الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تفاصيل التكوّن

جمعة الحلفي

2004 / 4 / 26
الادب والفن


ربما كان حلماً.. ربما كان قدراً، وربما كان شيئاً آخر، أكثر جمالاً ودواماً. لا أعرف، على وجه الدقة، كيف بدأت الأشياء بالتكوّن: الألوان والأصوات. الأحلام والأزهار والأقمار، كيف بدأت تظهر، تتوضح، تأتي، تتسرب، تتفتح، تصدح، تضيء، لا أعرف بالضبط، لكن هكذا كان فحسب:
ـ في الليل، الليل القاتم، تخبو الروح، تضمر، تكتئب. وفي لحظة ما، لحظة فحسب، تبدأ الظلمة بالإنزياح عن السماء، مثلما تنزاح عباءة سوداء عن جسد رمادي. ثم، شيئاً فشيئاً، يبدأ تفتت الظلمة، يميل السواد الى الرمادي فيصبح الرمادي أكثر بياضاً. ثم، جدائل كالذهب، تبدأ بالتسلل، أولا نحو الأفق، فتصبح السماء أكثر نصاعة وألفة. ثم تهبط، جدائل الذهب، تهبط... تهبط.. تهبط، فتقترب، تقترب فتدخل الروح لمسات من الدفء الشفيف، دفء حنين ينساب بهدوء.. بهدوء.. بهدوء..
الروح مليئة بالدفء!

أو ربما هكذا:
ـ في الصمت، الصمت الثقيل الداكن، تنزوي الروح في العتمة، تتوحد، تستوحش.. ثم، في لحظة ما، تتحرك العتمة من حول الروح، تهتز العتمة فتهتز الروح، يتلوّن الصمت فتتلون الروح، ثم، شيئاً فشيئاً، يأتي الصوت من بعيد، صوت مليء بالعذوبة، يقترب الصوت من الروح فتقترب الروح من الصوت، ثم، شيئاً فشيئاً، يلتقيان، الصوت القادم والروح المتوحدة، يلتقيان، يغنيان... يغنيان، فيمتلىء الصمت بالغناء. ثم، يضج المكان بالجمال.
الصمت والمكان مليئان بالجمال والغناء!
أو ربما هكذا:
ـ في العطش، العطش المرير، المديد، تذبل الروح، تشحب، ثم، شيئاً فشيئاً، تذوي الروح، تتضاءل، فينتابها الخواء، خواء شاسع بلا حدود، خواء صحراوي مخيف، خواء، خواء، خواء، خواء، ثم، في لحظة ما، ينساب البلل الرطب، شيئاً فشيئاً يتكون الندى، الندى يتكون قطرات ثم يتكاثر، يتكاثر، فينساب مثل جدول صغير الى حيث نبتة الروح العطش، فتهتز الروح، تهتز.. تهتز، تتحرك، تتحرك، ثم ترتوي، شيئاً فشيئاً، فتنهض..
الروح تنهض!
أو ربما هكذا:
ـ في الغربة، الغربة فحسب، تضيع الروح، تصدأ، تتأكل ثم تضمر، فيحل الماضي محل الحاضر ويبتعد المقبل المؤمل بعيداً.. بعيداً حتى لا يرى، تبدأ الذاكرة بنهش الوجدان وتبدأ الروح بالتغرّب عن الجسد. تنفصل الأشياء عن بعضها فتذوب الرؤى والقناعات وتشتد الأحزان. تبدأ الكآبة عملها الدؤوب في الروح شيئاً فشيئاً. الروح بعيدة عن الوطن والوطن بعيد عن الروح. الروح بعيدة والوطن بـ.. عـ..يد. ثم، في لحظة ما، تبدأ الروح بالتخلص من الضياع. شيئاً فشيئا ينزاح الصدأ ويكف التآكل وتبدأ الأشياء بالتلوّن والتكوّن من جديد.. تلتئم الروح بالجسد وتعود الأشياء الى بعضها فتقترب الروح من الوطن ويقترب الوطن من الروح.
الروح قريبة من الوطن والوطن قريب من الروح!
أو ربما هكذا:
ـ في الصحو.. الصحو المرُّ، يتطاول الجدار فيتحول الخجل الحلو الى حجر في الفم، يمتلىء الرأس بالهم والهواجس، ويمتلىء الجسد بالتعب والإرهاق. يتمدد الإرهاق في العقل وينساب التعب الى المفاصل والذاكرة معاً.. ثم، في لحظة ما، يسري الخدرُ، الخدرُ اللذيذ، شيئاً فشيئاً، فيتهدم الجدار ويتفتت حجر الخجل. تطردُ الروح الإرهاق والتعب معاً، وتعيد الاعتبار للوردة والأغنية معاً. تبدأ الوردة بالرقص وتبدأ الأغنية بالتفتح.
الروح ترقص وتضوع عطراً.
هكذا إذن:
لقد حاولت مع نفسي، مع الذاكرة، مع الشعر، مع الماء، أن أعرف، على وجه الدقة، كيف بدأت الأشياء بالتكوّن، لكنني لم أمسّك سوى بخيط من العذوبة، لا نهاية له، ولا تفسير. لقد فوجئت بهذه العاصفة الكاسرة من الألوان والأغاني والأزهار والجداول والأقمار، وهي تطوّح بيّ مثلما تطوّح الريح بالسنابل الطويلة. لقد فوجئت بذلك النهار العظيم، الذي حلّ في ذلك الصباح، مثلما تحل الرحمة في القلب. فوجئت بالوردة الطالعة تواً من الماء. فوجئت بالمطر الهاطل من الأرض. فوجئت بالنشيد المتعالي من هوة الصمت. فوجئت بالكركرة الطفولية وبالنضوج المبكر.. فوجئت، فوجئت.. فوجئت. فأية أسماء يمكن أن أطلقها على هذه الزهرة العابقة بالحضور والعطر؟ على هذا الضوء الباهر الطالع من عتمة الروح، من غربتها، من عطشها، من صمتها، من صحوها، من سكرها. أية أسماء يمكن أن أطلقها على هذا الكريستال المبهج. على هذا المهرجان اللانهائي من الأطياف والمرايا والحدائق. على هذه القرنفلة المبجلة بالبياض والسحر؟
هكذا إذن..
لقد قلت لنفسي أشياء كثيرة، تحدثت للريح بكل الوقار، وشوشست النوارس وصارحت البنفسج وجادلت الحناء. لقد تجمعت حول روحي كل الحدائق، كل القصائد، كل المواسم، جاءت في ذلك الصباح الكريم، ذلك الصباح البازغ كبدء الخليقة، ذلك الصباح المحلى بالهيل والساهون والفضة، ذلك الصباح المبلل بالندى والنعاس والنبيذ، ذلك الصباح المؤطر بجدائل الذهب والنسرين.
هكذا قلت:
ـ الى أين؟
فردت النوارس: الى حيث الطلاقة والتصوف والمرجان.
ـ الى أين؟
فرد البنفسج: الى حيث السكر في نشوة العطر.
ـ الى أين؟
فرد الحناء: الى حيث تلتاع الشفاه من الشفاه.
ـ الى أين ياروحي؟ وكنت خائفاً من الريح، فضجت الحدائق والقصائد بالنشيد:
ترجّل عن صهوة الخوف، فهذه لحظة الشجاعة الأخيرة.
أفسّح في الشوارع لخطوة المحبة، فهذا زمانك الوحيد.
أفتح للروح النوافذ، فهذه رياحك الأولى.
ترجّل.. ترجّل يناديك نخيلك الأزلي،
والرطب الحلو.
أخرج.. أخرج من عتمة التردد وليأت الطوفان. هكذا، يا سيدي، ما كان بإمكاني أن أقول غير ما قلت. لقد جرجرتني الى حيث لا أدري ولا أعرف، ولكنني أثق: لقد أخذتني للسواقي فصدقتك لأنك الماء.
وأخذتني للأغنية فصدقتك: لأنك القصيدة.
وأخذتني للحدائق فصدقتك: لأنك الوردة.
وأخذتني للنار، فصدقتك،.. صدقتك: لأنك الجمرة.
هكذا، يا سيدي:
هذا أنا وهذا أنت، فأي دفاع عظيم ستحتاجه
غدا؟..
هل أنت جاهز للدفاع!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي