الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة من أزمنة الإرهاب: نهاية شيوعي

مختار ملساوي

2009 / 6 / 24
الادب والفن



بعد أيام من المساعي والوساطات حضر إمام مسجد الحي أخيرا إلى دار الدكتور دانيال ف ليشهد على إشهار إسلامه. لقد حرصت زوجته على حضور بعض الجيران بالإضافة إلى إخوتها وعمها.
كان إمام الحي قد اشترط في البداية ضرورة حضور الدكتور دانيال المقبل على اعتناق الإسلام إلى مسجده ليعلن أمام الملأ دخوله الإسلام، لكن حالة الطبيب الصحية وشيخوخته لم تكن تسمح له بذلك، بالإضافة إلى أنه كان يشعر بحرج كبير وهو يتصور نفسه يدخل المسجد أمام سكان الحي الفضوليين الذين لا شك أنهم سوف يفدون بكثرة لمتابعة هذه الطقوس، ولعل بعضهم كان سوف يحرص على حضورها بغرض التشفي لا غير.
وأخيرا تنازل الإمام وقبل القيام بهذه المهمة (العظيمة) في بيت الدكتور دانيال ف. وبعد أن بسمل وصلعم وحوقل وحمدل توجه إلى الطبيب المستلقي على سريره وقال له: للدخول في الإسلام عليك فقط أن تقول ما يلي:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنا أبرأ من كل دين غير دين الإسلام.
كرر الطبيب ما كان يقوله الإمام كلمة كلمة. لم يكن يحسن النطق بعربية فصيحة. كان يفهم ويتحدث جيدا الدارجة الجزائرية، فقد ولد في الجزائر من عائلة فرنسية أقامت في الجزائر منذ عدة أجيال. وبعد هذا الإشهار قام الإمام بتهنئة المهتدي بأن أنجاه الله من النار، كما هنأ الحضور الدكتور دانيال بهذه المناسبة. استأذن الإمام بالانصراف وهو يعتذر عن مشاركة الحضور في تناول بعض المشروبات بحجة أنه صائم، لكن زوجة الدكتور حرصت على دس شيء ما في يده قبل أن تفتح له الباب.
ولم ينس الإمام وهو يتأهب للخروج أن يدعو الطبيب إلى حفظ الفاتحة وسورة أخرى ولو من قصار سور القرآن حتى تحسن صلاته. كما دعاه إلى تشريف المسجد بحضوره لأن صلاة الجماعة تتضاعف حسناتها وخاصة صلاة الجمعة !!
ثم جاء دور الحاضرين لينصرفوا في هدوء.
جلست الزوجة بالقرب من زوجها وأمسكت بيده قائلة: ألم أقل لك؟ الأمر سهل جدا بينما جعلته أنت جبلا.
لم ينبس الطبيب ببنت شفة، وشيئا فشيئا لم يعد يسمع ما كانت تقول زوجته وسرح خياله بعيدا وهو يحدق في وجه هذه المرأة المخلصة التي قاسمته الحياة طوال هذه السنين الطويلة، ثم أغمض عينيه.
عادت به الذاكرة إلى ما قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة، ما أسرع ما يمر الوقت، كأن ذلك حدث بالأمس فقط، عندما قابلها لأول مرة، وقد جاءت إلى المستشفى لتباشر عملها كممرضة مبتدئة لأول مرة وكان هو الذي استقبلها في المصلحة التي كان يشرف عليها، وكان يكبرها بعشر سنوات وقد عمل قبلها في المستشفى. وفي الحال أعجب بجمالها وشخصيتها، كما أعجبت بأدبه وظرفه غير المعتادين دائما من الفرنسيين تجاه الجزائريين يومئذ، وحاول التقرب منها في الأيام والأسابيع التالية لكنها ظلت تصده بلطف لأنها كانت مقتنعة أن هذه العلاقة لا مستقبل لها. لم يكن من السهل إقامة علاقات حميمة بين جزائرية وفرنسي. كان العكس أسهل رغم ندرته، لأن الشرع الإسلامي يبيح هذه العلاقات بين رجل مسلم وامرأة فرنسية، كما أن موقف الناس، عموما، كان متساهلا إلى حد ما مع الرجل بينما كان شديد التعصب والاستهجان عندما تقيم امرأة مسلمة علاقة ود مع فرنسي مسيحي. كان من النادر جدا أن تتزوج حزائرية مسلمة من رجل مسيحي في الجزائر المستعمَرة، وحتى في تلك الحالات النادرة كان يطلب من الرجل الأوربي أن يعتنق أو يتظاهر باعتناق الإسلام على الأقل، إرضاء لعائلة زوجته وحرصا على تسهيل إجراءات الزواج الذي كان مثلما هو اليوم يشترط موافقة وحضور ولي الأمر من جهة المرأة.
ولد الطبيب دانيال لأسرة مسيحية برتستانتية من جهة أبيه ولأسرة تعود جذورها إلى المذهب السانسيموني الذي رافق الحملة الفرنسية لاستعمار للجزائر، وكان دعاتها من أهم مروجي نظرية الاستعماري الفرنسي ذي الرسالة التمدينية، البعض قاموا بذلك عن حسن نية وقناعات إنسانية والبعض الآخر بلغ من تحمسهم حد المناداة باستيطان مكثف للجزائر من قبل الأروبيين والدعوة إلى حمل الجزائريين قسرا على تبني هذه الرسالة بل حتى المشاركة في الإبادة ضد حركات العصيان والتمرد التي كانت لا تتوقف في جزائر القرن التاسع عشر.
عندما تعرف الدكتور دانيال على مريم الممرضة كان مناضلا في الحزب الشيوعي الجزائري. لعل هذا الحزب كان الحزب الوحيد في الجزائر المستعمرة الذي كان يضم في صفوفه مناضلين منحدرين من شتى الأجناس والأديان بما في ذلك من الجزائريين. وكان الجميع يتطلعون إلى بناء مجتمع جزائري متلاحم تسوده العدالة والمساواة بعد أن إزالة كل العوائق العنصرية التي فرضتها القوانين الفرنسية، لكن هذه الفكرة كانت بمثابة قطرة ماء مخلصة في بحر من الكراهية والأحقاد المتبادلة لم يكن من السهل تجاوزها.
كانت مريم معجبة بالدكتور دانيال لكنها لم تكن تتجرأ على إبداء هذا الإعجاب، بل لم تكن تتجرأ حتى على النظر إليه وجها لوجه. كانت تربيتها الجزائرية التقليدية تحول دون ذلك رغم أنها تنتمي إلى هذا الجيل الجديد من النساء الجزائريات اللواتي أتيحت لهن فرص التعلم والخروج للعمل، وكن أقلية نادرة جدا في جزائر الحقبة الاستعمارية.
خلال الثورة التحريرية عمل الدكتور الشيوعي ضمن شبكة سرية لتقديم المساعدات الطبية للثوار، مثل تسريب الأدوية نحو الجبال، والتنقل للعلاج في أماكن سرية أو حتى التستر على الجرحى القادمين إلى المستشفى من الثوار بشتى الحيل. في البداية لم تكن مريم تعرف نشاطاته السرية مع الثورة. ورغم أنه لم يكن يفوّت أية فرصة للتودد إليها، والتعبير عن مشاعره الحقيقية تجاه الاستعمار وتنديده بالقمع وحديثه عن حق الجزائريين في تقرير مصيره، إلا أنه من جهته كان شديد الحذر عندما يتعلق الأمر بنشاطاته تجاه الثورة.
بعد شهور طويلة تجرأ ذات مرة وهما في مداومة ليلية، بعد منتصف الليل حين توقفت كل حركة في القسم الذي كان يقومان بالمداومة الليلية فيه وفتح معها موضوع الثورة وكيف أنه يؤيد حق الجزائريين في الاستقلال ولا يتردد في تقديم أية مساعدة وأطلعها على نشاطاته السرية.
ازدادت العلاقات بينما قربا وتدريجيا دخلت مريم في شبكة الدعم السرية للثورة كما ازداد إعجابها به وتحول الإعجاب إلى حب متبادل، لكن تسارع الأحداث واكتشاف خيوط الشبكة من طرف الاستعمار أدى بهما إلى الهروب نحو الجبال حيث معسكرات المقاومة، ثم كان الاعتقال بعد حصار معاقل الثورة وتمشيطها الواسع في المراحل الأخيرة من الحرب والسجن إلى غاية الاستقلال.
قضت مريم سنتين في السجن لم تكن تعرف شيئا عن مصير الدكتور دانيال إلى أن تم إطلاق سراحها غداة الاستقلال وعادت للعمل في المستشفى الذي كانت فيه. وكم كانت فرحتهما طاغية عندما عاد الدكتور ذات يوم للعمل في نفس المستشفى ولم يرحل عن الجزائر كما فعلت الغالبية الساحقة من الفرنسيين. كان شعورهما نحو بعضهما طاغيا لا يحتمل الصبر ولم يكن لأية حواجز دينية أو عرقية أن تقف في وجهه. قبلت طلبه الزواج منها بدون تردد. ولم يكن من السهل إقناع أسرتها لكن الماضي الثوري للدكتور وسمعته في المستشفى وتعاطفه الكبير مع الجزائريين أدى في النهاية إلى التغلب على هذه العقبة الكأداء.
عاش الزوجان حياة طبيعية وأنجبا ثلاثة أبناء، ولدين وبنتا، وأخيرا تقاعد عن العمل لينال راحة مستحقة.
لكن هذه الراحة سرعان ما واجهت منغصات. لقد بدأت صحة الدكتور تسوء وبدأ يستبد بهما معا شيء من القلق راح يزداد بالتدريج. صحيح كان راضيين عن حياتهما المديدة، فقد ربيا أطفالهما أحسن تربية وهم كلهم خريجو الجامعات وقد توظفوا وتزوجوا وهم يحيون حياة طبيعية مع أسرهم. كان حب الدكتور للجزائر وافتخاره بجزائريته وبماضيه النضالي من أجل الجزائر الحرة المستقلة قد حال دون رحيله عن الجزائر غداة الاستقلال، بل كان ضمن الفرنسيين الأوائل الذين سارعوا إلى اختيار الجنسية الجزائرية والتخلي عن الجنسية الفرنسية عن قناعة. ما كان يقلقه ويقلق زوجته في هذه الأيام هو الحرج الكبير الذي سوف تقع فيه أسرته لو حدث أن مات فجأة. لم يكن راغبا في أن يدفن في المقبرة المسيحية التي أصبح من النادر أن تقصدها جنازة عدا بعض الفرنسيين الذين رحلوا غداة الاستقلال عن الجزائر ولكن حنينهم إليها كان من الحدة بحيث كانوا يوصون ذويهم بدفنهم في الجزائر إلى جانب آبائهم وأجدادهم وكان ذووهم يبذلون أموالا طائلة ومساعي مضنية لدى الدولة الجزائرية لترخص لهم بالدفن وكانت أحيانا تسمح بذلك لأولئك الذين لم يقفوا إلى جانب القمع الاستعماري، ومن جهة أخرى كانت المقبرة قد أهملت وتعرضت للتخريب ونهب رخامها وكل ما بقي صالحا فيها. كانت أمنيته هي أن يدفن في مقبرة واحدة مع زوجته لكن الشريعة الإسلامية كانت تقف في وجه هذه الأمنية رغم بساطتها، ولم يكن يرغب في إشهار إسلامه وهو الشيوعي العنيد الذي يمقت كل الأديان ويرى أنها سبب كل التخلف والأحقاد بين الشعوب. كان مجرد التفكير في هذا الأمر يسبب له قلقا شديدا وقرفا لا يقاوم.
ثم بدأت حياتهما تعرف شيئا من التأزم والقلق مع جنوح المجتمع الجزائري نحو التدين المتطرف وانتشار حركات الإسلام السياسي وأخيرا دخول البلاد في دوامة العنف، ولجوء الجماعات الإرهابية إلى اختطاف الأجانب وغيرهم من ذوي الديانات غير الإسلامية بما فيها أولئك الذين كانوا يحملون الجنسية الجزائرية دون أن يكونوا مسلمين. لم يكن يشفع للدكتور دانيال أمام كل هذا الجهل والحقد والتزمت الذي استبد بالناس، خاصة الشباب، لا ماضيه السياسي النضالي الشيوعي من أجل الأخوّة الإنسانية ولا ماضيه الثوري من أجل حرية الجزائر واستقلالها ولا تفانيه وإخلاصه طوال أكثر من أربعين سنة قضاها في مستشفى هذه المدينة الصغيرة يواسي ويعالج ويدافع عن الفقراء ويتوسط للمحتاجين. كان كل هذا مجهولا لدى هؤلاء الحمقى. وكيف لا يكون الأمر على هذا الحال، وقد مس عنفهم حتى شيوخ المجاهدين الجزائريين الذين كافحوا وسجنوا وعذبوا أيام الثورة وها هم في آخر عمرهم يضطرون إلى حمل السلاح دفاعا عن كرامتهم وعن كرامة الجزائر، بعد أشاع هؤلاء الأصوليون بين الناس أن الحرب ضد فرنسا لم تكن كلها جهادا، وأن الثوار لم يكونوا كلهم مجاهدين إلا أولئك الذين كانت نيتهم خالصة كلها لله وليس للوطن.
عندما اقترحت عليه زوجته إشهار إسلامه كإجراء ظاهري للتخلص من كل هذه الهواجس استبد به إحباط شديد، رغم أنه اعترف في الأخير بسداد رأيها وحتى أولادهما فقد استحسنوا الفكرة وحاولوا التهوين من شأن وقعها على أبيهم، كانوا أكثر براغماتية، بل حولوها إلى مصدر للتندر والتهكم بعد أن دعوهما إلى القيام بعمرة أو حج، ولم لا؟ هل بقي في هذه البلاد مبادئ؟ لكن الفكرة في حد ذاتها كان يستهجنها، كانت بالنسبة إليه هزيمة لكل المبادئ التي ناضل من أجلها وربى أولاده عليها والتزم طوال حياته بها ليبرهن للناس على إمكانية قيام علاقات إنسانية بين الناس مهما اختلفت انتماءاتهم العقائدية أو العرقية أو القومية. كان بوسعه أن يهاجر إلى فرنسا ويتجنب هذه النهاية القاسية ولكن الفكرة هذه لم تكن أقل تأثيرا على نفسه من الفكرة الأولى. لقد ناضل ضد فرنسا الاستعمارية واختار عن قناعة وحب الجنسية والمواطنة الجزائرية فكيف يعقل أن يتنازل بعد هذا العمر المديد عن كل ما ظل يفتخر به في حياته ويتوسل من فرنسا أن تتكرم عليه بجنسيتها؟
بعد مدة لم يدر مداها، أفاق من غيبوبته، فوجد الغرفة شبه مظلمة وتذكر ما حدث خلال هذا اليوم التعيس وأحس وهو لا يزال مغمض العينين بيد زوجته وهي لا تزال تشد على يده. شعر بتأثر عميق واغرورقت عيناه بالدموع وانتبهت زوجته لذلك فتمددت إلى جانبه وسالت الدموع من عينيها في هدوء. وناما هكذا حتى الصباح.
في هذا اليوم كتبت إحدى الصحف الجهوية المكتوبة بالعربية خبر إشهار الدكتور دانيال إسلامه على يد إمام مسجد الحي في مدينة س.، ولم تنس هذه الصحيفة التذكير بماضيه الثوري خلال حرب التحرير ودماثة أخلاقه، ولكنها لم تنس أيضا التذكير بأنه كان شيوعيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية للكاتب
رعد الحافظ ( 2009 / 6 / 24 - 16:14 )
قصة إنسانية إجتماعية ثورية تحررية رائعة بكل المقاييس , ولو كان لي أن أضيف بعض العبارات الأخرى عليها لقلت ,إنها تلخص فعلا من بين ما تضمنته من عبر ونتائج , حال وتفكير مشايخ الاسلام والشعوب البسيطة التي أعمتها حاجتها اليومية للخبز عن فهم الحقيقة التأريخية لأفكار ومشاعر المحريين ..نعم فما زلت غير مقتنع بتسمية الاستعمار والمستعمرين وأسميهم شخصيا بالمحررين ,إذ لولاهم لما وصلت الحضارة والتكنلوجيا الينا ولما أستخدمها المشايخ ذوي اللحى المشتتة في محاربة الغرب والانسان في كل مكان وكما أشار الى ذلك الاخ فادي يوسف الجبلي في تعليقه على مقالة الاستاذ شامل عبد العزيز الاخيرة عن تأثير التيارات الدينية على المرأة في مجتمعاتنا المتخلفة..كنت أنتظر كتاباتك يا أستاذ مختار ملساوي منذ زمن ليس بالقصير , وها أنذا أعثر عليها صدفة , فشكرا لك لأنك أضفت الى مفكرتي إسما جديرا بالقراءة ..مع تحياتي الخالصة

اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟