الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في -ثغرها على منديل- تحسين كرمياني يحتفي بالحب

سعد محمد رحيم

2009 / 6 / 20
الادب والفن


أعترف بأني أجد صعوبة في الكتابة عن المجموعات القصصية، لا أجدها مع الرواية. ذلك أن الرواية عالم واسع، متشعب، ومتعدد الأبعاد، يسمح بحرية أوسع في أثناء التعرف على مناخه والتجوال عبر تضاريسه الممتدة، فيما لا تتيح محدودية عالم القصة القصيرة الذي يشبه، من هذا المنظور، بيتاً منيفاً ذا خريطة هندسية متقنة، أو، في أفضل الأحوال، قلعة متداخلة الغرف والممرات، مثل هذه الفرصة. وهنا، مع القصة القصيرة، عليك أن تكون حذراً، ودقيقاً، وحاد الملاحظة أكثر مما تتطلبه الرواية. باختصار فإن قارئ وناقد القصة القصيرة لن يقع على القدر الكبير من زوايا التناول النقدي التي يمكن أن تنطوي عليها الرواية.
أسوق هذه الملاحظة الأولية وأنا بصدد اختبار قراءة في مجموعة تحسين كرمياني القصصية ( ثغرها على منديل/ الصادرة عن دار نعمان للثقافة ـ بيروت 2008 ).
تعتمد أغلب قصص تحسين كرمياني التي اعتاد على نشرها في الصحف والمجلات العراقية على خصيصتين تميزان أسلوبه؛ الأولى فرشة واسعة من المفردات التي تنتظم في جمل طويلة ( وصفية، وأحياناً إنشائية ). والثانية غرائبية الحدث القصصي، في الغالب، التي تحاول أن تستلهم شطحات ماركيز أكثر مما تسعى إلى محاكاة عوالم كافكا. وفي مجموعته آنفة الذكر حيث تكون الثيمة الغالبة هي الحب والهجران، فإن القارئ سينتهي إلى نتيجة مؤداها أن هذه القصص تتحدث عن الخيبة وإخفاق علاقات الحب ( وأيضاً، عن الحرية والموت ). وهذه العلاقات، في معظم القصص، تكون مثل ومضة تقدح لمدة قصيرة ثم تنطفئ، لتتحول إلى عبء من ذكريات ضاغطة. وفي الأحوال كلها، لا نقع على علاقة حب طبيعية تنشأ عن حوار عقلين، واتفاق روحين، وتوافق مزاجين وعاطفتين ( ربما باستثناء قصة: سراب ) بل يكون كل شيء رهيناً بالأهواء والمصادفات. سبع قصص تبدو وكأنها تنويعات مختلفة على موضوعة واحدة وحدث واحد. فثمة رجل ( أو امرأة ) يجتر ذكرى علاقة سريعة عابرة.. الرجل وقد تركت المرأة ( أو بالعكس ) شيئاً ما من روحها في وجدانه، ومضتْ، لا ندري ( ولا الراوي يدري ) إلى أين، ولماذا؟
تحكي قصص كرمياني عن أناس متوحدين، قلقين، يمضّهم شعور بالخسران، مع بصيص أمل خافت هو في النهاية محض وهم. ويتهيأ لي أن ما حصل لهم وجعلهم في وضعهم المتأزم الشائك ذاك لم يكن هو الآخر إلاّ وهماً طالما كانوا يعيشون في محيط خانق.. بلدات صغيرة/ وربما قرى، منغلقة على نفسها تقمع رجالها، وتحجر على نسائها، وتعد علاقات الحب جريمة، وتلاحقها بالفضول والنميمة. وفي مثل هذه البيئة لا يسع المرء إلاّ أن يشطح بخياله ويستقدم إلى دائرة رغباته الحبيسة أجمل النساء ( أو بالعكس بالنسبة للمرأة ). فالعلاقة، هنا، تبقى نوعاً من هلامية رومانسية إن صح التعبير.. تبدأ بنظرة أو ابتسامة أو حركة، من امرأة في معظم الأحيان، تترك أثراً في وجدان وذاكرة الآخر الذي سيقضي بقية عمره في الانتظار، إن لم ينتحر. وفي كل مرة نألف الرجل وسيماً والمرأة باهرة الجمال، كما لو أن الآخرين ( والأخريات ) من غير الوسيمين ومن غير الجميلات لا يحق لهم الحب، ولن يجدوا لهم في دنيا العشق والهيام فرصاً. أو أن الرجل لا يحب إلا إذا كانت المرأة فاتنة، والمرأة لا تحب إلا الرجل البهي الطلعة.. هذه هي المعالجة التقليدية لقصص الحب في التراث الشرقي، وتلك التي استهلكتها الأفلام الميلودرامية، ولاسيما المصرية القديمة. وأعتقد أن البيئة شبه القروية وشبه القبلية التي تجري في فضائها أحداث قصص المجموعة قد انعكست نسبياً على، ( وتخللت )، رؤية كل راوٍ ( في كل قصة من قصص المجموعة ) وموجهاته الإيديولوجية. على الرغم من محاولة الكاتب بث رسالة معاكسة.
في قصة ( ثغرها على منديل ) التي عنون بها كرمياني مجموعته، وهي الأخيرة في تسلسل القصص، ثمة رجل/ شاعر تقتحم امرأة ما عزلته حيث يكتب القصائد بين أجمات الأشجار والقصب، بالقرب من نهر المدينة، فتفاجئه بعد خروجه من هناك لتطبع قبلة على خده تاركة عليه أثراً من شفتيها.. ذلك الأثر الذي سيحتفظ به، من ثم، على منديله. ثم تغادر بعد أن تكون قد أصابت الرجل باللعثمة والارتباك حيث لن يجد لها سبيلاً بعد ذلك.. يبحث عنها في الطرقات والأمكنة المألوفة وكله أمل في العثور عليها. "تحرى عن فتيات متن في غموض، استفسر عن فتيات ألقين أنفسهن في نهر المدينة، دائماً يعود من تجوالاته وكله يقين أنه في يوم ما، واجد إياها". أما تميمته فليس سوى توقيع ثغرها على المنديل. ويبدو أن الأمر سيتحوّل معه إلى ما يشبه موضوعاً ( فتشياً )؛
"يتناول بلا ملل المنديل الجاثم فوق صدره، برفق يطويه وعناية، يشتمّه برغبة ويقبِّله بود".
إنه الرجل الباحث عن الحب، الحالم بامرأة مثالية تهبط من مدار آخر ( الراوي يلمّح إلى هبوطها من كوكب آخر أكثر من مرة ) تمنحه الحب الذي يفتقده، ويُشعره بكيانه ورجولته. والمرأة في هذه الحالة هي التي بادرت وأفقدته توازنه، هو الذكر الشرقي حيث القصة هذه ( وهذا قاسم مشترك بين معظم قصص المجموعة ) توجّه عبر إيديولوجية ذكورية؛ الذكر الذي يعاني من نرجسية مع شعور خفي بالنقص. فالرجل سلبي لا يتحرك إلاّ بعد أن تكون الفتاة قد أقدمت على الفعل. بعد أن تكون قد ترصدته ووقفت بدربه وسحرته بابتسامتها وطبعت قبلتها على خدّه، ثم رحلت من غير أن نجد تفسيراً مقنعاً لسلوكها سوى أن الأمر لا يعدو كونه سراباً لاهثاً في أفق ذهن رجل يرغب في أن تحبه فتاة، ولا يمتلك وسيلة للوصول إلى أية فتاة في بيئة تفصل النساء عن الرجال بطريقة قاسية، ولا توفر شروط نماء علاقات طبيعية بينهما.
في قصة ( الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات ) نكون مع امرأة حائرة، ومخذولة، أو هكذا تعتقد، يمطرها أحدهم بأوراقه ويظل مختفياً.. تذكِّرنا ملاحقة الأوراق للمرأة حتى في أثناء تشييع جنازتها بفراشات ماركيز التي تصاحب دوماً، وأينما ذهب، إحدى شخصيات رواية ( مائة عام من العزلة ) مع فارق في درجة الإقناع والصدق الفني. المرأة في وضع متأزم، تحاصرها الأوراق ( الرسائل ) التي يكتبها لها أحدهم.. هي في مشفى ما، بسبب اضطراباتها النفسية، معها ممرضة، وثمة صورة شخص ما على الجدار "وجه صبوح، عينان ناطقتان، وثغر منفرج يمطر بلا انقطاع وابل أوراق". ثم نعرف أن من كان يكتب لها هو طبيبها الخاص الوسيم والخجول، ولمدة عشرين عاماً "رسائل إعجاب ورغبة في أن يكون لها وتكون له، قبل أن يقتله اليأس". ولن نفهم علّة تردد الطبيب في مكاشفة المرأة بحبها. هل يكبح الخجل مشاعر مضطرمة لعشرين عاماً؟! ثم كيف لم تكتشف المرأة هذا الشاب وهو معها، طبيبها، هذه المدة الطويلة كلها؟. إن رغبة الكاتب في الإبقاء على الجو الغرائبي لقصته، لا تمنحه حق التضحية بجانب من الصدق الفني لها.
يستهل كرمياني قصته ( في حدثين منفصلين ) بسيرة مختزلة لفتاة "قُتل أبوها في الحرب وهي في الثانية من العمر. تزوجت أمها من عسكري وهي في الخامسة من العمر. قُتل زوج الأم في الحرب وهي في السابعة من العمر، تزوجت أمها من شاب طمع في أموال الشهيدين وهي في التاسعة من العمر.. الخ" بهذه الجمل الخبرية السريعة والواضحة يضعنا القاص أمام حشد من المعلومات التي ستكون خلفية لحدثه القصصي ليتباطأ، بعدئذ، ومباشرة، إيقاع السرد، ويكون رتيباً أحياناً مع الجمل الوصفية والإنشائية. "ظلت مثلما مرّت لياليها، واجمة، كل حلم منفلت يرفض الولوج إلى روحها، تقلِّب أوراق السماء، تريد من يوقف نزيف الروح ويخمد طوفان الهوس المتنامي فيها..". ويلجأ القاص إلى تكنيك القطع حيث يتفتت السرد في مقاطع يحاول القاص جعلها تتواشج في الخفاء لتكتمل بها ومعها كلية القصة ( يفعل الشيء ذاته في قصة "أنا كاتب تلك القصة" ). إنها قصة امرأة تًصاب بالخيبة حين يعود حبيبها من بلاد الغربة مع امرأة تزوجها هناك.. يتداخل الواقع مع المتخيل والموهوم، وتتلاحق صور متعارضة عن الخيانة والوعود الكاذبة والموت.
استخدم القاص مقولات لكتّاب عالميين استهل بها قصصه السبع. وفي الحقيقة لم أجد مسوّغاً مقنعاً لمعظمها. أو أية صلة وثيقة بين مضامين تلكم المقولات وبين الرؤى المتضمنة في نسيج القصص.
هذه الملاحظات العابرة لا تقلل قطعاً من أهمية مجموعة ( ثغرها على منديل ) لتحسين كرمياني الذي يحتفي فيها بالحب، بلغة لا تخلو من شاعرية، متدفقة في أغلب الأحيان. تسعى إلى الإمساك بالمشاعر الموّارة لأولئك العشاق الذين يخوضون تجربة التولّه بالآخر. يختبرون لبرهة من الزمن أجمل الأحاسيس لكنهم، في النهاية، يذوقون مرارة الخذلان والألم، لأن العالم الذي يحيون فيه يسلبهم حق التواصل الإنساني، والحرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال