الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من صنعَ الوحش ؟

عباس عبد الرزاق الصباغ

2009 / 6 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


بعيدا عن الإنشائيات السياسية الفارغة والهرطقات القومية المستهلكة وقريبا جدا من الشعور العالي بالوطنية العراقية وصعودا الى أعلى درجات سلم أولوياتها نجد ان بعض "دول" الجوار العراقي مازالت تتعامل بذات النزعة البدوية "الدونية" والعشائرية التي كانت تتعامل بها فيما بينها قبل عصر اكتشاف النفط وظهور الملامح الأولى للخارطة الجيوبوليتيكية للمنطقة وتحديدا منطقة الخليج الذي اختلفت تسميته بحسب التنوع القومي على ضفتيه الشرقية والغربية وتحول البعض من التجمعات السكانية القبلية التي كانت تعيش على تخوم الخليج ( العربي ـ الفارسي) الى مشايخ تدرجت الى مرحلة تأسيس الدول وصارت في آخر المطاف دولا أعضاء في الأمم المتحدة وقبل عصر "التأسيس" لم تكن تلك التجمعات ـ الدول تحظى بأي اهتمام إقليمي او دولي عدا الحرمين الشريفين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) في الحجاز ولأسباب دينية بحتة ولموسم عبادي محدود الزمان والمكان فضلا عن اهتمام كلاسيكي بأهمية المنطقة بحكم موقعها الجغرافي. ولم يكن هذا التأسيس ضمن المصالح الوطنية أو الطموحات القومية لتلك "الدول" بل لمصالح وتطلعات القوى الكبرى ومنها بريطانيا للسيطرة على منابع الطاقة "النفط والغاز" ومناطق إنتاجها ومنافذ توزيعها وضمان تدفقها إلى الأسواق العالمية يضاف إلى ذلك بروز بوادر الاهتمام العالمي بأهمية المنطقة التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بمصادر الطاقة التي تعد احد روافد القوة التي تصب في ديمومة الماكنة الاستعمارية للقوى العظمى آنذاك والتي كانت تسيطر على أصقاع شاسعة من العالم كما كانت تلك المصادر تغذي استمرارية القوى التي كانت تتنافس فيما بينها على مواقع النفوذ وهذا مايعني ان دول الخليج أسست بموجب مصالح القوى العالمية الكبرى وكانت تخضع لميكانيكية التجاذبات بين تلك القوى .
في حين ان تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 لم يكن تأسيسا بالمعنى الحرفي للاصطلاح السياسي بل كان إعادة تأسيس لها ولحاجة ومصلحة وطنية وقومية ولان التأسيس العراقي سابق على أي تأسيس اقليمي آخر حتى على القوة التي ساهمت في إعادة تأسيسه ( بريطانيا العظمى) وبتعبير آخر إعادة تشكيل الدولة العراقية فكان من الطبيعي ان تنظر تلك الدول المؤسسة حديثا نظرة حسد وتتعامل مع العراق تعاملا استفزازيا بعيدا عن لغة المصالح المشتركة ومبدأ حسن الجوار أو التجاور الإقليمي وفي جميع العصور كان العراق حتى في عصور الانحطاط والنكبات، يتمتع بكل المزايا الجيوسياسية لدولة محورية مهمة في الوقت الذي كانت تلك الدول مجرد أشباح عائمة على السواحل الشرقية للخليج بنسخته العربية .
وهذا الشعور العالي بالتفوق حيال المواطنة العراقية لم يكن نابعا من عقدة الجودة التاريخانية المتقدمة على غيرها بآلاف السنين او من الشعور بالتفوق الحضاري والمعرفي الذي تزامن مع سطوع فجر الحضارات على ارض الرافدين بل هو نابع من حقائق فرضتها مسلمات الستراتيجيا الجغرافية وثوابت الديموغرافيا التي افتقرت إليهما تلك الدول في الوقت الذي كان فيه العراق جسدا مستطيلا قائما (وليس عائما) في قلب الشرق الأوسط وليس من الممكن او من المستحيل ان يتم غض النظر عن تلك الحقائق لسواد عيون "الأشقاء" ولتعزيز مبدأ حسن "الجوار" لمن هب ودب على حساب الكرامة الوطنية والهيبة العراقية المتوارثة عبر خمسين قرنا من الزمان او تزيد وليس رغما على انف بغداد التي كانت في يوم ما أم الدنيا وكانت "شقيقاتها" العربيات والخليجيات توابع والبعض منها لم تحظ َ بهذه الصفة إلا بعد حين من الزمن ولم تكن قبل ذاك شيئا مذكورا او كانت نسيا تاريخيا وجغرافيا منسيا ..
وحتى في عهد آل عثمان ودخول العراق عهده المظلم ويوم كان العراق يستباح مرة من جاره الصفوي ومرة أخرى من جاره العثماني بدوافع مذهبية كريهة تارة وأخرى سياسية عدوانية تارة اخرى ويوم كانت بغداد ومعها الموصل والبصرة مجرد ولايات تابعة للهمايون العثماني وكانت تدار من قبل الباب العالي لم تكن لبعض "دول" الجوار العراقي وتخومه الإقليمية أية ملامح تدل على أية هيكلية إدارية او مقومات من الممكن ان يشار إليها ببنان التوثيق المفضي إلى أرشفة وجود وطني واضح المعالم يتمتع ببعض المزايا ولو في الحد الأدنى منها من تلك التي يتمتع منها الوجود العراقي الضارب في عمق التاريخ والصاعد فوق الزمان والمكان اللذين يتباهى بهما "البعض" ممن تحول وخلال عقود معدودات الى "دول" اختصرت ببترولها المسافات الحضارية الشاسعة وتحولت الى إخطبوط يعكر صفو المزاج الوطني العراقي وتفرض على الآخرين لاءاتها دون وجه حق..
وبعض تلك الدول ساهمت مساهمة فعالة في صناعة الوحش الديكتاتوري الذي حكم العراق بالحديد والنار عقودا طوالا وساعدت على مد مخالبه فوق ربوع الوطن ، المخالب نفسها التي ارتدت عليها ذات يوم لتنال جزاءها وفاقا ، كما تورطت حتى النخاع في بهلوانيات صدام حسين ومغامراته ونزواته الصبيانية وأفعال مراهقاته السياسية وبدلا من أن تتجه نحو تنمية وتطوير شعوبها وبلدانها راحت تغدق عشرات المليارات من الدولارات على الماكنة الحربية الصدامية التي طحنت الشعبين العراقي والإيراني في حرب الخليج الاولى وعادت لتطحن الشعبين العراقي والكويتي مرة اخرى لتدفع بذلك الشعوب لوحدها ثمن أخطاء قادتها وحماقاتهم وتنفيذهم للأجندات المشبوهة من مثل نظرية "الاحتواء المزدوج" التي بشَّر بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر باحتواء كل من العراق وإيران في حربهما الضروس التي دامت ثماني سنوات شداد عجاف لم يتوانَ "الأشقاء" لحظة واحدة عن صب زيتهم على تلك النار التي احرقتهم فيما بعد ..
ان "االهبات" او المعونات التي كان يغدق بها "الأشقاء" لديمومة حكم الطاغية صدام والتي تحولت فيما بعد الى "ديون" واجبة الدفع من قبل فقراء الشعب العراقي ومسحوقيه ومساكينه وممن دفعوا ارواحهم هباء منثورا من اجل الدفاع عن "البوابة" الشرقية للأمة العربية وعن "شرف" الامة وعزتها وكرامتها تلك الأمة التي استكثرت (بعد سقوط "رمزها" القومي) على العراقيين ان يتنفسوا صعداء الحرية ويعيشوا الحد الادنى من الكرامة ويستمتعوا بقليل من الحرية والديمقراطية ضمن استحقاقهم التاريخي ، كما تحولت تلك الهبات الى استحقاقات فرضت على الشعب العراقي أن يستقطع من لحمه ودمه وقوت أطفاله ومن أموال إعادة اعمار ما دمره الأعداء و"الأشقاء" معا ليبقى يدفع الثمن مرتين مرة ثمن اخطاء حكامه واخرى ثمن أخطاء الآخرين الذين مازال "بعضهم" يتوعد بالويل والثبور ويتحجج بالقرارات الأممية التي يجب ان ينفذها الجانب العراقي حرفيا وإلا فانه سيبقى تحت طائلتها الى يوم يبعثون بدلا من يعتذروا للشعب العراقي عن الوحش الذي صنعوه وعن الصنم الذي ظلوا عليه عاكفين ايام "القادسية" الثانية يوم كانت حرائر العراق تغتصب في السجون وشبابه يموتون بالمجان نيابة عنهم ..
كاتب واعلامي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال