الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشروع نقد للخطاب السياسي -الحداثي- في المغرب

يوسف الفتوحي

2009 / 6 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


تزخر خطابات النخبة السياسية، غير "التقليدانية"2، في المغرب بشعارات رنانة قوامها المفاهيم التالية: الانتقال الديمقراطي، الليبرالية، دولة الحق والقانون، المجتمع المدني، وباختصار الحداثة3.. إلا أن استعمال هذه المفاهيم يتم وكأنها تحمل دلالة بديهية قبلية وكونية مطلقة. بيد أننا إذا أخضعنا تلك الخطابات لقراءة متفحصة، نقف على قدر كبير من اللبس و الخلط يكتنف ذلك الاستعمال، خاصة في غياب استحضار السياق التاريخي الذي تبلورت في إطاره هذه المفاهيم أول مرة، ومقارنته بسياق الواقع الراهن للمجتمع المغربي عبر قراءة تشخيصية لهذا الواقع، وكأن الأمر يتعلق بمفعول سحري للغة من شأنه أن يدب في الواقع السياسي بمجرد إدخال تلك المفاهيم إلى بنية الخطاب السياسي. لكن هيهات!
في محاولة تأصيلنا لهذه المفاهيم، سنحاول انتهاج المنهج الذي نقول بغيابه عند حاملي الخطاب السياسي "التحديثي"، ونقصد المنهج التاريخي الذي يستنطق دلالات المفهوم في ضوء المتن الأصلي الذي حواه، ويستنطق محتوى المتن في ضوء السياق التاريخي الذي أنتج فيه. ونحن لا نتبنى هنا حتمية ميكانيكية تزعم أن الفكر نتاج مباشر للواقع و لا العكس، وإنما نتبنى منظورا جدليا ينظر إلى علاقة الفكر بالواقع من زاوية تفاعلهما وتأثيرهما المتبادل، رغم الإقرار بأسبقية الثاني على الأول وتحديده له "في نهاية المطاف"(حسب تعبير فريدريك إنجلز).
تتمثل الفرضية التي توجه هذا البحث، في أن الجهاز النظري لمفهوم الحداثة ومكوناته الدلالية الأخرى، ما هو إلا العصارة النظرية والوجه الفلسفي لصيرورة تاريخية شاملة، قوامها التحولات النوعية التي عرفتها أوربا، على مدى قرون، من حركة الإصلاح الديني إلى الثورة الصناعية مرورا بعصر النهضة والأنوار الذي توجته الثورة الفرنسية كمحطة انتقال طفري في التاريخ السياسي الأوربي، في مستويات الاقتصاد والسياسة والشأن الروحي والعلاقات الاجتماعية...
غير أن المجال هنا لا يسمح لنا بدراسة مجمل الأدبيات الفلسفية السياسية التي أنتجت خلال القرنين 17 و 18، والتي تشكل المرجعية النظرية للمفاهيم المكونة لل"مشروع التحديثي". لذلك سنركز على واحد من أبرز الأسماء المؤسسة، وهو الفيلسوف والسياسي الإنجليزي جون لوك( John Locke 1632-1704)، وخاصة من خلال كتابه "مقالتان في الحكم المدني". كما لن نشمل جميع تلك المفاهيم بالدراسة، وإنما سنركز على مفهوم الحق4. الذي يضعه أصحاب "المشروع السياسي التحديثي" كصفة مميزة للدولة التي يراد بناؤها: "دولة الحق". خاصة أن المقصود ب"الحكم المدني" لدى جون لوك، السلطة السياسية القائمة على "تعاقد حر" بين الناس اللذين ارتأوا تحكيم "سنة العقل"، بهدف تجاوز آفات "حالة الطبيعة"5 ، وحماية حقوقهم الطبيعية، المتمثلة في "الحياة والحرية والأملاك"، من خلال قوانين مدنية.
يعرف أندري لالاند6 الحق في معجمه الفلسفي كالتالي:" ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ما هو مشروع و قانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي".
فالحق إذن، حسب هذا التعريف، قيمة معيارية يتحدد بالنظر إليها ما ينبغي أن تكون عليه الأفعال البشرية والممارسات والعلاقات الاجتماعية والأنظمة السياسية، في مقابل الواقع الفعلي لهذه الممارسات والعلاقات والأنظمة، هذا الواقع الذي لا يتطابق بالضرورة مع مقتضيات تلك القيمة.
غير أن هذا التمييز بين المستوى المعياري المثالي والمستوى الفعلي الواقعي، يجعلنا نميز بين معنيين للحق:
- الحق الطبيعي: ويعني المبادئ والمثل العادلة المعطاة طبيعيا، والمفطورة في العقل البشري، وهي تشكل إلزاما وواجبا أخلاقيا، ومعيارا كونيا ينبغي أن يتطابق معه كل قانون وضعي وكل ممارسة فعلية، وهذا التطابق متوقف على الإرادة الذاتية الحرة للإنسان.
- الحق الوضعي: وهو مجموع القواعد والقوانين المشرعة من طرف سلطة ذات سيادة(الدولة)، في إطار سياق اجتماعي- تاريخي معين، من أجل تنظيم الحياة الاجتماعية. فالحق هنا مرادف للقانون.
وجون لوك يتحدث عن الحق بمعنييه الطبيعي والوضعي، غير أنه يجعل من الأول أساسا ومرجعية للثاني، بالإضافة إلى الأساس التعاقدي7. وقد شكلت دلالة مفهوم الحق عند جون لوك كما عند مجمل فلاسفة التعاقد الاجتماعي( سبينوزا، روسو...)، خلفية نظرية للشرعة الدولية المعاصرة ولخطاب ومنظومة حقوق الإنسان التي اتخذت طابعا كونيا ما دامت تدعي قيامها على أساس طبيعي فطري، وعلى مسلمة وجودها على نحو قبلي في العقل البشري، وقبل ذلك تجسد مفهوم الحق هذا في الإعلانات والدساتير التي تلت الثورة الفرنسية8.
إلا أن الدارس هنا لا يمكن أن يتجاوز النقد الماركسي لمفهوم الحق، كما بلوره فلاسفة التعاقد الاجتماعي، وكما تم إقراره في إعلان حقوق الإنسان والمواطن والدساتير الثورية التالية له، من وجهة نظر مادية تاريخية. يقول ماركس9:>. وإذا أتينا إلى الحقين المتبقيين، أي المساواة والأمن، فإن >. وهنا لا يكون حق المساواة إلا الوجه الآخر لحق الحرية كما هو معرف سالفا. << أما عن الحق في الأمن فيقول دستور1793 –البند 8:" يكمن الأمن في الحماية التي يوفرها المجتمع لكل فرد من أعضائه وذلك للمحافظة على شخصه، وحقوقه وممتلكاته"(...) والأمن هو المفهوم الاجتماعي الأكثر سموا للمجتمع البورجوازي، إنه مفهوم البوليس: لا يوجد المجتمع برمته إلا من أجل أن يضمن لكل فرد من أفراده المحافظة على شخصه، وحقوقه وممتلكاته>> وهنا يستنتج ماركس أن << مفهوم الأمن لا يكفي لكي يتجاوز المجتمع البورجوازي أنانيته، إن الأمن هو بالأحرى تأمين لهذه الأنانية>>.
ونستنتج معه نحن، أن نسق الحقوق الذي تأسس نظريا في خطاب فلاسفة التعاقد الاجتماعي(أهمهم جون لوك)، والذي تجسد عمليا في الدساتير الديمقراطية والشرعة الدولية، يتمركز بشكل أساسي حول حق الملكية الخاصة.
ومهما يكن من وجاهة هذا النقد الماركسي، لنظرية حقوق الإنسان، من حيث خلفيتها الأيديولوجية البورجوازية، وكون الدفاع عن الحق "المقدس" في التملك الفردي يشكل عقدة الشبكة المفاهيمية لهذه النظرية. إلا أننا لا يمكن أن نذهب مع الاستنتاج المتسرع والأخرق الذي يختزل هذه النظرية في مجرد مناورة أيديولوجية حبكها المثقفون البورجوازيون(كما كان بعض المثقفين الستالينيين العرب يذهبون إلى ذلك). بقدر ما نكتفي بالتأكيد على الشروط الاجتماعية والتاريخية التي نشأت فيها هذه النظرية. إذ لا ينبغي أن ننسى الدور التقدمي الذي لعبته البورجوازية الصاعدة ومثقفيها في التاريخ الغربي، فهي التي "جابهت الثيوقراطية بالعلمانية، والحقوق الإلهية بالعقد الاجتماعي، والامتيازات الأرستقراطية بالحقوق الطبيعية، وتراتبية الحسب والنسب واللقب بالمساواة الحقوقية بين البشر، والاستبداد الغربي بالليبرالي، والتبعية الإقطاعية بالحرية الفردية".10

أما الآن فقد آن الأوان للعودة إلى جون لوك، لنستنطق نصه، ونرى إن كان فيه ما يبرر فرضيتنا.

لقد كانت فلسفة جون لوك، متشبعة بالقيم النفعية الإجرائية التجريبية التي ميزت التفكير الأنجلوسكسوني الحديث. بيد أن هذه القيم لم تكن نتاجا صرفا للعقل- سواء أكان هذا العقل فرديا أم "كليا" بالمعنى الهيجلي- بل إنها قيم تاريخية حملتها قوة اجتماعية صاعدة، هي وليدة المجتمع الاقطاعي ونفيه(نقصد البورجوازية التجارية). وبذلك يكون لوك- شيمة فلاسفة عصر النهضة والأنوار- "مثقفا عضويا" (بالمعنى الغرامشي للكلمة) لهذه القوة الاجتماعية، يعمل على مستوى النظرية، على الانتصار لقضاياها. ولكنه ينتصر، في نفس الوقت، لمنطق تقدمي محايث لصيرورة التاريخ.
بيد أننا لن نتقدم كثيرا قبل أن نعثر على ما يعطي لكلامنا المصداقية، في نصوص لوك نفسه:
إن القضية المركزية التي دافع عنها لوك ، خاصة في المقالة الثانية من كتابه، هي قضية حق الفرد في الحرية والملكية الفردية. فكيف تناول لوك هذه القضية؟ وما هي المسوغات النظرية التي أسس عليها دفاعه عن الملكية الفردية، كنمط جديد من التنظيم الاجتماعي لعملية الإنتاج؟ وما هي دلالة هذا الدفاع بالنسبة للمشروع الاجتماعي للطبقة التجارية الواعدة آنذاك؟

إن كلا من هوبز ولوك يؤسسان حقوق الإنسان – بما فيها حق الملكية، أو على الأخص حق الملكية- على أعمق الغرائز أولية. فالأول يؤسس حق الملكية على جبرية ميكانيكية، تنطلق من "ضرورة حفظ الحركة"، وهي الحاجة الأساسية التي توجد في أصل سلوك الإنسان بل وحضارته. هذه الحاجة تعبر عن نفسها عبر" الرغبة"، ومن ثم"إرادة التملك لإشباع تلك الرغبة". وينطلق لوك بدوره من ضرورة "حفظ الحياة"، أو الحفاظ على النوع البشري وهو أساس "سنة الطبيعة" وقوانين "المجتمع المدني". ثم يمر إلى الحلقة الثانية من تسويغه الطبيعي للملكية، والمتمثلة في"العمل"، من حيث هو إنفاق للجهد في تحويل الطبيعة من حالتها الخام.
لقد أصبح حق الملكية، "حقا طبيعيا سابقا على وجود المجتمع، إذ العلاقة بين الفرد والملكية، غدت علاقة "طبيعية" طالما أن العمل الذي يوجد في أصلها، حاضر في"حالة الطبيعة"، إنه تأسيس لمصدر جديد لمشروعية الملكية الخاصة: "العمل"، عبر الاستدلال التالي:
إذا كانت << الأرض وكل ما عليها من المخلوقات الدنيا ملك مشترك بين البشر>>، وإذا كان<< لكل امرئ حق امتلاك شخصه(...) حق لا ينازعه فيه منازع>>، و<<ما كان نتاج كدحه وعمل يديه يمكن إسنادهما إليه وحده، وكل ما ينتزعه من الحال التي أوجدته الطبيعة، وتركته عليه، فقد اختلط به جهده وانضاف إليه شيء من ذاته>>، << فهو إذن ملك له>> (فصل "في الملكية")
إن في هذا الاستدلال ضرب لشرعية ملكية الإقطاعي الخامل، الذي كان ينتظر ما أنتجه الأقنان المسخرون في حماه، أو ينتظر إتاواة الفلاحين الصغار الداخلين في منطقة سيادته. بل هو ضرب لنظام الملكية العقارية الذي كان سائدا في العصور الوسطى، إذ لا الإقطاعي يملك الأرض ملكية نهائية، ولا القن يملك حتى نفسه.11
ومن ثم فهذا التحديد الجديد لمشروعية الملكية الخاصة، هو نضال ، على الجبهة الأيديولوجية، ضد مصالح الإقطاع، ومن أجل تصفية نهائية للبنية العقارية الفيودالية، التي بدأت تتأزم منذ القرن 14، وتوزيع الأرض، وهي واحدة من المهام التاريخية الكبرى الملقاة على عاتق البورجوازية الصاعدة، حتى تكمل تأسيسها لنمط جديد من الإنتاج، يستطيع الرأسمال في إطاره أن يتحكم في مجمل السيرورة الإنتاجية، من الأرض حتى السوق.
لقد اندفع لوك في عملية تبرير لحق لا محدود في التملك، تبرير عبر مراحل: أولا، "حق طبيعي" يرتكز على العمل، ثم ثانيا، إمكانية تحويل نتاج ذلك العمل إلى "نقد غير قابل للتلف".
- المرحلة الأولى: في تتبعه لأصل الملكية يقول :"هل يكون له(أي الإنسان البدائي) حق بذلك البلوط وذلك التفاح الذي استولى عليهما على الوجه السابق وهو لم يحرز موافقة البشرية جمعاء على ذلك؟ فهل كان استئثاره بما كان ملكا شائعا بين الجميع ضربا من السرقة؟>>: وبالطبع فهو يجيب بالإيجاب على التساؤل الأول، وبالسلب على الثاني، على عكس روسو الذي يعتبر أن الملكية الفردية، ابتدأت "بوضع اليد" من قبل "واضع اليد الأول"، أي بالسرقة.( كتاب أصل اللامساواة بين الناس)
يقول لوك:" إن الله قد رزقنا كل شيء بوفرة(...) فهل يؤيد الوحي صوت العقل؟ ولكن إلى أي حد أسبغه الله علينا لنستمتع به؟". الجواب:"بمقدار ما يتسنى لكل امرئ أن ينتفع به في أي غرض من أغراض الحياة قبل أن يفسد، حق له أن يتملكه بكده وجده". ويضيف:"فالله لم يخلق شيئا كي يفسده الإنسان ويتلفه"(ف30) و"لما لم يعد مدار الملكية الرئيسي اليوم، ثمار الأرض أو الوحوش اللذان يقتات بهما، بل الأرض بعينها، إذ هي تشتمل على كل شيء آخر وتحتويه...لعمري أنه من الواضح أن امتلاك الأرض يكسب أيضا على الوجه نفسه، فكل ما استطاع المرء أن يفلحه ويزرعه ويصلحه ويحصده وينتفع بثماره فهو ملك له: فإنه بعمله يستثمر من الأرض المشاع ما يستطيع استثماره(...) فكل من أطاع أمر الله هذا واستولى على قسم منها وحرثه وزرعه، يكون قد أضاف إليه شيئا هو من ملكه الخاص..." (ف31). ويضيف في موضع آخر:"فمن الجهل أن نفترض أنه(أي الله) شاء أن تبقى أبدا مشاعة ومهملة". ونقرأ في "رسالة في التسامح12":<<....الفراغ وما أشبه ذلك من النقائص هي خطيئة>>.
إن مثل هذا الكلام، من فيلسوف القرن السابع عشر- مثقف الطبقة الوسطى وبروتستاني الملة- ، يعطي لماكس فيبر بعض الحق في القول بأن: "الروح" الرئيس، أو السياق الثقافي-القيمي، الذي شكل دافعة لنشوء الرأسمالية، هو البعد الأخلاقي للعمل واعتباره عبادة.
فإنسان لوك، مقدم هنا على أنه فاعل في الطبيعة Homo faber ، بل عليه أن يكون فاعلا فيها ومحولا لها بأمر إلهي، إنه تعبير عن الصيرورة الاقتصادية التي كانت جارية آنذاك والمتمثلة في الانتقال من الاقتصاد الطبيعي إلى اقتصاد السوق الرأسمالية.
بل إن لوك لا يتردد في إعطاء مبررات"واقعية" لقاعدته في التملك تلك(أي لكل فرد حق امتلاك ما يستطيع استثماره)، ويمكننا عرض نماذج من هذه المبررات:"يوجد مقدار كاف من الأرض لانتفاع كل الناس(...) لأن من يدع مقدار ما يستطيع قرينه أن ينتفع به، يكون بمثابة من لم يأخذ شيئا"(ف32)، و "هذا المقدار نفسه لازال موفرا دون إجحاف بأحد، لأن العالم يبدو مليئا بالخيرات بعد(...) في أمريكا(...)"(ف36). مع أن حدود هذا التبرير الواقعي جلية، مادام يرتكز على واقع تاريخي مؤقت، هو واقع القارة الأمريكية خلال عصر الاكتشافات الجغرافية. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن حديث لوك عن الأراضي الأمريكية باعتبارها أرضا مشاعا يخفي وراءه حقيقة تاريخية كبيرة هي نهب الأوروبيين لخيرات وثقافات الشعوب الأصلية التي كانت تعيش على تلك الأراضي، وهذا ما شكل إحدى الدعامات الكبرى للتراكم الأولي للرأسمال الأوروبي، وإندحار النظام الاقطاعي.
المرحلة الثانية: فإذا كانت معادلة لوك الأولى، تضع العمل في أساس الملكية الفردية، فإنه في هذه المرحلة الثانية، يمر إلى تأسيس"لحق لامحدود في التملك"13، وفق معادلة أخرى تفصح عنها العبارة التالية:<< وكما اختلفت مراتب الثروة باختلاف مراتب الجد، كذلك كان اختراع العملة وسيلة لاستيفاءها والزيادة عليها>>. فجعل النقود ذات قيمة في ذاتها، أي التحول من "قيمة الأشياء الأصلية" أو بلغة الاقتصاد السياسي اللاحق:"القيمة الاستعمالية" التي << كانت تتوقف على إفادة الإنسان منها فقط>> إلى "القيمة التبادلية" ، إذ << أصبحوا يصطلحون على أن قطعة صغيرة من المعدن الأصفر الذي لا يصيبه التلف أو الصدأ تعادل قيمتها قطعة كبيرة من اللحم أو كومة من الحبوب بكاملها>>. هذا ما أدى<<إلى اتساع الأملاك>> و<<إقرار حق المالكين الكبار>>. رغم أن لوك يعتبر أحيانا هذا التحول نتيجة <<طمع البعض في الاستيلاء على ما يفيض عن حاجتهم>>(ف37). مما يذكرنا بموقف أرسطو من << النقد الذي يولد النقد>> أو الاقتصاد النقدي(كتاب السياسات) . لكن لوك يعتبر، في أغلب الأحيان، أن ظهور النقد كان نتيجة مواضعة واتفاق البشر، لا "نتاجا لتطور التبادل من التبادل البسيط الذي يقوم على المقايضة المباشرة بين المنتوجات إلى التبادل المعمم échange généralisé أو التجارة... وبالتالي الحاجة التلقائية إلى مقابل عام équivalent general "14كما هو الواقع التاريخي الفعلي. بل إن ظهور النقد عند لوك سابق على ما يبدو، على عملية التبادل، بحيث يقول:<< وحيث يوجد شيء له فائدة المال وقيمته بين جيرانه، لا يلبث أن يسارع المرء نفسه إلى زيادة ممتلكاته>>(ف49) . ويعتبر لوك أن حق المالكين الكبار <<كان نتيجة اتفاق أيضا>>(ف36) ومواضعة، وليس نتيجة لتبدل موازين القوى الاجتماعية، التي خلقت"تقسيما اجتماعيا للعمل" بين "وظيفة المراكمة(مراكمة النتاج الاجتماعي الفائض)"، ووظيفة الإنتاج"، كما أظهر لنا الاقتصاد السياسي فيما بعد15.
نخلص إذن، إلى أن الحق في التملك الفردي أساسه التواضع ومداه اللانهاية، ومشروعيته قائمة على الأساس التالي: <<من قايض مقدارا من الجوز، بقطعة من المعدن، أعجب بلونها، أو أغنامه بصدف، أو صوفه بحصاة لامعة أو ماسة، ثم احتفظ بتلك الأشياء مدى حياته فهو لم يتعدى على حقوق الآخرين، فبوسعه أن يكدس ما شاء من هذا المتاع الباقي، لأن تجاوز حقه المشروع في التملك لا يتوقف على وفرة مقتنياته بل على تلف قسم منها، يذهب عندها سدى>>(ف46).
لقد أصبحت الثروة إذن، أي تراكم الرأسمال هدفا في حد ذاته، ويقول لوك في هذا الشأن:<<لعمري فما قيمة عشرة آلاف أو ماية ألف فدان من الأرض الفاخرة المزروعة، الحافلة بالمواشي، الواقعة بأواسط أمريكا حيث لا يتسنى لصاحبها أن يتجر مع سائر أقطار العالم ويحصل على المال عن طريق بيع محصولها؟>>(ف47). إننا نلاحظ سيرا حثيث الخطى هنا صوب مفهوم آدام سميث "الإنسان الاقتصادي" Homo economicus ( كتاب ثروة الأمم).
وبذلك يمكننا الخلوص إلى أن جون لوك أقام منظومة الحقوق المتمركزة حول الحق في الملكية الخاصة، وفي استثمارها على أساس مزدوج: طبيعي يمنحه صفتي الثبات والكونية ، وتعاقدي يمنحه الشرعية المدنية.

ورغم أن القيمة المعرفية للمقاربة اللوكية، تتراوح بين الاعتماد على المسلمات الساذجة أحيانا، والقدرة على بلورة إرهاصات النتائج العلمية اللاحقة له بقرون أحيانا أخرى، فمن الإنصاف أن نقول أن لوك لم يكن هدفه دراسة تاريخية لنشوء الملكية الفردية وتطورها، إذ كان هاجسه الأول ، إعطاء تبريرات نظرية "مقنعة" لسيرورات التراكم الرأسمالي الصاعد آنذاك. وهذا ما يفسر حضور مقولة "التواضع والاتفاق" بشكل مكثف على امتداد فصل "في الملكية"، يقول لوك: <<ولكن لما لم يعد يتسع المكان الواحد لمواشيهم، ولم يعد بوسعها أن ترعى معا، اتفقوا على الافتراق، فانتجع كل منهم مراع أرحب حيث شاء>>، و<< وهكذا وطدت دعائم الملكية التي استحدثها العمل أو الكد، بالتعاقد والاتفاق>>(ف45).
إن الملكية اعتلت سدة القضية المركزية في مقالتي"في الحكم المدني" إذ الحفاظ عليها هو << الغاية الأولى(...) لاندماج الناس في المجتمع>> - في نظره- بل هي معيار الانتماء إلى المجتمع المدني: << هذا الفريق من الناس(أي الرقيق) إنما هدروا حياتهم وحرياتهم وخسروا أملاكهم ولم يعد لهم حق التملك قط، ما داموا على حال العبودية، فاستحال اعتبارهم جزءا من المجتمع المدني، الذي يهدف قبل كل شيء، إلى المحافظة على الملكية. يقول "لاسكي" بأن لوك" أقام دولة أساس المواطنة فيها الملكية الخاصة".

كما تتجلى لنا أهمية الثروة بوضوح ، في كون لوك لم يكتفي- في تحديده لأهم الصلاحيات الطبيعية التي يعمل الفرد على تفويتها إلى الدولة- بحق التأديب ومعاقبة المذنب ، بل أكد أيضا على حق التعويض:<< قد يتفق للحاكم أن (....) إلا أنه لا يستطيع أن يسقط حق التعويض.>> إذ كان يكفي، في مجتمع القرون الوسطى، بالنسبة للأسياد الإقطاعيين الانتقام من العدو ففي ذلك رد للشرف. كما جعل من مصالح البورجوازية"مصلحة عامة" توازي بل تماهي<<ضرورة استمرار النوع البشري>>، وبذلك كان يؤسس لخلق إجماع شعبي على هذه المصالح:<< وعندها يحق لأي كان، إذا حسن عنده الحق بالانضمام إلى المعتدى عليه>>.
بل إن الملكية هي في منزلة"الحياة والحرية" بحيث إن مفهوم الملكية، كما يرد في أغلب الأحيان- في المقالتين وفي الرسالة في التسامح- يشملها جميعا: الحياة، الحرية، الملكية).

من كل هذا نستنتج أن الحداثة ليست جهازا مفاهيميا يكفي بذره في الخطاب النظري والسياسي، من أجل استنبات مجتمع حديث، وإنما هي صيرورة تاريخية تراكمية ، التأمت فيها وتفاعلت تركيبة من الشروط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية لتسفر في النهاية عن نقلة نوعية في نمط الإنتاج والتنظيم الاجتماعي والتفكير. ويمكننا أن نخلص من هذه الدراسة إلى وجوب توفر شرطين لازمين على الأقل، لكي تنطلق هذه الصيرورة: مثقفين عضويين(لهم ارتباط والتزام طبقي) مثل جون لوك، وقبل ذلك وجود طبقة اجتماعية صاعدة، تحمل مشروعا اجتماعيا بديلا و طاقة سياسية ثورية.
فهل انطلقت هذه الصيرورة يوما في المجتمعات العربية (ضمنها المغرب) ؟ وهل بإمكانها أن تنطلق؟ هل توجد مثيل للطبقة البورجوازية الثورية في تشكيلتنا الاجتماعية-الاقتصادية؟ بل هل مازالت مهمة التغيير الحداثي مرتبطة بنفس الطبقة التي ارتبط بها في الغرب، خاصة في هذه المرحلة المعولمة من اشتغال النظام الرأسمالي، وفي ظل تبعية البورجوازية المحلية للرأسمال العالمي، في إطار تقسيم لامتكافئ للعمل؟ والمثقفون والقوى السياسية التي تريد حفز هذه الصيرورة هل هم واعون بشروطها التاريخية اللازمة؟
كان هدفنا الأساسي في هذه المقالة، كما يمكن للقارئ أن يلاحظ، هو التأسيس نظريا وتاريخيا لمشروعية نقد تهافت أغلب مكونات المشهد السياسي، غير الإسلاموية (بل حتى بعض المكونات الإسلاموية أحيان شأن "حزب العدالة والتنمية")، على شعارات "الحداثة" و"التحديث". وحتى لا يساء فهمنا، فنحن نقر بضرورة إنجاز مهام التحديث الحقيقي في مجتمعنا، والقطع مع البنيات التقليدية. إلا أن نقطة البداية في هذا المشروع التاريخي هي النقد.

* الإحالات المرجعية:
- نستعمل مفهوم "النقد" هنا، ليس بمعنى النفي والهدم، وإنما النقد بالمعنى الكانطي، أي التساؤل عن الحدود الواقعية والإجرائية للخطاب السياسي "الحداثي"، وشروط إمكان تحققه في الواقع العيني للمجتمعات العربية.
2- التقليدانية traditionnaliste تمييزا لها عن التقليدية . فالأولى هي نزعة فكرية وسياسية تعتبر الماضي نموذجا للمستقبل، أما الثانية فهي النخبة الفكرية والسياسية ذات التكوين والقيم التقليدية.
3- الحداثة modernité : مفهوم يشير باختصار شديد إلى حركة التاريخ الأوروبي ونتاجاتها منذ عصر النهضة والإصلاح الديني اللوثري حتى اليوم، ومحركه الأول صعود نمط الإنتاج الرأسمالي وتوسعه(صادق جلال العظم، ص 227)، تمييزا لها عن التحديث modernisation : و هي الصيرور المحفزة إراديا من قبل فاعلين سياسيين، مستلهمين في ذلك صيرورة الحداثة التاريخية الغربية، ومستهدفين الانتقال بمجتمعاتهم من البنى التقليدية إلى البنى الحديثة. لذلك نوثر استعمال المفهوم الأول عند الحديث عن الحداثة الغربية والمفهوم الثاني عند الحديث عن مشروع التحديث عند السياسيين العرب.
4 - وهذا على الرغم من الأهمية الجوهرية لمفاهبم أخرى مثل مركزية العقل مقابل الغيب والمجتمع المدني مقابل المجتمع الديني، والعلمانية مقابل الثيوقراطية، التي سنتركها لمناسبات أخرى.

5 - أنظر مقالتنا "الدلالات التاريخية لمفهوم "الطور الطبيعي عند جون لوك" منتدى دروبwww.doroob.com و http://www.anfasse.net
6 - موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت-باريس ، الطبعة الثانية 2001.
7 - أنظر الدلالات التاريخية لمفهوم الطور الطبيعي عند جون لوك ، نفس المرجع
8- إعلان حقوق الإنسان والمواطن1789، دستور 1793، إعلان حقوق وواجبات المواطن 1795.
9 - La question juive, trad, M. Simon, Ed. Bilingue Aubier
10 - د صادق جلال العظم، دفاعا عن المادية والتاريخ، دار الفكر الجديد بيروت لبنان 1990- ص35
11 - أنظر الدراسة التي ذيل بها العفيف الأخضر ترجمته للبيان الشيوعي(فصل : الاقطاع) دار الطليعة (بدون سنة).
12 - جون لوك ، رسالة في التسامح، ترجمها عن الأصل اللاتيني: د عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي بمعونة من اليونيسكو- ص 102.
13- Mikael Garandeau, Le libéralisme G F. Flammarion 1998
14 - E.Mandel- Traité d’économie marxiste- tome I . Edi : 10-18- p 82
15 - نفس المرجع.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن أية حداثة نتحدث؟
حميد باجو يساري من المغرب ( 2009 / 6 / 21 - 02:01 )
ليسمح لي الكاتب أنه برغم إيراده للتنظيرات المعروفة لمفهوم الحداثة أو التحديث على الصعيد العالمي،
لم يورد كيف دخل هذا المصطلح إلى المعجم السياسي المغربي وكيف تم التأسيس له قبل أن يصبح عملة متداولة بين أناس ربما لم يفهموا مضمونه الحقيقي
وفي غياب هذا التوضيح يصبح الكلام عن -التهافت- مجرد تعميم لا معنى له


2 - شكر
يوسف الفتوحي ( 2009 / 6 / 21 - 14:17 )
أشكرك أستاذ حميد باجو على ملاحظتك القيمة. إذ بالفعل لم يتناول المقال الخطاب السياسي -الحداثي- المغربي إلا من زاوية ستاتيكية وصفية معممة، مغفلا البعد التكويني لهذا الخطاب. إلا أن ما يشفع للكاتب من جهة، هو الغاية المركزية للمقال وهو التأصيل التاريخي والنظري للمفاهيم الرئيسة لهذا الخطاب. ومن جهة أخرى وكما يدل على ذلك العنوان، فالأمر لا يتعلق إلا بمجرد مشروع سيحاول الكاتب من خلال مقالات أخرى أن يؤسس معالمه. وعلى العموم ، كانت ملاحظتك صائبة ، وستساهم بدون شك في إناء هذا المشروع المتواضع
تحياتي الصادقة

اخر الافلام

.. ترقب في إسرائيل لقرار محكمة العدل الدولية في قضية -الإبادة ا


.. أمير الكويت يصدر مرسوما بتشكيل حكومة جديدة برئاسة الشيخ أحمد




.. قوات النيتو تتدرب على الانتشار بالمظلات فوق إستونيا


.. مظاهرات في العاصمة الإيطالية للمطالبة بإنهاء الإبادة الجماعي




.. جامعة جونز هوبكنز الأمريكية تتعهد بقطع شراكاتها مع إسرائيل م