الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا وفكتور هيجو وجبار أبو الكبة

أحمد الجنديل

2009 / 6 / 8
الادب والفن




لا أحد في المدينة لم يتشرف بمعرفة جبّار أبو الكبّة ، فمنذ صغره وهو مشروع للتعارف والمجاملة لما يتمتع به من دم خفيف ، وسرعة البديهة ، وقلب أبيض ، وتعدد في المواهب ، يجيدُ إعداد الكُبّةِ إعداداً جيداً في البيت ، وعند الظهر يضع على رأسه القِدْرَ ، ويجلسُ عند أحد أركان سوق المدينة ، فيسرع نحوه هواة أكل الكُـبّة ، ومع نكات جبّار المتلاحقة على زبائنه ، وبين الانهماك في تناول الطعام يقضي وقتاً يعود بعده إلى بيته ، يتفحصً ( برج الحمام ) ، يغازل ( الأورفلي ) ، ويقدّم الطعام إلى ( العنبري ) ، ويتأملُ ( أبو خشيم ) ويفرحُ عندما تقعُ عيناه على ( المكعكل ) ويبتسمُ إلى ( المكلّش ) ، وعندما يفرغ من إطعام طيوره ، يستبدلُ ثيابه بأخرى نظيفة ، ويمشّط شعره وشاربيه الذين يقفُ عليهما الصقر ، وينطلقُ إلى المقهى ليحتسي الشاي ، ويتجاذب مع الجالسين أطراف الحديث . وجبّار يحلو له أن يظهرَ أمام الجميع على قدر من الثقافة والمعرفة ، ولأجل ذلك فهو يضعُ عدة أقلام في الجيب الصغير الأعلى من سترته ، ويمسكُ كتاباً ، ويجلسُ متباهياً أمام الجميع .
في أحدى أمسيات المدينة الغافية على صدر الفرات ، وأنا ما زلتُ في الصف المنتهي من المرحلة الإعدادية ، وكانت وقتها شوارع العراق ساخنة بعد نكسة الخامس من حزيران ، مررتُ على المقهى التي يجلسُ فيها جبـّار ، وما أن التقت عيناي به حتى أومأ لي بالجلوس ، فدلفتُ إلى المقهى ، وجلستُ بقربه ممنياً نفسي في سماع نكاته اللاذعة ، إلا أنّ نظري وقع على رواية ( البؤساء ) للكاتب الكبير ( فكتور هيجو ) وقد وضعها إلى جنبه بطريقة تثير انتباه كلّ من يدخلُ إلى المقهى . التقطتُ الكتاب ورحتُ أتمعن في غلافه ، وصلني صوت جبّار ممتلئا بالـزهو : إذا ترغب في قراءته فخـذه معك ، على أن تعيده غداً ، فأنـا قد انـتهـيتُ منه هذا الصباح .
انفرجت شفتاي عن ابتسامة عريضة ، فأوراق الكتاب لا زالت ملتصقة بعضها بالبعض الآخر ، والكتاب الذي بيدي لا زال بكرا ولم يفتحه أحد . أخذتُ الكتابَ بعدما أقسمتُ له أنني سأرجعه إليه غداً .
وأنا في طريقي إلى البيت ، عثرت على كيس من الورق لأضع الكتاب فيه ، فأمي تعرفه من غلافه الذي يختلف عن أغلفة الكتب المدرسية ، وفي داخل غرفتي انفردتُ به ، بدأتُ بالتهام صفحاته ، وعندما دخلتْ أمي وأنا منهمك في القراءة ، لم تتحدثْ معي ، خرجتْ مسرعة وعادت بعد حين حاملة معها قدح الشاي الساخن ، وضعته أمامي وخرجت وفمها مليء بالدعاء إلى الله بالتوفيق والنجاح لأبنها المثابر المجتهد . عند الانتهاء من الفصل الأول من الرواية ، تزايدت رغبتي في الدخول إلى الفصل الثاني ، ومع الفصل الثاني تزايدت خطـّافات الشّد إلى المواصلة ، وبدأ التفاعل مع أحداث الرواية يأخذ مداه ، حتى شعرتُ وأنا أواصل السير بين أحداثها قد أصبحتُ جزءً منها ، ولم أعدْ أشعر بشيء ، إلا أنّ دخول أمي المفاجئ جعلني أرفع رأسي إليها ، فوجدتها حاملة الشاي مع صحن مليء بقطع الخبز المدهونة بالزبد والسكّر ، وهي تمتمُ :
ـــ الله لا ينطيهم .. شدعوه هلكد ينطوكم تحضير !!
أخذتُ ما في يدها ، وخرجت وفيض الكلمات يجري خلفها :
ـــ الله لا يضيّع تعبكَ ، إنشاء الله لو طبيب لو مهندز .
واصلتُ القراءة بشغف كبير ، أنساني الشاي والخبز الذي أمامي ، وغرقتُ في فصول الرواية ، ولم أنتبه إلى الوقت إلا عند آذان الفجر ، ومع صوت المؤذن لم يبق لي من الرواية سوى الفصل الأخير الذي تجمعّت فيه حلاوة ما قرأته من قبل ، ولأجل التعرف على نهاية الأحداث المتشابكة والصور المزدحمة في فصولها السابقة ، بقيتُ معها حتى طلوع الشمس . بعد الانتهاء منها ، وضعتها في الكيس ، ونهضتُ لأغتسل ، واستبدل ثيابي ، وأتهيأ للذهاب إلى المدرسة .
عند خروجي إلى باحة البيت ، وجدتُ أمي تجلس القرفصاء ، وهي تنظر لي بعينين متألقتين بالإعجاب والفخر من مثابرة ابنها على دروسه ، وإصراره على التفوق ليصبح في المستقبل طبيباً أو مهندزاً . استبدلتُ ثيابي على عجل ، ومددتُ يدي على عجل أكثر إلى الخبز ، بدأتُ استحلبه داخل فمي ، وأرشفُ الشاي الذي فقدَ طعمه لافتقاده سخونته ، وتوكلتُ على الله وأسرعتُ إلى المدرسة . عند خروجي من البيت ، كان دعاء أمي يلازمني ، وعندما احتضنني الشارع الطويل ، شعرتُ بشيء من الدوار يتسلل إلى رأسي كلص مختبئ ، ومع انتهاء الدرس الأول ، أدركتُ أن لا طاقة لي على أداء امتحان الرياضيات الذي كان مقررا في هذا اليوم . كم تمنيتُ أن يكون الامتحان لمادة الاقتصاد أو التاريخ ، أو غيرها من المواد التي لا علاقة لها بالأرقام والإشارات والمعادلات ؟ فمثل هذه الدروس يمكن للطالب أن يجيب عليها ، الرياضيات لا تقبل ( اللغوة ) التي اعتدنا كتابتها في الإجابة عن أسئلة الدروس الأخرى .
دقّ جرس المدرسة الذي يحمله ( الفرّاش ) بيده معلنا الدخول إلى الحصة التالية ، ومع دقاته المتواصلة ، كنتُ أحسّ بدقات قلبي تتصاعد بعنف ، ومع دخول أستاذ الرياضيات إلى الصف وكتابة الأسئلة على السبورة ، أيقنتُ أنني وقعتُ في ورطة لا أستطيع الخروج منها ، قرأتُ الأسئلة من جديد ، لا يمكنني الإجابة على أيّ سؤال منها ، ولابدّ من عمل عاجل أقومُ به كي أتخلص ممّا أنا فيه ، التقت عيناي بعيني الأستاذ ، تجاهلني أول الأمر إلا أنّ نظري بقيَ ملتصقاً به ، ابتعدَ قليلاً ثمّ التفتَ نحوي ، فشاهدني أحدّق في وجهه بلا انقطاع ، رفعَ يده ، وأشارّ لي أن أباشر في حلّ الأسئلة ، رفعتُ يدي ، فأشرتُ إلى رأسي بسبابتي في رسالة فورية عن إصابتي بالدوار الشديد ، انطلقَ صوته شرساً مزمجراً جفلَ منه كلّ من كان داخل الصف : الأسئلة على السبورة ، فباشر في الإجابة عليها دون مراوغة أو كلاو.. .
عيناي تتوسلان اليه أن يعفيني من الامتحان ، وملامحي تقول : أللعنة على جبّار أبو الكبّة الذي ورطني بهذه الرواية ( الكشرة ) . نظراتي تتابع الأستاذ في توسل مفضوح ، اقترب مني ، قلتُ في نفسي : لقد جاء الفرج ، رفعني من قميصي قائلا بغضب : قلْ لا تفهم الإجابة ، خير من اختلاق الأعذار .
أدركتُ غباء الأستاذ من ذلك اليوم ، يريدني أن أعترف له ، وأنا قضيتُ ليلتي أقرأ ، وأمي ساهرة معي حتى الصباح ، تسعفني بـ ( استكانات ) الشاي ، والخبز الحلو ، والدعاء المتواصل ، وبعد هذا كلّه يريدني أن أقول له : لا أعرف الإجابة . ابتعدَ عنّي قليلا ، وراحَ يراقبُ الطلبة في الجهة الأخرى ، وعندما استدار وجدني قد وقعتُ أرضاً ، أسرعَ نحوي بعض زملائي الذين نقلوني إلى غرفة المدير ، وهناك ومع الجهد الذي بذله مدرس التربية الرياضية ، وما قام به من إسعافات أولية ، تظاهرتُ بعودة الوعي ، إلا أنني كنتُ خائفا من عودتي إلى الصف لأداء الامتحان ، بقيتُ حتى آخر الدرس ، بعدها أرسلوا في طلب أخي الذي كان طالبا في نفس المدرسة ليأخذني إلى البيت . طيلة الوقت الذي قضيناه في طريقنا إلى البيت ، وأنا أحـّذر أخي بعدم التحدث إلى أمي بما حصل ، وكان يشاطرني ما أنا فيه ، إلا انه ما أن دخل البيت حتى أسرع إلى

أمي ليخبرها بكلّ ما حصل وبالتفصيل ، مع التأكيد لها على حصولي ( صفر ) في الامتحان ، تلقفت أمي الخبر بغضب شديد ، أسرعت نحو العباءة ، وضعتها على رأسها ، وهمّت بالخروج من البيت ، وقفتُ في طريقها ، طبعتُ قبلة على جبينها ، أخبرتها أنّ ما حصل لا يستحقُ كلّ هذا الانفعال ، إلا أنّ أخي ( الملعون ) أكدّ لها موضوع ( الصفر ) في الامتحان ، فهمّت من جديد بالخروج من البيت ، صارخة في وجهي :
ـــ دعني أذهب إلى ( زكـّية ) لتقول لأبنها ، أنّ ولدي بقي ملازماً كتابه حتى الصباح ، وأنا شاهدة على ذلك .
بعد التوسل وتقبيل يدها ، أثنيتُ أمي على ما هي عازمة عليه ، وعند المساء ، ذهبتُ إلى المقهى حاملاً معي رواية البؤساء ، وما أن وقعَ نظري على جبّار حتى دخلتُ عليه ، رميتُ الكتاب في حضنه دون كلمة شكر ، وعدتُ مسرعاً إلى البيت .
رحمَ الله أمي الطيّبة التي انتقلت إلى جوار ربّها ، ولم تشاهد ابنها يرتدي الصدرية البيضاء ، أو غطاء الرأس الذي يضعه المهندسون على رؤوسهم . ورحمَ الله جبّار أبو الكبّة الذي وافته المنيّة بعد سقوطه من أعلى داره إلى رصيف الشارع عندما كان يلوّحُ لـ ( العنبري ) وهو يتقلبُ في السماء ، ورحم الله فكتور هيجو الذي لم أقرأ له منذ ذلك اليوم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكاتب والذكربات
ليلى الشيباني ( 2009 / 6 / 8 - 17:33 )
عندما يكون الاديب مقتدرا على كتابة القصة والرواية فلابد أن يكون جميلا في كتابته وهو يكتب عن ذكرياته قالقلم المبدع هو القلم المبدع والاديب المحترف هو الاديب المحترف .
شكرا لك أديبنا الجنديل

اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟