الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية أن ترى الآن لمنتصر القفاش

مهدي بندق

2009 / 6 / 25
الادب والفن


في سفر اللاويين نقرأ عن لاوي بن إفرايم ( إبراهيم في اللغة العربية ) ذاك الذي ُقتلت زوجته فقسم جثتها اثنتي عشرة قطعة ، ليبعث بكل واحدة منها إلى سبط من أسباط بني إسرائيل . رسالة سيميائية شديدة البلاغة ، بها انتفضت القبائل جميعا ً انتفاضة رجل واحد يطلب الثأر من القتلة.
بطل هذه الرواية – التي نعرض لها اليوم – ُيدعى أيضا ً إبراهيم ، وهو مثل سميه التوراتي يبعث برسالة ( ولكن إلى من ؟! ) موضوعها متعلق بزوجة تومئ الأحداث إلى أنها ُقتلت " معنويا ً " إذ ُشوهت "صورُها" ، وُعرضت تباعا ً – بالرؤية أو بالسماع - على الأغراب( ولكن من القاتل ؟! ) وإما إبراهيم الزوج المعاصر صاحب الرسالة الحديثة فيتطلع للثأر ( ولكن كيف ؟ ولا من قبائل تعينه أو تلتف حوله) أم تراه لا يتطلع ؟ فإذا علمنا أنه هو نفسه من أطلق كاميرا التصوير على جسد امرأته؛ لم يعد بمقدورنا استبعاده من شبهة القتل المعنوي ( ولكن لماذا؟ وإلام القصد ابتداء ً ؟ ) أسئلة لا تجيب عنها هذه الرواية الغامضة ، حتى ليكاد أن يصيب الإحباط ُ القارئ َ ذا الميول البوليسية الباحث َ عن لذة الكشف ( كي يرتاح أخيرا ً ؟! ) بينما يجد فيها القارئ ُ المتعمق متعة ً أي متعة . رولان بارت يفصّل الفرق بين هذين النموذجين : نص اللذةPlaisir الذي يقنع ويفحم ويمنح الرضا ، لأنه يجئ من الثقافة السائدة ولا ينفصل عنها ، ونص المتعةJouissance الذي يتأسس على هز دعائم ( بل وتفكيك ) الثوابت التاريخية والثقافية والسيكولوجية لدى القارئ .
رواية " أن ترى الآن " بمصطلحات بارت تنتمي إلى نص المتعة المرهق ، لا إلى نص اللذة المريح ، ولهذا سوف نرى أسئلة ولا إجابات ، ونرى استلابا ً لطمأنينتنا ، ونرى وعينا بالكون والطبيعة والنفس وهو ُيبدّل ، ونرى ذكرياتنا وهي تنداح مثلما ينداح الماءُ وقت ُيلقى فيه بحجر . وماذا بعد أن تنسحب الذكريات الواثقة المستقرة ، ليحل محلها التوهم والتشوش ( مثلما يحدث في النوم ) وماذا بعد أن يتشكك الوعي في قدرته على ضبط الرؤى والأفكار ، وبعد أن تتلاشى الطمأنينة كدخان في الهواء ؟ حينها تستقيل اللغة من وظيفتيها الرئيستين : التواصل ، وتمثل العالم Representation . ومن نافلة القول أنه بدون اللغة لا يمكن أن تقوم علاقة إنسانية بين فرد وفرد ، أو جماعة وأخرى ، أو أمة وغيرها من الأمم . أما تمثل العالم بمعنى استحضاره – بالتخيل - في بنية موازية لواقعه الأنطولوجي فمحال دون لغة ٍ تعيد إنتاجه بهيئة أصوات وكلمات وأنساق نحوية ذات دلالة . ولأن جدلية الكلام / اللغة هي التي اخترعت الذات المدركة ، كبديل عن " العالم في ذاته " فلقد بات منطقيا ً أن تنبثق " الأنا " كثمرة ناضجة من حقل اللغة وليس من أي مجال آخر ، ومن ثم فإن أية محاولة لتفكيك العالم " الموضوعي " – بقصد معرفته وسبر أغواره - لابد وأن تبدأ بتفكيك "الأنا " Ego-deconstructive وهو مالا يمكن أن يتم إلا بإلغاء مركزية الذات ، وبالتالي التعامل مع تجلياتها باعتبارها مجرد كيان بين كيانات متعددة .
أمر شبيه بهذا ربما قاد إبراهيم المعاصر ليفعل بزوجته ، وبصورها ، وبنفسه ما فعل . فماذا بالضبط هذا الذي فعله ؟
في عام 1977 كشف العاملون بحقل الإحاثة Paleontologists عن حفرية لشابة ( أسموها لوسي ) اعتبرها عالم الطبيعيات هنريش هكل الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان ، كانت تعيش في منطقة العفاري جنوب البحر الأحمر منذ 4 مليون سنة ، وكانت تسير منتصبة القامة ، الأمر الذي أسهم في تحرير عضلات الرقبة عند أخلافها وبالتالي سمح لجماجمهم أن تكبر ، ولأمخاخهم أن تتطور عبر الملايين الثلاثة التالية . بعدها تعلم إنسان جاوة – آخر أشباه الإنسان Hominoids - كيف يستخدم الأدوات الحجرية ، وتلاه إنسان نياندرتال العاقل Homo- Sapience الذي سكن الكهوف واستخدم النار ( 100000 سنة خلت ) إلى أن ظهر الإنسان الحالي في كرومانيون بجنوب فرنسا ( 30000 سنة ق. م ) ليعيش على القنص وقطف الثمار والرعي ، حتى اكتشف أحفاده الزراعة Culture في العشرة آلاف عام الأخيرة . ساعتها حسب ُ تم للبشر الفطام من أثداء أمهم الطبيعة . بالزراعة لم يعد المرء عنصرا ً ُغفلا ً من عناصر الطبيعة ، بل أمسى كائنا ً لغويا ً " مثقفا ً " ( لاحظ التطابق اللغوي بين كلمتي الزراعة والثقافة ) ولكن بقدر ما أسهمت الثقافة في تأسيس وازدهار الحضارات ، بقدر ما سلبت . ماذا ؟ قبول الكائن بطبيعته ، انصياعه لقوانين الكون ، استقراره النفسي،اندماجه في الكل الاجتماعي أنطولوجيا ً وإبستمولوجيا ً اندماجا ً لا يعكر عليه وَهْم ُ " الأنا " ، وأخيرا ً تلقائيته وبساطته في التعامل مع ظاهرة الموت دون جلبة فارغة أو احتجاج تافه . هذا الاستلاب هو ما جعل الإنسان مغتربا ً ِ في الكون Alienated ، منفيا ً في العالم ، مشتتا ً بداخل نفسه . ولعل أسطورة الطرد من الفردوس هي الرمز( الديني) لهذه الحالة الثقافية التي ُقدر للجنس البشري أن يلذ بمذاق ثمارها " المعرفية " ، وأن يغص بمرارة نتائجها في آن .
ُيعرّف المفكر البريطاني تايلور Taillor الثقافة َ بأنها " الكل المركـّب المتضمن ُ المعرفة َ والعقيدة والفنون والأخلاق والقانون والأعراف والتقاليد والعادات المكتسبة " وترتيبا ً على هذا التعريف اللاتخصصي Non - Specialist يمكن أن ُيسمى كل إنسان يعيش داخل هذا الكل المركّب مثقفا ً ، حتى ولو تمرد عليه في بعض الأحيان . ويظل هذا التعريف " التايلوري " كافيا ً ما دام الصراع الطبقي في حالة كمون ، حيث لا يجد الروائيُّ نفسه بحاجة إلي اعتماد مصطلحات جرامشي أو سارتر أو حتى ماكس فيبر . وعليه فالروائي ُّ الصادق سياسيا ً وفنيا ً لن يرى أمامه من نموذج أفضل من إبراهيم : محاسب في منتصف العمر ، مهدد بفقد وظيفته في مجال الفندقة السياحية ، متزوج بامرأة عاقر ، وله صديقة يمارس معها الجنس أحيانا ً. وتحت ظلال الملل، وانتظار مالا يأتي ، والخوف من المجهول يستسلم لحمّى – قلما تصيب أمثاله من المهمشين سياسيا ً واجتماعيا ً – تدعوه لمحاولة رؤية العالم بما هو عليه ، لا بما تراه الذات السجينة في كهف رغائبها ومخاوفها . صارت الزوجة سميرة ( لاحظ دلالة الاسم ) النموذج المصغر لذاك العالم .. كيف ترى نفسها ؟ وكيف يراها الآخرون الذين هم ليسوا أنا ، وليسوا هي ؟ بل كيف تراها الأشياء غير العاقلة مثل كاميرا التصوير الفوتوغرافي المفترض فيها الحياد التام ؟ الزوجة يقظة ، نائمة ، جادة ، عابثة ، عارية ، أصابعها ، ساقها ، أقدامها ... فجأة تختفي الصور ، ولكنها تعود داخل مظروف( مرسل من مجهول) تتسلمه الزوجة ! الصور العائدة اختلفت ، الزوجة صارت عوراء ، صار لها شارب رجولي ، الأظافر طالت حتى بدت كمخالب حيوان مفترس ، النهدان تضخما جدا ً والحلمتان أمستا كخرطومين طويلين ...الخ من فعل بك هذا يا صور الزوجة ؟ الكاميرا رصدت الثبات ، والثبات زيف مؤكد ، والدليل أن صورتي الفوتوغرافية في عامي الثاني لا يمكن لمصلحة الأحوال المدنية أن تعتمدها صورة لي في سن العشرين . فمن الذي يرصد التحول ؟ عدو أم حبيب ؟ من شوه صوري يا إبراهيم ؟ من قتلني في عينيك على هذا النحو ؟ كلمات لم تنطق بها سميرة ، ولكن لعلها طافت بخاطرها وهي تجمع ثيابها لتغادر البيت . لعله رد عليها في داخله : أهذا تشويه أم إظهار للحقيقة ؟ وهاهو ذا يضع الصور الأولى جنبا ً إلى جنب الثانية متأملا ً في صمت ، ربما ليحقق في عالمه السري ما لم يتحقق في عالم واقعنا " العربي " الساكن الراكد ، هذا العالم الذي طالما تشدق بتأبيه على التغيير سياسيا ً واجتماعيا ً.
هكذا تضع هذه الرواية الأخاذة يدها على آليات التفكيك وهي تعمل عملها في الذات الفردية والجمعية ، سواء كانت الذات واعية أم غير واعية . وما لم تتعلم "الأنا " و" النحن " الدرس الأنطولوجي .. درس دودة القز والفراشة ، ما لم تتعلم ضرورة الانسلاخ من كينونتها ( المؤقتة بطبيعتها ) لتولد من جديد أقوى وأجمل مما كانت ؛ فإن الموت والانقراض والتلاشي هي النتيجة المحتومة . فما من شك في أن كل ثقافة تعارض البيولوجيا ، ولا تساير قانون التغير الشامل إنما هي ثقافة ميتة ، ولا مندوحة من دفنها عاجلا ً أو آجلا . وما من شئ بالنسبة لثقافتنا أكثر أهمية ً من " أن ترى الآن " ذلك الخطر .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفرق بين الحوار الداخلي والحوار الخارجي في الأدب


.. تفاعلكم | الفنانة اللبنانية هبة طوجي في حديث عن الأولمبيا وز




.. شاهد: -ربما يتحركون لإنقاذنا-.. شابة غزيّة تستغيث بالغناء فو


.. عمل ضجة كبيرة ومختلف.. أحمد حلمى حكالنا كواليس عرض فيلم سهر




.. بتهمة -الفعل الفاضح- والتـ.ـحرش.. شاهد أول حديث لسائق أوبر ف