الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استقلال القضاء في العراق الدستوري

خالد عيسى طه

2009 / 6 / 9
دراسات وابحاث قانونية


عندما يلوذ العراقي المخضرم، سيما اذا كان من رجال القضاء، بالصور التي اختزنتها ذاكرته الحية منذ عقود وعقود... لا يملك إلا أن يتمنى... يتمنى وهو رافع يديه الى السماء... عودة الأيام الكريمة التي شُرّفت بسيادة القانون ونزاهة القضاء واستقلاله ويهتف بصوت ضميره... ليتنا نملك الآن حتى ولو شيئاً يسيراً من الديمقراطية التي جعلت القضاء في ذلك العهد الدستوري الرائع مؤسسة عدل نزيهة شريفة.
وها أنذا وقد شارفت على السبعين من عمري أعيش دنيا جميلة يطبق عليها ضباب الزمن واستشف حقائق صرت الآن أعرف قدرها الحقيقي الجليل... دنيا أسافر اليها عبر العقود الأليمة المثقلة بالأحزان والمليئة بالدماء والدموع.
اتذكر أيام استقلال القضاء العراقي يوم كان يستمد قوته ونزاهته ومكانته السامية من الدستور الملكي المتطور الضامن لحقوق الأمة والضامن لمسيرتها نحو غد أفضل تتكامل فيه عناصر الديمقراطية وتتطور فيه حقوق الانسان وتغتني أكثر وأكثر حريات الناس على الصعيدين العام والشخصي.
ولا أريد هنا ان أعقد مقارنة بين القضائين البريطاني والعراقي ولكن يجدر بي أن أذكر قضية عدلية كان لها أثر إعلامي واسع في بريطانيا فيما كان القضاء العراقي يحفل بأمثالها ولكن من غير ضجيج أو دعاية.


فقد استطاعت أجهزة التحقيق ان تنتزع بالباطل اعترافات متهمين اربعة اتُهموا بقتل موزع الصحف (كارل بردج) وعندما رُفعت القضية الى المحكمة الجزائية صدر الحكم بالسجن المؤبد على المتهمين ثم رُفعت القضية حسب الأصول الإجرائية الى المحكمة العليا التي قضت بأن قرارات المحكمة الجزائية بالسجن المؤبد باطلة لأن التحقيق لم يكن نزيهاً أو عادلاً وأمرت بالإفراج عن الرجال المدانين الأربعة في الحال إن لم يكونوا مدانين في جرائم أخرى. وشاهدنا مع الناس على شاشات التلفزة البريطانية تلك المشاهد المؤثرة لعملية إطلاق سراحهم وجمع أهالي المفرج عنهم وعوائلهم في باحة المحكمة للترحيب بهم، وكانوا ثلاثة لأن رابعهم توفي بسبب عادي إبان بقائه في السجن، وهكذا العدالة تسير في مساراتها الطبيعية بضمانات دستورية رفيعة المستوى حقاً.
إن من قُدّر له ان يزاول مهنة القضاء الواقف ويترافع في رحاب المحاكم إبان العهد الدستوري ينتابه الأسى العميق لما أصاب القضاء العراقي بعد زوال عهد سيادة القانون وإبطال الدستور وانقضاء الضمانات الأساسية ومبدأ الفصل بين السلطات في عراق اشتهر بعدالة قضائه وسلامة أجهزته العدلية إبان العهد الملكي، وكان الملك المغفور له فيصل الأول حريصاً كل الحرص على صب الأسس المتينة لتلك المباديء الدستورية وتطويرها باستمرار وعلى نهجه سار العهد الملكي حتى آخر أيامه... وكذلك كانت المحاماة مهنة لها كرامتها الرفيعة كهيئة مستقلة تتعاون مع القضاء حسب مبدأ –التعارض البنّاء- وكان للمحامي صوت مجلجل واثق من نفسه ويعمل من أجل تحقيق العدالة والحق.
لا أريد الدخول في مقارنات قانونية بشأن الأصول الجزائية المتبعة في إعادة محاكمة المتهمين في بريطانيا والعراق، ولكن في بلدي كانت الأحكام الجزائية الصادرة من المحاكم الكبرى، وهي المحاكم المختصة بالنظر في تلك الدعاوى التي تزيد عقوباتها بالحبس أو السجن على ثلاث سنوات، ترسل جميعاً بحكم قانون "الإدعاء العام" الى محكمة التمييز لتُدرس أحكامها في المرحلة التمييزية العليا.
كما ان مهمة الإدعاء العام، أو كما تُسمى في بعض الدول "محامي الدولة"، لم تكن السعي لمجرد إثبات التهمة وإدانة المتهم بل تحقيق العدالة خلال مرحلة التحقيق القضائي والمناقشات، وكذلك طلب تمييز القرار لغرض تشديده أو تخفيفه. وهذا المبدأ من وجهة فلسفة العدل انما مبدأ رائع ومن أشد الضمانات لتحقيق العدالة وكان بالفعل أساساً لسلامة الأحكام الجزائية حين كان القضاء يحيا في بحبوحة من الضمانات الدستورية الديمقراطية.
ويلاحظ الدارس المتتبع ان قانون المرافعات الجزائية وقانون العقوبات لسنة 1924 كانا مانعين جامعين ومن باب السهل المنبسط حتى اني اتذكر ان عامة الناس كانوا يفسرون لبعضهم البعض مواده خاصة المواد 214-217 وهي تنص على عقوبات يهابها المواطنون.
إن بساطة قانون العقوبات كانت مصدر ثقة عامة واحترام شعبي ولم تكن فيها نصوص تحكم بالإعدام إلا في حالات محصورة جداً هي بالنسبة لعامة الناس جرائم كبرى كالقتل مع سبق الإصرار والترصد وتعدد المجني عليهم أو القتل مع التمثيل بالمجني عليه بالاضافة الى مواد قليلة تتعلق بأمن البلاد داخلياً وخارجياً.
أما بعد انقضاء العهد الدستوري فنجد ان الجرائم المحكوم عليها بالإعدام تكاثرت في قانون العقوبات حتى ليظن المرء ان القانون في عهود الانقلابات العسكرية لم يُشرّع إلا لحصد رؤوس المواطنين وإزهاق ارواحهم بأكبر عدد ممكن.
كان الهيكل القضائي في عهد الدستور والقانون، عهد الخير والسلام، هرماً يضم مجموعة من نخبة صالحة من حكام التحقيق الذين يتمتعون بثقة الناس واحترام رئيس محكمة التمييز ورئاسة لجنة نقل الحكام وترفيعاتهم اضافة الى رضا وزير العدل وثقته، إذ أن سياسة ذلك العهد كانت مبنية على أساس المبدأ الذي رسمه الملك فيصل الأول والقائل بأن "العبرة ليست في القانون بقدر ما هي في اليد التي تطبق القانون".
ولما كان حكام التحقيق ذوي صلة ادارية تحقيقية مباشرة مع الشرطة والمحققين العدليين، فقد أدت هذه الحقيقة العملية الى حرص الجميع على رجوع ضباط الشرطة المشاركين في التحقيق لسلطة القضاء، سيما حكام التحقيق، وليس لمدير الشرطة، ولذا لم يكن ثمة أوامر بالتوقيف أو التحري لأي دار أو محل أو مداهمة الدور والمحلات إلا وهي صاردة بأوامر حاكمية التحقيق وإشرافها.
وكان لكل منطقة قضائية حاكم تحقيق مختص بها بل وأكثر من حاكم تحقيق واحد. فكان اولئك الحكام يعملون ليل نهار وبالتناوب لكي يكون اشراف القضاء محكماً على مراحل التحقيق ورقابته دقيقة. وكم من وزير عدلية في ذلك العهد هدد بالاستقالة إذا ما لحق بأي حاكم من حكام التحقيق تجاوز من قبل أية جهة كانت، سيما الشرطة، على سلطات حاكم التحقيق المطلقة الهادفة الى تطبيق القانون وإرساء قواعد العدل بين الناس. كان شعار الدول والقضاء أيامئذ: "العدل أساس المُلك".
في حالات عديدة كانت السلطات القضائية العليا تلغي قرارات محاكم الجزاء وتطلق سراح المحكوم عليهم لعدم القناعة في مرحلة التمييز بسلامة الإجراءات التحقيقية التي أجرتها الشرطة ونقض الاعترافات التي تكون قد اُخذت من المتهمين بأساليب غير قانونية، وكان قضاء العهد الملكي في عراقنا لا يأخذ باعتراف أي متهم يؤخذ منه بالغصب أو التعذيب.
وها انذا اتذكر الآن كيف ان محكمة الجزاء الكبرى، وكانت يومئذ برئاسة الحاكم فريد علي غالب، قد طلبت من المتهم الذي كنت أنا وكيله ان يثبت ان اعترافه قد نزع منه فما كان من المتهم إلا أن يقوم بخلع ملابسه فشاهد الحاكم آثار الضرب بالسياط على ظهره وقرر بناء على ذلك بعدم الأخذ باعتراف الرجل وتقديم من قام بالتحقيق معه الى مجلس تأديب الشرطة واجراء التحقيقات الجنائية معهم وإشعار وزارة العدلية بذلك. يومئذ آمنت، ويشهد الله، بصدق ما كتب في صدر القاعة وفوق رأس الحاكم، "العدل أساس الملك".
ومن أجل سلامة التحقيق وضمان العدل القضائي فقد كان القضاء العراقي في العهد الدستوري وبنحو دائم لا يكترث لشهادات أفراد الشرطة وضباطها ضد المتهمين. وفي العادة كان الحكام يسألون الشهود عن نوع عمله فاذا أجاب بأنه شرطي، يوجه الطعن الى شهادته لأنها جائت لقاء محصلة وهي المرتب الذي يتقاضاه عن عمله. والشهادة في القانون لا يؤخذ بها إلا اذا كانت غير مدفوعة الأجر أو لقاء مطمع، بل يجب ان تكون غير متحيزة ولوجه الحق وحده وبعيدة عن كل مصلحة.
حتى الناحية الإعلامية في مجال القضاء كانت بسيطة جداً أو من غير ضجيج أو مبالغة فلم تحدث ضجة كتلك التي أحدثتها قضية مقتل السيد كارل بردج موزع الصحف في بريطانيا... فما أكثر القضايا التي نقض فيها قرار محكمة تمييز العراق أحكام المحاكم بالإعدام أو السجن بعد أن تكون محكمة التمييز قد أشبعت القضية دراسة وتمحيصاً من قبل هيأتها العامة المؤلفة من ستة وثلاثين حاكماً محنكاً فكانت تحكم باطلاق سراح المحكوم عليهم أو الافراج عنهم حتى وان كانت المحاكم الجزائية قد حكمت عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد اذا اقتنعت محكمة التمييز بأن الاعترافات قد انتُزعت من المحكوم عليهم بالقوة أو التعذيب.
وكم من أحكام وقرارات نهائية رُفعت الى ملك العراق فأصدر الملك إرادته السامية بتخفيف الأحكام وجعل الإعدام سجناً مؤبداً أو تخفيف السجن المؤبد الى حكم لمدة خمسة عشر عاماً وهكذا. كما كان الملك يستخدم صلاحياته لاطلاق سراح السجين المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، اضافة الى اصدار المراحم الملكية العامة التي تشمل اطلاق سراح عدد كبير من السجناء أو تقليل مدد محكومياتهم في المناسبات العامة.
ايه... يا زمن... هل يتحقق حلمنا الشريف يا ترى بعودة العراق الى ازدهاره وسلامه وخيره وأمانه؟! والأهم... هل يعود الى ديمقراطيته الدستورية التي تضمن استقلال قضائه وضمان عدله؟! انه الغد... وكل غد لناظره قريب سيما نحن المخضرمين الذين رأينا العراق أيام عزه ورفعته ورفاهه وأيام بؤسه وظلامه ومآسيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليس الاعتراف سيد الادله دائما
علي النقاش ( 2009 / 6 / 9 - 00:23 )
المنظور القانوني للاعتراف انه سيد الادله. ولكن مالم يرافق الاعتراف قرائن تدعمه لا ياخذ بها حتى لو جاء الاعتراف بدون اكراه اذ قد تلتبس على المتهم ويعترف بافعال جنائيه لم يقم بها فعليه ليس كل اعتراف ياخذ به بانه مسلم وتبنى عليه احكام قضائيه ولكشف الدلاله اساس وركن مهم وضروري للاثبات وما الاحكام التي تصدر من المحاكم الجنائيه والاخذ بالاعتراف نتيجه التعذيب الا جريمه يرتكها القضاء بحق العداله والحق في تطبيق العداله هو الشهود والقرائن والادله وليس اعتراف المتهم وكيف انتزع منه على ان تطبق بحق الشهود معايير الصدقيه وليس معيار المخبر السري المرتزق وما قد ينجم عنه من ظلم يقع على الابرياء بسبب الضغائن اوالفائده الماديه

اخر الافلام

.. فلسطيني يصنع المنظفات يدويا لتلبية احتياجات سكان رفح والنازح


.. ??مراسلة الجزيرة: آلاف الإسرائيليين يتظاهرون أمام وزارة الدف




.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي


.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية




.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق