الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عناصر الضعف الأميركي

صالح سليمان عبدالعظيم

2009 / 6 / 17
مواضيع وابحاث سياسية



إذا كانت أميركا تنطوي على عناصر قوة فإنها تنطوي أيضا على عناصر ضعف تنبع من عناصر القوة ذاتها. فاللافت للنظر أن عناصر القوة هي التي تولد عناصر الضعف بالنسبة لصعود وسقوط الأمم. فمن حيث لا تدري الأمم فإنها تتحرك بسرعة نحو عناصر الهدم الخاصة بها، وعلى رأسها التدخل في شؤون الغير والتوسع في العالم الخارجي.
لا تختلف الولايات المتحدة في هذا السياق عن غيرها من الأمم، ففي القرن العشرين وحده تدخلت أميركا في العديد من مناطق العالم في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ورغم الكوارث الناجمة عن هذا التدخل، فإن الولايات المتحدة لم تحاول أن تتعلم من تجاربها، وأن تقيد تدخلها في شؤون الآخرين والتوسع على حسابهم.
لا يمكن إنكار الفوائد الجمة التي عادت على الولايات المتحدة جراء تدخلها في الدول الأخرى اقتصاديا وسياسيا. لكن الأمر الذي لا شك فيه أن سمعة أميركا تلطخت بشكل كبير منذ حرب فيتنام مرورا بتدخلها غير العادل والمجحف في الشرق الأوسط. فلم تصبح أميركا دولة الحريات المدافعة عن حقوق الإنسان بل أصبحت دولة مُعربدة في كل مكان، تتدخل فيما يعنيها ولا يعنيها من شئون الدول الأخرى. وحتى وصول أوباما للحكم وما ارتبط به من تطلعات وأمنيات كونية مختلفة لم يؤد لتحسين صورة أميركا التي ما زالت تمارس مذابح هائلة في أفغانستان وباكستان على السواء.
ورغم الفوائد التي جنتها أميركا جراء تدخلاتها في شئون الدول الأخرى فإنها قد خسرت أيضا بشريا ومادي حيث تحملت الخزانة الأميركية أموالا طائلة جراء ذلك التدخل العسكري. واللافت للنظر أن أميركا قد حمّلت العالم ديونا هائلة وصلت إلى عشرة تريليونات من الدولارات جراء تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان. لقد تراكمت الديون في وقت تعاني فيه أميركا من ارتفاع مستوى الفقر وتدني مستوى التعليم والخدمات الصحية والطرق والكباري وتخلف الصناعة الأميركية مقارنة بغيرها من صناعات الدول الأخرى المتقدمة والصاعدة على السواء. وما تستند إليه أميركا الآن أكثر من أي وقت مضى في تاريخها هو القوة العسكرية، وهنا مكمن الخطر في الواقع الأميركي المعاصر. فحينما تجنح القوة وتصبح هي وسيلة التفكير والتعاطي الدولي الوحيد تخسر الأمم كثيرا، ويؤذن ذلك بقرب انهيارها.
لم تحاول الولايات المتحدة طوال عهود طويلة أن تغير من سياساتها القائمة على التدخل العسكري بل إنها تمادت في مثل هذا التوجه العسكري، ولم تحاول أن تغير منه أو من آثاره. بل إنها لم تستفد من حجم تأثيرها الثقافي والفني حول العالم وانجذاب البلايين للنموذج الأميركي في الموسيقي والسينما والملبس والطعام حيث كان من الممكن أن تحقق نفوذا هائلا ربما أكثر بكثير من تدخلها العسكري.
كما أن الإنتاج الثقافي والفني الأميركي غلب عليه الطابع الاستهلاكي في العقود الأخيرة الأمر الذي أضعف من حجم تأثيره من ناحية وساعد على ظهور تيارات ثقافية مضادة للإنتاج الأميركي من ناحية أخرى. فرغم بعض الجوانب الجيدة في صناعة الموسيقى والأفلام الأميركية إلا أنها اتسمت بغلبة العنصر الاستهلاكي مما أفقدها العمق والأناقة الأوروبيين. صحيح أننا نستمتع بالأفلام الأميركية لكن علينا أن نسأل أنفسنا كم من هذه الأفلام ينبغي أن نشاهد حتى يمكننا أن نعثر على فيلم إنساني عميق يتخلل مشاعرنا ويؤثر فينا. هنا تقف أميركا مسافة بعيدة نسبيا عن العمق والتلمس الإنسانيين. فبجانب كل فيلم أميركي جيد توجد مئات الأفلام السخيفة التي تنشر العنف وتروج للجنس والعري حول العالم. كما أنه لا يمكن لأحد أن يتجاهل التأثيرات السلبية الهائلة للثقافة الاستهلاكية الأميركية على بلايين البشر عبر عقود طويلة من الزمن، وبشكل خاص في الزى والأطعمة السريعة.
وما تقوم به أميركا من استغلال بشع خارج حدودها يمارسه مواطنوها داخل حدودهم وخارجها أيضا، وهو ما جعل الكثيرون يتحدثون هذه الأيام عن عفن الحياة اليومية الأميركية وافتقادها للقيم التي تربى ونشأ عليها الجيل المؤسس لأميركا. يتضح ذلك من خلال العديد من المظاهر مثل التفكك الأسري، وغياب فكرة الزواج المدني أو الديني، وانتشار الأطفال غير الشرعيين بشكل غير مسبوق، وتردي القيم المسيحية.
من تناقضات الحياة الأميركية اليومية التعارضات الحادة بين التوجهات الأخلاقية والممارسات الاستهلاكية، بين الدعوة مثلا لعدم قيادة السيارات تحت تأثير الكحوليات مع توفيرها بأسعار رخيصة جدا، أو الحديث عن ضرورة الوقاية من الإيدز بتوفير العوازل الطبية لطالبات المراحل التعليمية المبكرة في ظل ظروف وأحوال أقرب للإباحية والمشاعية الجنسية، أو الدعوة للعودة للتماسك الأسرى في ظل نظام اجتماعي يحض على الاستقلالية في أشد تجلياتها تطرفا وأنانية. ومن مفارقات الحياة الأميركية الآن أنها أكثر دولة ممارسة للتبشير المسيحي حول العالم، في ظل تناقص أعداد الأميركيين الذين يرتادون الكنائس أو يهتمون بها أصلا.
لا يمكن الحديث عن هذه القيم بدون تجاهل ما تواجهه التركيبة الإثنية للمجتمع الأميركي، والتي تهدد إن آجلا أو عاجلا نسيج المجتمع ككل. فرغم ما يشاع عن كونها عامل قوة بالنسبة لتركيبة المجتمع فالأمر الملاحظ الآن أنه في ظل الضعف الاقتصادي الراهن وغياب القيم المشكلة لمجتمع المهاجرين تسود قيم الأنانية والاستغلال والفساد وهو ما كشفت عنه أسباب الأزمة المالية الراهنة بشكل لا يحتاج إلى المزيد من التوضيح.
لا يمكن توقع انهيار المجتمع الأميركي من الخارج، ففي ظل القوة العسكرية التي تمتلكها أميركا يصعب على أي كان النيل من مكانة أميركا. لذلك فإن مظاهر الضعف الحقيقية التي يمكن أن تنال من أميركا ترتبط بالأساس بالعوامل الداخلية وتراكماتها غير المسبوقة على نمط الحياة الأميركية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية