الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجع والذاكرة في أدب أسامة ملحم

محمد زكريا السقال

2009 / 6 / 18
الادب والفن



بدأت رحلتي مع اسامة ملحم من خلال قراءتي لنتاج سوف احدثكم عنه تباعاً، سأبدأ مع "سادر" وهي مجموعة شعرية صدرت له في حيفا عام 2004. سادر حالة قلق شعري موجع وحالم، وفق أسامة من خلال القصائد التي سطرها يراعه في ادخالنا إلى عوالمه العميقة الغور التي تبدو هادئة منسابة وأنيقة تجعلك في وضعية حوار معها ومع ذاتك فرغم القلق وتفجره يبقى الهدوء الانساني فيها قائماً ولكن بلا مساومة.
الحوار مع عوالم أسامة ليس نزهة في ربيع الزيب وكفرياسيف وسمخ مع كل ما تمتلكه من سحر وجمال ومدى لعالم متخيل من العطر والرحيق، وليس تزييفا أيضا لصورة الجليل الفلسطيني في ما حباه الله من خاصية الخصب والروعة التي جلبت الآلهة إليه بقدر ما جلبت الأباليس والشياطين. بل هو هذا الصراع بين الحد الدقيق والشفاف، بين الجمال كخاصية وتجل للخير، وبين الجمال كمصدر للبطش والسرقة والتزييف، بين الحق كمطلب يتوج الجمال ويضفي عليه حالة من البهاء وبين الظلم كحالة سواد وظلام مزخرف بالزيف والدجل.
يرسم أسامة في مجموعته ذات الخمسة والثلاثين قصيدة على مساحة مائة وعشرين صفحة من القطع الوسط، ثلاثة محاور تغتلي وتضطرم لتشكل ملحمة في سياق الوجود المهدد، الأرض كمكان للذاكرة والتاريخ والانتاج، والانسان كحامل للذاكرة وأداة للانتاج، والواقع كصراع مع الوافد بكل ما يحمل من قوة وصلف وتقنية. ذاك الوافد قوي يمتلك كل عوامل البطش وكل تقنيات الفتك لكنه لا يمتلك ذاكرة المكان ولا حلم هذه الأرض، والصراع على خلق ذاكرة جديدة وواقع جديد. وهدير قصائد سادر بهذه الحالة ليس حالما كما يتوهم الآخرون، ولا تعتريه حالة ارباك وحيرة كما قد يفهم وقد يعطي المعنى، بل هو إشكالية وعي لفعل الانسان الذي يدرك وهو بكامل قواه العقلية هذه المعضلة المستحيلة للقوة والكلفة الباهظة التي يدفع إليها الوافد ويغامر من أجل وهم وسراب. سراب سينجلي لكنه سيريق الكثير من الدماء وسيكلف الكثير من الضحايا.
قوة أسامة في هدوء يقيني لديه وهي قوة مستمدة من جذور سحيقة وموغلة في هذه الأرض، هو لا يمتلك إلا قضايا بسيطة وصادقة، الحب والمرأة الخصب والشوارع والجيران والدروب. ذاكرة تحيط بهذه الأرض بكل ما عليها مما هو حقيقي ومزيف. الحقيقي هو الانسان إبن الأرض ومجمل الأحلام البسيطة والعفوية التي تختلجه. والمزيف صنيعة الوافد الذي يبهر بألوانه وأضوائه إلا أنه هش وآني و وهمي، محكوم بأن يتهاوى أمام أحلام تنزلق ببساطة وعفوية تملك رسوخاً وواقعية وقابلية الحياة. أيمان عميق بغد يعطي هذه الأحلام مشروعية قبولها للحياة فترسم لمستقبل حقيقي جميل، يكتسب جماله من عدالته.

غدا سيكون غدي لي
سيكون رحبا
لا يضيق
وتكون لي الطريق
كل التواءات السبيل
تتناهى حلوة في ناظري

إيمان مدهش بهذا الغد الذي يرسمه اسامة ويسير بهديه حاملا أحلامه مفسحا لها دروبا رحبة رغم كل الالتواءات والتعاريج التي تصادفه.
الرحلة في أعمال أسامة سلسة إلا أنها تحمل قلقها وتثير عدواها لمرافقها الذي سيكتشف حجم الأغوار والمنزلقات والمطبات التي ستستوقفه وتدخله عالم القلق والإثارة في المتاهات الأنيقة والمتقنة التي يرسمها أسامة ويشكلها ويختار أسمائها ببساطة كأنه يروي حكاية

كان كالحلم وجهك شاحبا
مثل نرجسة خجولة
وقد فرت فراشات الطفولة
عن أفق خديك
وسوسنة الخميلة

حكاية متقنة وخالية من التكلف إلا أنها تحمل سواد المعاش والمعاناة التي تداعب الحلم الذي يقرص وجعا ويحفر على الخدين وحشة ويسرق فرحا فلا يبقى للحلم غير اسمه وغير ارتكاز في مواجهة قادم مجهول ومبهم

تعج المدينة بلوث الحضارة
وتعبق بالسموم المجرمة
عابر سبيل يبادر بالتخلي
عن دور المبادر
هذه الدنيا محط غريب
لطير مهاجر
والفصول مبهمة

هذه الصور والأشكال الرمادية والسوداوية التي تتعاور قصائد أسامة وتحيل المستقبل لشيئ مبهم ملوث بسموم الحضارة المجرمة التي تحاصر الزمن فتلغي حركته الطبيعية، فتتحول الطبيعة لقناص طيور تحط بأرض ما فتأبد مقامها من خلال تأبيد شتائها الطويل المبهم، إلا أن أسامة بقدر ما يفضح بشاعة الواقع يحصن نفسه في نفس الوقت بذاكرة يتمترس بها ويواجه بها هذا التلوث والإجرام.

البريق الأخير في عين ،، المسافر ،،
يستذكر الأشكال كلها
نقية وهي تلتقي ،، بثوبها ،، البليد
،، هي الذاكرة ،،

ذاكرة تختزن كل شيء لتحيله لأمل وحلم. ذاكرة لا تكتب أحداثها من الحلم بل تحاول أن تشحن من كل سواد الواقع و جحيمه تشاريف وتلاويح نصر في البعيد القادم وبهذا يتحول السجن في مجدو إلى أتون يضطرم

مجدو ؟؟
بنادق الجند
والليل المسيج بالقنوط
والتساؤل
مجدو ؟ ؟
أتون يتفاعل
لنصر بعيد

السجن ذاكرة خاصة في شعر أسامة ويعالجه كثيرا، كأنه يريد القول العيش تحت الاحتلال سجن، كان في الأرض التي سلبت أو بين جدران الزنازين ، لكنه يأبى ان يسجن ذاكرة روحه بل يبقيها تحلق في سماء الارض حرة

السجن هو السجن
وحدك تفتش عن صديق
موحش عتم الطريق
جسمك هنا في القيد
لكنك حر طليق

سادر الاسم الذي اختير ليثير أسئلة في مجموعة أديبنا يشكل المدخل الممتاز لقلق أسامة وخوفه على الذاكرة عنصر التفوق الأساسي بمعادلة الصراع المختلة أمام الجبروت وحضارة ملوثة بالسموم، وهذا الجبروت سرعان ما يتهاوى أمام حقيقة التاريخ والصمود. وتبقى الذاكرة تلك القابلة القانونية لولادة التفاعل الطبيعي والحضارة الأساسية بين انسان له في الجذور والأعماق طفولة وحكايا وأهازيج وحب مازالت قادرة على فعل التواصل والعطاء
أنت ذاكرتي ، ضباب ، دخان ؟
الفجر في مدني رمادي
أنت تلحين وذاكرتي تلح
والغزاة الوالجون فوق الجرح ملح

كثيرة هي المحاكاة والتداعيات في شعر أسامة التي تشير للموقع الذي يقف عليه أديبنا وللأسلحة التي يتحصن بها أمام واقع الصراع القائم والمتفجر يوميا، وأسامة وأصدقائه يؤرخون ملاحمه ويحفرون معاناته تاريخا بطوليا لكنه متوج بالانسان. ونحن إذ نطل على قامة شعرية قدمت هذا المشهد المثير بتاريخ شعبنا هناك لا يسعنا إلا أن نشيد بهذا الفتح الشعري وأشكاله الشعرية وانسانيته الراقية والمعبرة عن اصالة فنية،أصالة تعالج واقعا قاس يرزح تحت الاحتلال ويحلم بغد أكثر نظافة وعدالة.
ننوه بأن أسامة كاتب مقالة ممتاز وله زاوية في مجلة الصنارة، هذه الزوايا التي تسلط الضوء على بؤس ومرارة الواقع تعيدك لزوايا الماغوط وزكريا تامر، حيث كان لهذه الزوايا فعل محرض ومطرقة قادرة على التحفيز والتثوير وقد جمع الكاتب الكثير من مقالاته بمجموعة أطلق عليها أسما ملفتا للنظر "نقرازات " نحته ليخدم مضمونها.
لا بد لي في النهاية من تقديم شكري العميق للكاتب أسامة الذي غمرني بالكثير حيث ربطني من عنقي وهو يأخذ بيدي لأطل من خلال أعماله على شعبنا هناك وعلى الأرض والسحر الذي تمتلكه وليحل لي لغز الصمود الغير مسبوق لشعبنا لنكتشف عظمة الانسان.

محمد زكريا السقال
برلين 15/6/2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع