الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انكسارات المشروع القومي: قراءة غير تقنية في نتائج المؤتمر العربي الخامس عشر

عماد هرملاني

2004 / 4 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


وسط حمأة النكبات التي تتناوب على تمزيق جسد "الأمة العربية" منذ بداية التاريخ العربي الحديث، والتي ازدادت وطأتها بشكل خاص خلال السنوات الأخيرة، ما يزال نفر من المحاربين العرب القدامى، فرسان السيف والقلم، يجدون متسعا من التاريخ لحضور مؤتمر سنوي ظلوا يواظبون على عقده، دون انقطاع، منذ خمسة عشر عاما، ويعيدون فيه مضغ نفس الطروحات المكرورة التي أشبعوها نقاشا منذ مؤتمرهم الأول الذي عقدوه عام 2001 في العاصمة العراقية بغداد تحت رعاية "السيد الرئيس (آنذاك) صدام حسين"، ثم تفرغوا منذ ذلك الوقت من أجل إعادة التذكير سنويا بتلك الحقائق التي اكتشفوها حول التحديات التي تواجه "الأمن القومي العربي" وحول الخطوات التي يجب اتخاذها على المستويين "الاستراتيجي والتكتيكي" من أجل مواجهة تلك التحديات وفي مقدمتها (طبعا!) مواجهة " واقع التجزئة" إضافة إلى "وجود القوى والأساطيل والقواعد العسكرية الأجنبية الجاثمة على أرجاء أراض عربية عدة "، و "إلى الإهدار اليومي السافر لجزء من سيادة الدول العربية على أراضيها وأجوائها ومياهها من طرف قوى العدوان الصهيوني والإمبريالي"، و "إلى استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان ومزارع شبعا"، و"الاحتلال الأجنبي للعديد من الأراضي العربية"، "إلى العدوان العسكري الأنغلو أميركي اليومي" على العراق ، و"العدوان الصهيوني على مواقع المقاومة وعلى الوجود السوري في لبنان"، "إلى حيازة الكيان الصهيوني للسلاح الذري ومحاولات حرمان العرب من حق حيازة سلاح الردع الاستراتيجي المناسب ... إلى محاولات إثارة النعرات العرقية في المغرب العربي، والطائفية والمذهبية في المشرق العربي "، وغيرها العديد من "التحديات الخطيرة التي تضع الأمن القومي العربي أمام امتحان عسير" حسب نص العبارات التي وردت في بيان المؤتمر الأول والتي يمكن أن نقرأ نصوصها في جميع البيانات اللاحقة وصولا إلى البيان الأخير الذي صدر عن اجتماع المؤتمر القومي العربي في بيروت خلال الأسبوع الماضي.
ودون الدخول في مناقشة تفصيلية حول بيانات المؤتمر ومواقفه ونشاطاته والدور الذي لعبه خلال السنوات الطويلة التي مضت على تأسيسه، تقود المناسبة نفسها نحو التمعن في مظاهر حالة "الانفصام" الحضاري والثقافي التي يعيشها العرب منذ بداية تاريخهم الحديث والتي يتأرجحون فيها بين تطلعاتهم نحو الحلم الأثير بالوصول إلى اليوم الذي يعيشون فيه تحت ظلال الدولة العربية الواحدة التي تمتد رقعتها من مياه "الخليج الثائر" إلى شطآن "المحيط الهادر" حسب منطوق الشعارات التي صاغتها خطابات الطلائع الريادية للمشروع القومي العربي في الحقبة الناصرية، وتحولت مع مرور السنين إلى شعور مستبطن في أعماق الوجدان السياسي للشعوب العربية التي ما زالت تجد ما يستثير عواطفها في أناشيد "الحلم العربي" و "الوطن الأكبر"، وبين حقائق الحدود السياسية والاقتصادية والثقافية التي تزداد أسوارها ارتفاعا بين الكيانات القطرية التي حبست نفسها داخل دوائر ضيقة اقتطعتها من خارطة الأرض الممتدة التي اعتبرها المشروع القومي دائما قاعدة قيام دولة العرب الواحدة ووجد في تواصلها الجغرافي أحد روافع الخطاب الوحدوي نفسه وأحد المسوغات الحسية التي تمنح ذلك الخطاب مشروعيته وفقا لما تقرره مثلا اللائحة التخطيطية التي رسمها ساطع الحصري حول مقومات القومية العربية.
ورغم الانكسارات المتعاقبة التي تعرض لها "الحلم العربي" منذ ولادته في أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، تدلل مسيرة الأحداث التي تشهدها المنطقة بين حين وآخر على أن ذلك الحلم الأثير ما يزال قادرا على إفراز مظاهر تنم عن رسوخه ضمن مستبطنات الوجدان الشعبي للشارع العربي، وهو ما يمكن قراءة بعض شواهده الماثلة من خلال رصد ردود الفعل المعلنة أو المكبوتة التي أبداها الشارع العربي في متابعته لمأساة الشعب الفلسطيني بمسيرتها المديدة وتشعباتها المتداخلة ويومياتها المفجعة، وأيضا في تعاطفه الظاهر مع تطورات المحنة التي تعرض لها الشعب العراقي خلال فترة الحصار الدولي الذي فرض عليه ثم بعد وقوعه تحت نير الاحتلال الأميركي إثر معركة سقوط بغداد التي أدمت وجدان الشعب العربي في مختلف دوله وأقطاره.
وقد يكون من نافل القول أن تلك المقاربة "الوجدانية"، والتي يبقى ظهورها متلازما مع النكسات العربية الكبرى، هي أضعف بكثير من أن يعول عليها في الرهان على مستقبل المشروع القومي، وربما كان نقيض هذا الكلام هو الصحيح حيث قدمت تلك المقاربات دليلا جديدا على أن الشارع العربي، الذي يحتضن ترسبات الحلم الوحدوي الكبير، ما يزال عاجزا عن إنتاج أثر سياسي يفرض نفسه على حسابات النخب السياسية العربية التي تمسك وحدها بمقاليد صنع القرار على الصعيدين القطري والقوم.
ويكشف المآل الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية نفسها عن جانب أساسي من جوانب الأزمة التي وصل إليها المشروع القومي العربي بعد مرور أكثر من قرن كامل على ولادته ، ولا يتعلق الأمر هنا فقط بحالة العجز التي تهيمن على مواقف النظام العربي حيال أخبار الفظائع التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل يومي، فالأهم من هذا أن التطورات التي جرت على مسرح المنطقة خلال العقود الأخيرة، وخصوصا بعد انطلاق مسيرة التسوية السلمية المستندة إلى مؤتمر مدريد، رسمت للصراع العربي الإسرائيلي سقفا سياسيا ينطلق من أرضية التسليم بوجود إسرائيل التي اعتبرها خطاب المشروع القومي على الدوام "كيانا غريبا" زرع في قلب المنطقة بهدف إجهاض إمكانية قيام دولة عربية واحدة وهدم الأساس الجغرافي الذي يشكل أحد الروافع المركزية للمشروع القومي، وهو ما يذكر بالشعارات المجلجلة حول "صراع الوجود وصراع الحدود" وحول "التحرير الكامل من النهر إلى البحر" التي دوت في سماء العواصم العربية خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي درج على تحميلها عنوان "مرحلة المد القومي"، حيث كان تحقيق دولة الوحدة في أرض العرب مشروطا (من كافة النواحي وخصوصا الجغرافية) بإزالة ذلك "الجسم الغريب" الذي زرع في نقطة القلب الجغرافي للمنطقة.
وتكتمل صورة المأزق الذي وصل إليه المشروع القومي العربي من خلال مأساة الاحتلال الأمريكي الذي انتهى إليه الوضع في العراق نتيجة سياسات أمعنت على مدى يزيد عن ثلاثة عقود في استنزاف طاقات العراق وقدراته المادية والبشرية وإهدارها في حروب عبثية تمت تغطيتها على الدوام بشعارات "قوموية" تحدثت مرة عن "حماية البوابة الشرقية للأمة العربية" من خطر فارسي لم تظهر هواجسه في عهد الشاه، وتحدثت مرة أخرى عن تحقيق الوحدة العربية (مع دولة الكويت!) على الطريقة البسماركية، ثم لهجت بالصراخ حول معركة "الدفاع عن كرامة الأمة العربية" في مواجهة الغزوة الأميركية "الصليبية"، بعد أن كان النظام العراقي نفسه قد أهدر كرامة الأمة في كل القرارات الدولية التي وافق عليها بدءا من وثيقة الاستسلام التي وقعها في صفوان ومرورا باتفاقات النفط مقابل الغذاء التي وضعته تحت الوصاية المباشرة، ثم قبول فرق التفتيش الدولية التي انتهكت حرمة قصوره الرئاسية، وانتهاء بموافقته على تدمير ذخيرته من الصواريخ طوعا عشية بدء معركته الحاسمة للدفاع عن "كرامة الأمة".
وتزداد دلالات المأساة العراقية دون شك عند التدقيق في ملامح الوضع الذي ورثه العراقيون عن النظام السابق الذي حكم العراق لأكثر من ثلاثة عقود باسم الأيديولوجيا القومية، ليكتشفوا بأن كل ما فعله ذلك النظام هو نقل العراق من الاستقلال إلى الاحتلال ومن حالة التعايش الوطني إلى حافة التفكك والانقسام، وفي موازاة مسئوليته عن هدر طاقات العراق في حروبه العبثية، تبقى الكارثة الكبرى التي اقترفها النظام السابق هي هدم مقومات الوحدة الوطنية وتغذية أحقاد التناحر الأقوامي والطوائفي بين فسيفساء الجماعات التي تعايشت داخل بوتقة الكيانية العراقية منذ عهود موغلة، وعبر سياسات الإبادة الجماعية والتنكيل اليومي التي مارسها على مدى سنوات حكمه بحق الشيعة والأكراد بشكل خاص نجح النظام (القومي) السابق في إيقاظ نعرات الخلاف التي أمست بفعل تلك الممارسات تهدد جديا وحدة نسيج التركيب الوطني للدولة العراقية.
وبشكل عام تكشف مصائر تجربة الحكم "القومي" في العراق عن جانب أساسي من جوانب المأزق الذي أنتجه المشروع القومي في المنطقة العربية، والذي يتجسد في الدور الذي لعبه ذلك المشروع كأيديولوجيا شعبية أسهمت في تغطية السياسات والممارسات الاستبدادية التي شكلت علامة مميزة لمختلف القوى السياسية التي حملت لواء هذا المشروع، والتي نجحت إلى حد بعيد في تسويق نظريات أضفت على موضوع "الوحدة العربية" طابعا من القداسة (مثال ناصع في كتابات ميشيل عفلق) جرى استغلالها بنجاح كبير في تبرير عمليات القمع التي مارستها تلك القوى عند استلامها السلطة بحق القوى السياسية الأخرى التي كانت تخالفها الرأي والتي جرى اتهامها على الدوام بخدمة مخططات القوى الدولية التي تتواطأ منذ عهود قديمة، حسب توهمات حظيت برواج كبير،على محاربة القومية العربية وإعاقة مشروع إقامة دولة واحدة تجمع كل العرب.
وتقود الشواهد المذكورة، التي يمكن استدعاء الكثير من مشابهاتها إلى ساحة الذاكرة العربية القريبة والبعيدة، نحو تشخيص صورة المأزق الذي وصل إليه المشروع القومي العربي بأنه مأزق انسداد مزدوج يعكس في مرآته صورة تقابل صلب بين نخب سياسية أنتجها واقع التذرر القطري فبدأت تستهوي لعبة إعادة إنتاجه عبر سياسات تتستر بشعارات قومية صاخبة، وبين "شارع جماهيري" عاجز عن الإتيان بأي فعل سياسي غير إعادة استذكار شعارات الخطاب القومي في أيام مجده السالف كلما أصابته كارثة قومية جديدة.
وبمقدار ما تقود مثل هذه القراءة نحو التأكيد على أن الكلام عن مستقبل المشروع القومي وأفقه بات مرهونا بجرأة القوى القومية نفسها على القيام بمراجعة نقدية واسعة وجذرية لمجمل التجربة التي مر بها المشروع منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن، والسؤال عن الزاوية التي حكمت نظرة رواد المشروع القومي إلى المعادلات المركبة التي كانت تحكم العلاقة بين مقومات الوحدة التي تم استلهامها بشكل أساسي من اعتبارات التاريخ وافتراضات الجغرافيا، وبين شروط الحاضر الذي كانت تعيشه المنطقة في ذلك الوقت بعد فترة الحكم العثماني الطويل، وبين إمكانات المستقبل الذي كان يلوح ضمن أفق المنطقة في ضوء شبكة التحديات الداخلية والخارجية المتشابكة التي كانت تحكم منذ ذلك الوقت عملية تشكل الخارطة الجيوسياسية التي ستظهر في المنطقة على أنقاض السلطنة العثمانية.
وتتجاوز المسألة هنا حدود المقاربة الأيديولوجية التي يمكن أن توحي بها الدعوة إلى محاكمة البدايات الأولى التي أسست للمشروع القومي العربي والتي غلب عليها طابع "التبشير" الأيديولوجي الذي يفضي عادة إلى ضرب من التعالي عن الواقع الحي والانصراف عن التبصر في حقائقه المعاشة، حيث تدلل مسيرة المشروع القومي ومآلاته الراهنة على أن الوجهة التبشيرية التي حكمت حركة المشروع منذ البداية كانت في حد ذاتها من بين الأسباب الأساسية التي أسهمت في زيادة تهميش دور الشارع الجماهيري في عملية صنع القرار السياسي على المستويين الوطني والقومي وأدت ،عبر فكرة القوى الطليعة التي تنفرد بمعرفة "المصالح العليا" للأمة، إلى تكريس مظاهر تحكم النخب السياسية وحدها بعملية رسم السياسات العربية وتوجيهها، وهو ما شكل مدخلا عملياتيا لظهور قوى استبدادية أمعنت في تدمير مقومات الحياة السياسية في العالم العربي من وراء أقنعة الشعارات المسترسلة التي عزفت على أنغام "المشروع القومي" و "الحلم الوحدوي".
وإذا كانت النتيجة من المقدمات السابقة تفيد بأن آفاق الخروج بالمشروع القومي من المأزق الذي يطبق عليه الآن لا يمكن أن تنفصل من الناحية الواقعية عن مداخلات نقد الأيديولوجيا التي استند إليها المشروع منذ مراحله التأسيسية الأولى، فقد يكون الاستنتاج الذي يمكن تأكيده هنا دون خشية الوقوع في مطبات التسرع أو المبالغة هو أن الاجتماع الأخير الذي عقده المؤتمر القومي العربي بنتائجه التي تجنبت التطرق إلى أية إشكالية جادة من إشكاليات المأزق الذي وصل إليه المشروع القومي في العالم العربي، أكد مرة أخرى على أن المؤتمر لم يعد يشكل إطارا صالحا من أجل مراجعة المشروع وتشخيص ما أصبح يعانيه من أزمات لم تعد تنفع معها المكابرة بالتشديد على أن "الأمة العربية ستظل قادرة على النهوض من جديد"، والتمسك بمفارقة الكلام التي يصعب تفسيرها أو تسويغها عن كون "القوى القومية ستزداد إصرارا في التمسك بالمشروع القومي كلما ازدادت الأزمات والتحديات التي يواجهها ذلك المشروع"..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو