انتخاب أوباما بالنسبة للطبقة الحاكمة الأمريكية ضروريا لمعالجة الأزمات المتراكمة التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا، خصوصا الأزمة الاقتصادية التي تهدد العالم بكساد يشبه كساد الثلاثينيات الكبير في القرن الماضي، وارتباك المؤسسة العسكرية الأمريكية وسياستها الخارجية في مستنقعات الحروب المرهقة في العراق وفي أفغانستان، لذلك استطاع أوباما أن يجمع تمويلا هائلا لحملته الانتخابية من الشركات الأمريكية يتجاوز بكثير ما حصل عليه منافسه في الحزب الجمهوري.

وقد ورد في مقال كتبه "لانس سيلفا" في مجلة "إنترناشيونال سوشالست ريفيو" قبيل انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة أن: "هذه الأزمات أدت إلى تنامي الشعور داخل دوائر الشركات الأمريكية والمعبرين عنها سياسيا في واشنطن بأن سياسات السوق الحرة في حاجة إلى الإصلاح … حتى جريدة وول ستريت جورنال التي تعتبر صوتا متطرفا في الدفاع عن أيديولوجيا السوق الحرة دعت مؤخرا إلى (اشتراكية أمينة) لدى دفاعها عن تأميم الحكومة الفيدرالية لشركتي الرهن العقاري العملاقتين فاني ماي وفريدي ماك."

وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية يقول "سيلفا": "إن خبراء المؤسسة الحاكمة يتراجعون عن أوهام المحافظين الجدد التي سادت خلال الفترة الأولى من رئاسة بوش من أجل تكوين إجماع في أوساط الطبقة الحاكمة لصالح تحويل الموارد العسكرية من العراق إلى أفغانستان، وسياسة احتواء إيران، وزيادة حجم الجيش الأمريكي وتجديد القوة الناعمة للولايات المتحدة."

وأهم ما يلاحظه الكاتب الأمريكي أن النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة، التي استفادت من فترة هيمنة النيوليبرالية، تواجه تحديا جديدا بسبب الأزمات الناجمة عن هذه الفترة، ولم يكن أمامها إلا المراهنة على الديمقراطيين لمعالجة بعض جوانب هذه الأزمات التي تهدد قدرتها على جني الأرباح والهيمنة على السلطة وفي نفس الوقت احتواء مطالب الشعب الأمريكي من أجل إصلاح نظام الرعاية الصحية، وحماية حقوق العمال أو ارتفاع فاتورة الإنفاق العسكري.

"هنا يبرهن الحزب الديمقراطي على فائدته بالنسبة لهؤلاء الذين يديرون المجتمع الأمريكي. فباستثناء هذه المتغيرات، تفضل الشركات الكبرى الجمهوريين الذين لا يهتمون عادة بموازنة مواقفهم المعلنة المنحازة للشركات بمدى قبول العمال أو الفقراء لهذه المواقف. لكن الحزب الجمهوري حاليا – بسبب تحمله مسئولية سياسات لا تلقى تأييدا شعبيا، وتورطه في الفساد، وإثبات عدم كفاءته في إدارة شئون الدولة – استفذ دوره كفاطرة لتحقيق أجندة الشركات الكبرى وكسب التأييد لها… إن الشركات تعرف الوقت المناسب لسحب السلعة الرديئة من الأسواق."

ومن هنا يتضح أن شعار "التغيير" الذي طرحه أوباما بالنسبة للولايات المتحدة ليس تغييرا جوهريا، وإنما هو محاولة لتحقيق نفس الأهداف ولكن بوسائل أخرى مع المواءمة الضرورية للتعامل مع نتائج الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تواجه الطبقة الحاكمة الأمريكية والاستفادة من تحميل الجمهوريين المسئولية عن هذه الأزمات أمام الرأي العام.

لكن ترحيب القائمين على الدولة والنخبة الحاكمة في مصر باختيار أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وهو ما نلحظه من الحفاوة الإعلامية والرسمية بالرئيس الأمريكي الجديد، له علاقة بشعار "التغيير" الذي رفعه أوباما من زاوية معينة. زاوية لا تضع في اعتبارها موقفه من الحرب على العراق أو أفغانستان أو منطقة القبائل في باكستان، ولا علاقة لها بموقفه من إسرائيل والقضية الفلسطينية – فمواقف الرجل في هذه القضية لا تختلف عن مواقف جورج بوش. وإنما تتركز أساسا على ما كشفه أوباما في خطابه يوم الخميس الماضي في جامعة القاهرة، وتحديدا نفيه أي اتجاه لإدارته لأن تفرض "الديمقراطية" على الحكومات، وانتقاده بشكل غير مباشر لجماعة الإخوان المسلمين عندما ألمح إلى الجماعات التي تدافع عن الديمقراطية وهي خارج السلطة ولكنها سرعان ما ستنقلب عليها إذا وصلت إلى الحكم. وفي نفس الخطاب بالمناسبة لم يفت أوباما أن يركز انتقاده على "حماس" ويدعوها إلى نبذ "العنف"، ويدعو العرب إلى المرونة للتوصل إلى حل وسط في مبادرة السلام العربية، التي تقدم تنازلات مجانية لإسرائيل لا حصر لها، وأكد على الروابط القوية التي لا تقبل النقض بين الولايات المتحدة وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل. وهكذا "مات الملك، عاش الملك".

خطاب الرجل إذن لم يقدم إلا حلا للمشكلة الرئيسية بين حكام مصر وبين إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة والتي تتعلق بتحمل ضغوط أمريكية من أجل بعض الإصلاحات الديمقراطية حتى وإن كانت شكلية لتبرير حملة الاستعمار والهيمنة التي شنتها تلك الإدارة، وما يشبه الوعد بأن الولايات المتحدة لن تقدم دعما لأي قوة معارضة للسطلة في مصر – وخاصة الإخوان المسلمين. إنها رسالة لطمأنة القائمين على الحكم في مصر على مصالحهم وتهدئة خواطرهم بعد الفترة العصيبة التي مروا بها أثناء إدارة بوش، وهي رسالة تأتي في إطار ما يسمونه في أمريكا تجديد "القوة الناعمة"، أي عودة إلى السياسة التقليدية للولايات المتحدة في دعم أنظمة الحكم المستبدة ما دامت لا تعارض الخطوط الرئيسية للسياسة الأمريكية ولا تمثل تهديدا لمصالحها الاستعمارية بل وتتعاون في دعم هذه السياسات والمصالح.

موجة الحفاوة هذه أعادت من جديد ذلك الخطاب الساذج الذي ردده الإعلام الرسمي حول إمكانية كسب الولايات المتحدة لقضايانا عبر إقناعها بأن النظام المصري حليف أكثر إخلاصا وأمانا من إسرائيل التي تسبب الكثير من المشاكل لأمريكا. وهو خطاب ساذج لأنه يتجاهل أو لا يدرك، أو يحاول أن يحرف انتباهنا عن الطبيعة الخاصة لإسرائيل التي تجعل الولايات المتحدة تعتمد عليها كحليف استراتيجي لا بديل عنه ولا نظير له مهما ترتب على هذا التحالف من متاعب. فاسرائيل دولة استيطانية مصطنعة، قائمة على اغتصاب الأرض من سكانها وجلب مستوطنين من كافة أنحاء العالم إليها، دولة ذات طابع عدواني وتوسعي، يجعلها في حروب شبه دائمة مع الدول المجاورة ومع الفلسطينيين الذين اغتصبت أراضيهم، وحتى تقنع اليهود في مختلف أصقاع الأرض للانتقال إليها والاستيطان بها تحاول إغراءهم بمستوى معيشي مرتفع يقترب بشدة من مستوى معيشة مواطني الدول الغنية في العالم، وتحاول طمأنتهم بتعزيز قدرتها العسكرية وامتلاك أحدث الأسلحة وأشدها فتكا، بما يتجاوز كثيرا مواردها الذاتية، لذلك فإنها تعتمد في وجودها اقتصاديا وعسكريا على دعم غير محدود من القوى الاستعمارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. إسرائيل ضعيفة جدا بدون هذا الدعم ولا تستطيع البقاء طويلا إذا رفعت عنها الحماية من تلك القوى، مما يجعل الولايات المتحدة لا تخشى مروقها عليها أو خروجها عن إرادتها في القضايا الاستراتيجية الهامة، ولا تخشى انقلابها عليها أو تغييرا جوهريا في السلطة الحاكمة بها يجعلها تخرج من دائرة النفوذ الأمريكية أو تنقلب عليها مثلما حدث في إيران بعد الثورة الإسلامية في 1979.

لا تستطيع أي دولة أخرى في المنطقة أن تجمع بين مزايا الضعف والقوة التي تمتلكها إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة، ضعف يجعلها دائما في حاجة إلى دعم القوى الاستعمارية الكبرى في وجودها وبقائها، وقوة تجعلها قادرة على أن تكون الدرع الأخير في الدفاع عن مصالح هذه القوى الاستعمارية في منطقة حيوية بالنسبة لها يتركز فيها أكبر احتياطي من النفط في العالم. ولذلك مهما قدم النظام المصري من خدمات استراتيجية للولايات المتحدة لن يستطيع أن يقنعها بالمراهنة عليه بديلا عن إسرائيل أو حتى التعامل معه على قدم المساواة مع إسرائيل – فهناك دائما احتمال خروج مصر من دائرة النفوذ الأمريكية سواء بتغير مزاج الطبقة الحاكمة المصرية أو تغير هذه الطبقة نفسها بوسيلة أو بأخرى.

الخدمات التي قدمها النظام المصري للولايات المتحدة واستراتيجيتها وسياساتها في المنطقة لا حصر لها، بل إن مصر استجابت لجميع مطالب الولايات المتحدة من تسهيلات وخدمات تتعلق بالحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان، وتدريب قوات عراقية ومكافحة ما تسميه أمريكا "إرهابا" بشتى السبل … الخ، وقدمت لإسرائيل خدمات جليلة في القضية الفلسطينية، مع دفع التطبيع الاقتصادي والسياسي معها إلى أبعد مدى إثباتا لحسن النوايا ومحاولة لكسب الرضا والدعم الأمريكي – بل نستطيع أن نقول أن الأمر الوحيد الذي عارض فيه القائمون على السلطة في مصر مطالب أمريكية يتعلق ببعض الإصلاحات الشكلية التي اعتبروها تهديدا لمواقعهم ومصالحهم داخل مصر وحصلوا في ذلك على تأييد من إسرائيل لموقفهم منها. ومع ذلك لم تغير الولايات المتحدة رهانها على إسرائيل ولم تستجب لأي مطالب مصرية للضغط عليها من أجل الحفاظ على ماء الوجه أمام الرأي العام المصري والعربي، حتى تخلت مصر عن أي مطالبة بممارسة أمريكا ضغطا على إسرائيل، اللهم إلا النصيحة بضبط الميول الأشد تطرفا في المؤسسة الصهيونية.

هذا الأمل الكاذب عرفت السلطة جيدا أنه مجرد وهم لا يجب المراهنة عليه، رغم أنه مازال يداعب أحلام الليبراليين عله يساعدهم في خلق تأييد ما لتوجهاتهم السياسية والاقتصادية في مصر، ربما لأن السلطة أذكى وأقدر على التعلم من خلال التجربة الحية والتفاعل المباشر البعيد عن التنظير. غير أن الاعتراف بزيف هذه المراهنة لا يعني عدم الاحتفاء بولي النعم، صاحب الأفضال والمعونات المادية والمساندة السياسية والمعنوية التي تساعد النظام على توفير ولو جزء من احتياجاته اللوجستية التي تدعم بقاءه. المشكلة أننا جميعا تأخرنا في الذهاب إلى العمل وعانينا الأمرين في المواصلات نتيجة لهذه المبالغة في الحفاوة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل ممتاز
سامي المصري ( 2009 / 6 / 6 - 08:26 )
أسجل إعجابي بالكاتب والمقال، فهذا التحليل هو أكثر تحليل عمقا من كل ما قرأت في هذا الموضوع، وقليلون جدا هم الذين يمكن أن يفهموا أبعاده. ولكن هناك بعض النقاط أختلف معك فيها.
كل ما قلته بخصوص الموقف الداخلي أوافقك عليه، فالنخبة السياسية والاقتصادية التي استفادت من فترة هيمنة النيوليبرالية، هي التي خلقت الأزمات الاقتصادية والسياسية وتسببت في تراكمها. ولما صارت تلك التراكمات مؤثرة على المصالح الاقتصادية لتلك النخبة تحتم التغيير, سياسة بوش لم تكن تخدم إلا تلك المصالح، التي خلقت كل تلك الأزمات، فعندما صارت الأزمات مؤثرة على مصالح تلك الطبقة حدث التغيير الذي جاء بباراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة. فبوش وأوباما في خلفيتهما نفس القوى أصحاب المصالح في الولايات المتحدة.
أما السياسة الخارجية فالموقف مختلف. طبعا سياسة الولايات المتحدة الداخلية هي التي تفرض السياسة الخارجية.
النخبة السياسية والاقتصادية المهيمنة على المصالح الأمريكية هي نفس القوى صاحبة المصلحة في وجود إسرائيل، فإسرائيل ومصالحها هي المهيمن على أمريكا وليس العكس. إسرائيل ليس الحليف الذي يرعى المصالح الأمريكية في المنطقة بل أمريكا هي التي ترعى المصالح الإسرائيلية أولا حتى لو تعارضت مع المصالح الأمريكية نفسها، وذلك كان و


2 - رائع
همسات ( 2009 / 6 / 6 - 13:37 )
أحييك على المقال التحليلى العميق والرائع
وأتمنا أن تتحفنا بالمزيد
تحياتى


3 - يبقى انت أكيد المصري
محمد عبد القادر الفار ( 2009 / 6 / 6 - 18:17 )
تحليل واقعي يعكس وضوح الرؤية وإخلاصها عند الأستاذ رمضان الذي لم ينطل عليه نفاق السلطة الرابعة ولا كل تلك الحفاوة .. الفاقعة

اخر الافلام

.. اقتلعها من جذورها.. لحظة تساقط شجرة تلو الأخرى بفناء منزل في


.. مشاهد للتجنيد القسري في أوكرانيا تثير الجدل | #منصات




.. نتنياهو: الإسرائيليون سيقاتلون لوحدهم وبأظافرهم إذا اضطروا ل


.. موسكو تلوّح مجددا بالسلاح النووي وتحذر الغرب من -صراع عالمي-




.. تهديدات إسرائيلية وتحذيرات أميركية.. إلى أين تتجه الأمور في