الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عربة الخضار

عدنان الدراجي

2009 / 6 / 24
الادب والفن


تبا, كان علي إظهار عدم المبالاة لأُفهم الرفيق عبود ببساطة أن لا شيء يدعوني إلى القلق فانا لم افعل أي مخالفة, أنساني الارتباك كبح احمرار وجهي وارتجاف شفتيّ, ماذا لو لاحظ انسكاب الشاي على ملابسي, ترى هل يجعل من ذلك دليلا على صحة تقارير رفاقه؟
لم اشعر بمقدمه المشؤوم. ليتني لم ألج هذه المقهى, باغتني بجلوسه بجواري ثم دس فمه المتعفن في أذني وهمس: إنهم على وشك استدعائك إلى دائرة الأمن, تلفت الوغد اللئيم من حوله ثم راح يستحلفني لحفظ السر, جثم الهم على صدري, هواجسي متوالية تكاد لا تنتهي, ترى ما الذي يريده مني هذا المفترس, أعرف الله أخيرا فجاء يحذرني طلبا لمرضاته؟ أم انه أتى مدفوعا بحب الخير الذي لم يعرفه من قبل؟
بسِمَ الخبيث وبرقت عيناه حين سألته: لماذا؟ غرس إصبعه في صدري كأنه يقول: أنت أدرى, ثم قال: انتبه لنفسك فأنت مراقب وقبل أن يغادر نظر إلى (حنون القهوجي) وأشار إليّ وهو يفرك سبابته بإبهامه, ضحك حنون وقال: (كالعادة يا رفيق).
يا الهي ما الذي بلغهم عني؟ بدأ الخوف يسري في أوصالي رغم انفي, الاستدعاء لا يعني غير الشتائم البذيئة والجلد بالسياط المحشوة بأسلاك معدنية والتعليق والاتهامات الباطلة التي سأرغم على الاعتراف بها ثم حكم بالموت أو السجن كما حصل لكثير من معارفي وأبناء مدينتي, لكن لماذا؟ فانا لم اقترف جرما ولم أتحدث في شؤون السياسة إطلاقا.
مؤكد أن هناك خطأ ما, فمن غير المعقول أنهم لا يعلمون أني موظف حكومي صغير يتبخر مرتبه الشهري خلال أول يومين من الشهر ولولا عربة الخضار الصغيرة التي تعيلني وعائلتي لهلكنا جوعا, كيف يجهلون ذلك وجواسيسهم تجول في السوق طوال النهار لتراقب وتبتز من تشاء من البقالين! كيف يفوتهم أني لا املك وقتا للسياسة ولا للثقافة ولا لمشاهدة التلفزيون؟
كم أنا غبي! إنهم يعرفون كل شيء, نعم أنهم يعلمون الخفايا, أمس أنبني السيد المدير(الرفيق العتيق) بسبب عدم اكتراثي بأخبار الحشد الأمريكي على الحدود الجنوبية, كيف علم بذلك؟ لا ادري! قال لي بحقد هائل لو انك تحب بلدك لحرصت على دعم المجهود الحربي؟ قلت: كيف ادعم المجهود الحربي؟ فاشتط غضبه وصرخ: لا خير فيك, أنت لا تستحق استنشاق هواء العراق, كادت بطنه الهائلة تفتك بأزرار بدلته الزيتونية من فرط الاهتياج, فتجرأت وسألته: لماذا يا أستاذ؟ فصرفني مزمجرا وهو يلهث: أنت تحرص على عربة الخضار أكثر من حرصك على بلدك المهدد, كفى ثرثرة وإياك الحديث عن أسعار الطماطم والبطاطا بعد الآن.
يعيب حرصي على مصدر رزقي الذي انتشلني من الحرمان والجوع بعد أن كاد مرتبي يؤدي بي إلى التسول أو الارتشاء والسرقة, إلى الجحيم يا مديري التافه الذي بان عليه الثراء وعظم بطنه منذ ارتدائه الزي الزيتوني, سحقا للرفاق ولبدلهم الزيتونية المرعبة.
ليتني اصرخ في وجهه: يا كاذب, أنت لست حريصا على وطنك كما تدعي بل أنت خائف على ينبوع ثرائك, وناقم لكثرة المتربصين بك طلبا للثأر, ابتلعتم بلدا وأذقتم أهله سعير الجحيم ولم تبقوا لي غير سياطكم وعربتي وعراقيتي, من الذي ساقني إلى مجازر الحدود الإيرانية والمحرقة الكويتية, من ذبح واستباح واستبدل زقزقة الأطفال بدوي القنابل, لست أنا يا سيدي المدير, لست أنا من أشعل النار في ذيل الوحش واستفزه وأسال لعابه لاقتضام بلدي, ما الذي نلته منكم غير مرض السكري والشيب الذي غزا شعري باكرا.
مكثت مذهولا وعاجزا عن مغادرة الأريكة الخشبية العارية, مراقبا امتدادات أعشاش الأرضة الملتصقة بجذوع النخيل المسترخية فوق نهايات الجدران الممزقة بشروخ شاقولية غير منتظمة, والمغطاة بصور الرئيس المتنوعة الأحجام التي اخفت قذارة أجزاء كبيرة منها, وسُترت مساحات أخرى بلوحات كتب عليها نتفا من أقواله.
ومضت الإضاءة مبشرة بعودة التيار الكهربائي فنهض حنون وأدار زر تشغيل التلفزيون الذي كان يعرض لقطات من اجتماع القيادة, آه لهذه الاجتماعات التي لا تنتهي, مللت يا الهي مظاهر الحرب والترقب والتوجس والفاقة, هل خلقت فقط للحروب والجوع والخوف؟ من أنا لأكون ندا للحكومة وخطرا عليها؟ من لي غيرك يا ربي ومن لعائلتي, اغرورقت عيناي بالدموع حين تذكرت أطفالي وما سيجري عليهم بعد اعتقالي, ستحاط عائلتي بحصار صارم, وسيتعرضون لابتزاز الجلاوزة, وسيتجنب الناس الاقتراب من باب منزلي.
لم اعد اشعر بالضوضاء من حولي إذ أغرقني الهم ببحره ولم التفت إلى الساعة التي احتلت صورة الرئيس منتصفها رغم أنها معلقة أمامي مباشرة فوق جهاز التلفزيون, أوشكت على استجماع قواي لمغادرة المقهى للعودة بعربتي إلى البيت حين وضع حنون قبضته الثقيلة على كتفي الأيسر, ابتسم لي وهمس: أرعبك عبود, أليس كذلك؟ لا تخف سيرضى بمبلغ صغير, سيقسم انه سيعطيه لمدير الأمن, انه يكذب لم تصل التقارير بعد إلى الأمن, زفرت طويلا لافظا ركام الرعب والخوف الذي امتلأ به صدري وسألته: كم يريد؟ كانت عيناه الذاويتان ترقبان باب المقهى حين باغتني: سيرضى بمائة ألف فقط, يا الهي من أين لي بمائة ألف, أنا لا املك إلا العربة, فضحك حنون وقال: بعها واشتر سلامتك.
- وكيف سأتدبر أمور عائلتي؟
فرد غاضبا: لا تكن غبيا, بثمن عربة الخضار تنجو من الاعتقال.
ارتعش بدني وقلت متوسلا: سأعجز عن إطعام أطفالي, فكشر عن أسنانه المتآكلة وتساءل: وهل سيشبع أطفالك بعد اعتقالك, نهضت كجريح محاصر وسألته: لماذا يتعين علي دفع ثمن نزواتكم دائما؟ رفع يديه وقال: لا ادري, اسأل الرفاق لعلك تجد جوابا!
د.عدنان الدراجي
[email protected]










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا