الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: غسلا للعار

مختار ملساوي

2009 / 6 / 17
الادب والفن


عاد الأب، على غير عادته، متأخرا، في ذلك المساء، بعد أن تغيب طوال النهار عن الدار. وطلب من أبنائه الثلاثة أن يلتحقوا به في غرفته، ثم التحقت بهم الأم بعد أن أحكمت إغلاق الباب. لم يحصل منذ مدة أن اجتمعت الأسرة بهذه الكيفية. هذه المرة، الخطب جلل والمصيبة عظيمة، لأن الأمر يتعلق بشرف العائلة الذي دنس وسمعتها التي مرغت في التراب على يد البنت الصغرى التي اقترب موعد وضعها، مع كل ما سوف يجر على العائلة كلها وخاصة على رجالها من عار ومذلة أمام الناس، نتيجة لعلاقة سرية أقامتها في الصيف الماضي مع ابن صاحب المنزل .
ساد الاجتماع صمت ثقيل لا يطاق. كان الأب يطلق بين الفينة والفينة زفيرا حادا، ثم يتنهد عميقا بعد أن يضرب يدا بيد. لقد ظلت هذه حاله منذ أن أطلعته زوجته على هذه المصيبة التي حلت بالأسرة. ولم يكن أحد ليتجرأ على التفوه ببنت شفة أمامه، وإلا ناله منه سيل جارف من الشتائم، وقد ينهال عليه بعصاه إذا لم يسارع في الاختفاء من وجهه. لقد ساءت مزاجه حتى تحول البيت إلى جحيم لا يطاق. وأصبح التجهم لا يفارق وجهه. لم يعد يجالس أحدا ولا يكلم أحدا، وقل نومه ومأكله ومشربه، وغارت عيناه واكتسى وجهه بلحية كثة مهملة غلب عليها البياض، واستبدت به نوبات من السعال لا تكاد تفارقه، مع ازدياد إدمانه على استهلاك التبغ، وكثيرا ما كان ينهمك في تحضير لفافة جديدة بينما الأولى لا تزال مشتعلة في فمه.
وأخيرا أصدر حكمه، يجب مواجهة هذا العار قبل فوات الأوان. وتوجهت أنظار الجميع إليه تنتظر ما اهتدى إليه تفكيره الطويل من حيلة للخروج من هذا المأزق. ثم واصل: "هذه الفاجرة يجب أن تدفع ثمن إقدامها على تلطيخ شرفنا أمام الأقارب وأمام القرية كلها". توقعت الأم ما كانت تخشاه وأرادت أن تقول شيئا، ولكنها لم تكد تنبس ببنت شفه حتى نهرها بفظاظة، وتأهب للانقضاض عليها، "اخرسي أنت، يا عجوز الشؤم، لو أحسنت تربية بنتك وحراستها لما أوصلتنا إلى هذه الورطة، الله يلعن اليوم الذي دخلت فيه هذه الدار، كيف تحدث هذه المصيبة في دارك وأنت فيها كالبلهاء كل هذا الوقت، هيا اختفي من قدامي. وامتدت يده إلى عصاه". خرجت الأم من الغرفة وهي تتلوى من وقع الضربة، وخيم الصمت مرة ثانية، كانت تقطعه بين الفينة والفينة نوبات السعال الحاد المنبعث من أحشاء الشيخ، وأخيرا استجمع الابن الأكبر شجاعته واستفسر، "هل التقيت بأخيه في المدينة هذا اليوم؟" ظل الشيخ ساكتا كأنه لم يسمع. فتجرأ الابن مرة ثانية، وواصل، "ماذا قال لك؟ هل اتصل بهم في فرنسا مرة أخرى؟ وماذا كان ردهم؟ وهل توصلت معه إلى حل؟".
كانت هذه العائلة قد سكنت القرية، بعد أن غادرت مسكنها المنعزل في أحد سفوح الجبل المطلة على القرية قبل نحو عامين، مع تدهور الحالة الأمنية، وازدياد الضغوط عليها من جانبين، من الجماعات المسلحة التي كانت تعمل على توريط الشيخ مع أولاده في معمعة الإرهاب، بالإضافة إلى نية أمير الجماعة الإرهابية في مصاهرة هذه العائلة، ثم ما كانوا يسمعونه من اختطافات لبنات الفلاحين المنعزلين، تمت هنا وهناك، ومن التحاق بعض شباب الناحية بتلك الجماعات والتحاق البعض الآخر بصفوف المقاومين الذين زادوا من ضغطهم وتحذيرهم تجاه الفلاحين وبحثهم عن عناصر الجماعات وعن المتعاونين معهم.
اختارت هذه العائلة الفرار والنزوح. فنزلت من الجبل نحو القرية، خاصة بعد أن وجدت سكنا في منزل أحد المهاجرين في فرنسا، احتلت فيه الطابق الأرضي، بينما بقي الطابق العلوي خاصا بعائلة المهاجر التي كانت تقضي فيه الصيف كلما عادت إلى الجزائر.
فقال الأب: "تبين أن هذه العائلة لا تعرف معنى الشرف، ولا تقدر فعلة ابنها حق قدرها، لعلهم يعتقدون أنه علينا أن نفرط في شرفنا لقاء إسكاننا في هذه الظروف التعيسة. آه لو كانوا هنا، أو لو كان لي علم بما جرى قبل أن يعودوا إلى فرنسا لجعلتهم يدفعون، غاليا، ثمن تلطيخ شرف الناس. لكن هذه الفاجرة ظلت ساكتة طوال هذه المدة، حتى فضحها ما في بطنها، وستسكت هذه الليلة إلى الأبد".
فعلق أحد الأبناء: "معنى هذا أنهم لا يريدون أن يعترفوا بخطيئة ابنهم، ويعملوا على إصلاحها". فرد الأب بعنف: "لو كانوا كما تظن لما رأيتني في هذه الحال ولما دعوتكم هذه الليلة للقيام بمهمة لا أستطيع القيام بها بسبب المرض والضعف، وإلا لما كلفتكم بها. عليكم أن تتخلصوا من هذه المجرمة بسرعة، وليس أمامكم حل آخر، إذا أردتم أن تحافظوا على سمعتكم، وأن لا تبقوا أضحوكة يتغامز عليكم الناس أينما ذهبتم، ويسقط قدركم في كل مجمع، إذا أردتم أن تبقوا رجالا بين الرجال، وشرفاء بين الشرفاء، إذا أردتم غسل عاركم ونفض الغبار عن شرفكم الممرغ، إذا أردتم هذا، فخلصوني هذه الليلة من هذه الأفعى، ولا تطلع عليها الشمس إلا وهي مدفونة تحت التراب في إحدى الشعاب".
ثم أومأ وهو فريسة نوبة حادة من السعال وأشار إلى كيس في أحد أركان الغرفة فأحضروه له، فسلمه للابن الأكبر، كان الشيخ قد جمع فيه ما يحتاجونه في مهمتهم؛ خنجر حاد تدخره العائلة منذ عشرات السنين لذبح شاة العيد، ولمختلف المناسبات والولائم، وفأس ومسحاة وحبل. وأمر أولاده، "هيا قوموا، ولا تعودوا إلا بعد التخلص منها ودفنها. لا تنسوا أن تأخذوا كل الاحتياطات الواجبة، وأن تدفنوا كل الأدوات معها. وحذار أن يستبد بكم الخوف، أو تتسرب إلى قلوبكم الرحمة والشفقة عليها".
انطلق الأربعة بعد منتصف الليل، كان الفصل ربيعا ومع ذلك كان الجو باردا، والسماء مغشاة بغيوم سوداء، بينما راح المطر ينزل رذاذا. أحاطت الجماعة بالفتاة من كل جهة واختفوا في الظلمة الحالكة. كانوا قد أوهموها بأنهم في طريقهم نحو عجوز قابلة في قرية مجاورة لإسعافها وإجهاضها. ساروا ساعات دون أن ينبس أحدهم بكلمة. كانت القرية التي تركوها وراءهم تختفي رويدا رويدا في ظلام دامس، عدا بعض الأنوار الباهتة الصادرة عن بعض النوافذ، وكان السكون يخيم على الطبيعة عدا نباح بعض الكلاب التي تناهت إلى مسامعهم قادمة من قريتهم، أو من القرى والمساكن البعيدة المتناثرة هنا وهناك عبر جنبات الوادي.
سلك الجمع دروبا ملتوية غير مطروقة تحاشيا لملاقاة أحدهم، وراحوا يحثون الخطى، بينما كانت الفتاة تتوسطهم وهي تلهث من شدة العياء، ولا تكاد تشاطرهم هذا النوع من المشي الشاق. كانت تعاني من كدمات ورضوض نتيجة ما كانت تتلقاه من ركل ورفس وضرب مبرح كلما استبدت بالشيخ سورات الغضب الجنوني، بالإضافة إلى بطنها المنتخ. ومن حين إلى حين كان أحدهم يدفعها أمامه حتى تنسجم خطواتها مع خطاهم.
كانت قلوبهم تزداد خفقانا وقلقهم يشتد كلما اقتربوا من هدفهم. وأخيرا بلغوا الشعبة التي تفقدها الأب في النهار وعيّنها لهم كأفضل مكان بالنظر إلى بعدها عن القرية وعن الدروب المطروقة من قبل سكان الوادي. فانقسموا إلى فريقين؛ الأخ الأكبر والأوسط انطلقا نحو أسفل الشعبة حاملين الكيس معهم، بينما بقي الأصغر يحرس أخته.
وفي الوادي انهمك الأخوان في حفر حفرة عميقة لأختهم. وكانا من حين إلى آخر يتوقفان لاسترداد الأنفاس، وللتشاور في كيفية إتمام المهمة التي كلفوا بها. هل يذبحان الفتاة قبل إلقائها في الحفرة كما أمر الشيخ، أم يلقيان بها حية ويهيلان عليها التراب؟ كلا الأمرين كان يبعث فيهما مزيدا من الهلع والفزع. ما العمل؟ لقد تأخرا وطال غيابهما، ويجب أن يتفقا على طريقة قبل عودتهما إلى حيث تركا أخاهما وأختها.
أخيرا خطرت ببال الأخ الأكبر حيلة أخرى رآها أهون من ذبح الفتاة ومن دفنها حية. لقد تذكر أنه يعرف بئرا مهجورة وعميقة جدا بالناحية، حينما كان يرعى الغنم في هذه الشعاب قبل عدة سنوات. وفي الحال انطلقا الأخوان نحو مكان البئر ليتأكدا من وجودها وبقائها كما كانت سابقا. وفعلا كانت البئر لا تزال على حالها. هل يوجد بها ماء؟ أراد أحدهما أن يتأكد من ذلك فأخذ حجرا ورمى بها في قاع البئر. وبعد هنيهة تناهى إليهما صوت الحجر وهي ترتطم بالماء.
شعرا الأخوان بشيء من الارتياح والرضا عن هذه الكيفية، فانطلقا عائدين لإحضار أختهما، وهما يتداولان في كيفية رميها في البئر. هل يجب تقييدها قبل إلقائها في البئر؟ وماذا لو لم تمت بسرعة وطلع النهار وانتبه أحد المارة إلى صياحها؟ هل يجب تكميم فمها أم هل يجب ربطها بصخرة ثقيلة لتغرق بسرعة في الماء؟ وصلا إلى حيث تركا الآخرين، قبل أن يتفقا على شيء، وهما يلهثان من شدة التعب.
ثم اندفعوا جميعا نحو الوجهة المحددة. وهم يحثون الخطى. لقد تناهت إلى مسامعهم، في هذه الأثناء، أصوات المؤذنين تتعالى عبر مكبرات الصوت المنصوبة على مآذن مساجد القرى المتناثرة في الوادي، ترافقها صيحات الديكة. يجب أن يسرعوا في تنفيذ مهمتهم والعودة إلى القرية قبل طلوع الشمس، لكي يتفادوا مقابلة أحد المصلين أو أحد المسافرين وما قد يثيره ذلك من شكوك.
ولما بلغت الجماعة البئر، انقض الأخ الأكبر على أخته وألقى بها في البئر، ليسمعوا بعدها صيحة مروعة أعقبها صوت الارتطام بمياه البئر. وفي الحين قفل الثلاثة عائدين من حيث أتوا، وأنين أختهم مازال يتناهي إلى مسامعهم.
مرت أسابيع طويلة على هذه الحادثة. كانت الأسرة تحاول أن تعيش بصورة طبيعية تفاديا لإثارة أي شك. لكن غياب الفتاة كل هذه المدة بدأ شيئا فشيئا يثير فضول الجيران والأقارب. بينما كانت الأم تجيب، وشيء من الحرج والتلعثم ينتابها، بأن بنتها استقرت عند أختها النفساء في المدينة.
بعد أيام طويلة تسامع الناس في الناحية كلها بانتشال جثة امرأة من بئر عميقة وهي في حالة متقدمة من التحلل والتعفن. شعر أفراد الأسرة بتغير معاملة الناس لهم، من خلال شيء من الهمس واللمز راح يتوسع يوما بعد يوم. وفي الصباح الباكر لأحد الأيام، وبينما كانت شاحنة قديمة متوقفة أمام المنزل والأبناء الثلاثة وأبوهم يشحنونها بالأمتعة للعودة إلى الجبل، توقفت سيارتان للدرك الوطني أمامهم، لتنزل منها مجموعة مدججة بالسلاح يدخلون المنزل ثم يخرجون وهم يسوقونهم أمامهم وأيديهم مغلولة وراء ظهورهم، إلى السجن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اطلالة أدبية وانجاز رائع
نادرعلاوي ( 2009 / 6 / 16 - 22:51 )
الأستاذ مختار ملساوي المحترم
انها مأساة تراجيدية ، وأحداث مُرعبة ، وجرائم شنيعة ، تلكَ التي تُرتَكب لِيقوم بها أقرب الناس الى الضحية ، ربما الأخ أو حتى الأب عندما يتحول الى وحش كاسر ( بل أكثر ضراوة من الوحش الكاسر ) ، لِيقتل فلَّذة كبده ، أو ينيط مهمة تنفيذ الجريمة الشنعاء بأبنائه من أجل اعدام اختهم ...فيا للهول ! ليسَ هناك من باعث أو سبب أو مُبرِر ، سوى ان تلكَ الفتاة ، قد كانَ لها عمق انساني ومشاعر دافقة ولم يكن لها ذنب عدا انها تَمَكَنتْ من ترجمة أحاسيسها بشكلٍ طبيعي وسوي ، الاّ ان خطاها كانت خلافآ لِلعرف الأجتماعي وعلى الضد من التعاليم الدينية الخرقاء واملائاتها المُتخلِّفة والجامدة

انَّ محنة مجتمعاتنا وبلواها ، يكمن في سيطرة المفاهيم الدينية الرَّثة العتيقة والبالية ، ولا خلاص ولانجاة لِشعوبنا من هذهِ الآفة الاّ بالتحرر من الكابح الديني والتخلص من استحواذه على عقول الناس وعواطفهم

كلَّ الشكر والممنونية استاذ مختار ، فقد كانت قصة تخبرنا الشئ الكثير عن واقع مؤلم وقاسي ، وعن ظلمٍ وجور وغدر لا انساني

حقآ كانت اشراقة رائعة أُخرى تُضاف الى قائمة أعمالكَ المُبدعة ، ويُسعدني أن أشير الى انني قد أعجبت ُ أيضآ بعد مطالعتي لِلقصة السابقة التي نشرتها ، والتي كانت


2 - مبدع
صلاح يوسف ( 2009 / 6 / 17 - 06:00 )
كل يوم تثبت يا أستاذ مختار بأنك مبدع من طراز خاص. أنت تملأ شواغر نحن بأمس الحاجة إليها.

اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة