الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الظاهرة السعدية في الجزائر : المنطق لا يستقيم مع الأغلوطة

حمدي حميد الدين

2009 / 6 / 25
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


المغالطات هي سلاح الأقلام المأجورة التي تشتغل لحساب أيديولوجيات متهرئة أو أنظمة قمعية والهدف دائما هو التضليل والترويج للأغلوطة حيث تقوم تلك الأنظمة القمعية بوضع كلّ مقدّرات الأمة في خدمة هذه الأقلام المأجورة، كما تسند لها الوظائف الأكاديمية، لتمارس أبشع أشكال التفتيش (Inquisitions) لمحاكمة الأقلام النزيهة وممارسة شتى أنواع الضغوط عليها لإسكاتها أو إجبارها على الهجرة أو حتى الزج بها في غياهب السجون والمعتقلات.
يتعلق الأمر في هذا المقال بظواهر غريبة في الشمال الأفريقي، تشتغل في تزوير التاريخ وبلغ الأمر مستويات لم يجرؤ حتى الاستعمار على وصولها، لأنّها تمتاز بالفجاجة وجرأة الجاهل (1) . وهي تحاول الظهور بمظهر البحث الأكاديمي النزيه وتدّعي الوطنية والكفاح ضدّ الطروحات الاستعمارية، ولكن أنى لها أن تخدع الأوساط الأكاديمية الحقيقية.
برزت في دول الشمال الأفريقي فقاعات تدّعي المعرفة التاريخية بعد أن وضعت لها خارطة طريق من دوائر معروفة، أهمّ ما في تلك الخارطة هو نفي وجود ثقافة وحضارة ولغة أمازيغية وأنّ الأمازيغ عرب قدامى والأمازيغية لغة عروبية قديمة، وهذه الفقاعات أفرزت الظاهرة "الخشيمية"(2) في ليبيا والظاهرة "السعدية"(3) في الجزائر، والظاهرة "العرباوية"(4) في تونس وبنسبة أقلّ حدّة الظاهرة "الجابرية"(5) في المغرب، وهي كلها ظواهر خرجت من رحم البعث العنصري المقبور في العراق، وإذا كانت استخبارات الأنظمة السياسية في الدول الشمال أفريقية قد مارست الإقصاء والتهميش وحتى الطمس النهائي للهوية الأمازيغية خاصة نظام البدعة الجماهيرية في ليبيا الذي وضع محو الوجود الأمازيغي عبر التاريخ ضمن أولوياته فإنّ أصحاب هذه الأقلام يمارسون عملا أفظع وأبشع وهو الدجل والتزوير والتضليل، وكل ذلك مغلّف بالمثل الوطنية والقومية.
كان الدكتور عثمان سعدي صاحب الفتاوى الشهيرة في تاريخ الشمال الأفريقي قد كتب مقالا فيه على عادته الكثير من المغالطات، وقد بدا من خلال السطور التي خطّها في غاية الانتشاء وكأنه اكتشف القمر، وله الحقّ في أن ينتشي لو تحرّى في طروحاته الموضوعية واحتنب توظيف الأغلوطة وتلافى الإسقاطات التي لا تنطبق على واقع الأشياء.
الموضوع الذي كتبه الدكتور إياه كان حول ترسيم اللغة الفرنسية والقضاء على "اللهجات"(6) في فرنسا غداة انتصار الثورة الفرنسية ويدعونا إلى التأسي بفرنسا والعمل على الإسراع في طمس ودفن اللغة الأمازيغية نهائيا لنبني أمّة عظيمة على غرار الأمّة الفرنسية .
ولتوضيح المسألة اللغوية في فرنسا يجدر بنا هنا أن نعرض باختصار حقيقة ما كان عليه الوضع اللغوي هناك وكيف عالجت الثورة الفرنسية هذا الوضع بعد انتصارها :
لقد كانت اللغة اللاتينية في فرنسا كما يعرف الجميع منذ أن فتحها يوليوس قيصر في القرن الأول قبل الميلاد هي اللغة الرسمية كما هو الحال في البلدان الأوربية الأخرى، وزادت هذه اللغة رسوخا عندما تمسحت الدولة الرومانية وأصبحت اللغة اللاتينية لغة ليتورجية (Lithurgique) طقوسية، وظلّت طيلة القرون الوسطى اللغة التي تحتكر العلم والمعرفة، ومن خلالها يهيمن رجال الدين على التعليم الذي أصبح حكرا على عليهم، فقد كانوا يشكلون غالبية هيئة التدريس ، مما جعل الفكر والعلم خاضعين للنص الديني، هذا الأخير جمّد العقول ووقف موقفا عدائيا ضدّ أيّ اجتهاد أو تجديد، على اعتبار أنه ضلال وزيغ ونكران للدين.
لم تكن اللغة اللاتينية هي لغة التعليم والإدارة والكنيسة في فرنسا لوحدها ولكن كانت تحتلّ نفس المكانة في كلّ أوربا، في حين ظلّت الشرائح الاجتماعية العريضة بلغاتها ولهجاتها بعيدة عن هذه اللغة، تعيش في أمّية تامّة، ولم يكن في إمكان الحركة الثقافية المستنيرة في فرنسا وأوربّا لتينة (Latinisatin) كلّ الشعوب الأوربية لأنّ ذلك يتطلّب جيوشا جرّارة من المعلّمين وحتى لو تمّ ذلك فإنّه كان لا بدّ من انتظار نتائج عمل أولئك المعلمين بعد جيلين على الأقل، وفوق ذلك فإنّ اللغة اللاتينية ذاتها انطبعت بطابع ديني جمودي وأصبحت لا تستطيع أداء الوظيفة العلمية ولا تصلح إلاّ للترانيم الدينية وتخدير العقول، بما تثيره من هوَس وانفعال عاطفي يعزل الفرد عن المكان والزمان ويوقعه في الأسر الغيبي.
أمام هذا الوضع تصدّى المستنيرون الأوربيون –رغم تحالف القوى الرجعية الدينية والأرستقراطية ضدّهم- للمسألة الثقافية بشجاعة بعيدا عن الوسطية الانتهازية والرجعية الجمودية، وعملوا على ترقية "اللهجات" التي أصبحت لغات قومية، فهذّبوها ووضعوا لها القواعد، ومنذ القرن XV ظهرت أولى النصوص بهذا اللغات ومنها اللغة الفرنسية التي كانت لهجة منطقة باريس وأخذت اللغات القومية تتطوّر مما جعل اللاتينية تنحصر في الكنائس أو في أوساط الترف الأدبي.
من خلال ما سبق نصل إلى النتائج الآتية:
•أنّ اللغة الفرنسية كانت لهجة، فسح لها المجال فتطوّرت ورسّمت لتصبح لغة فرنسا القومية.
•أنّ هذه اللغة لم تستورَد ومعها جحافل من المعلّمين من خارج فرنسا لممارسة المسخ والقهر اللساني على الأمّة الفرنسية.
•أنّ فرنسا رفضت اعتبار اللاتينية لغة وطنية قومية لها، لأنّها ليست كذلك فعلاً فهي لغة ليتورجية عالمية، لأنها مرتبطة بالدرجة الأولى بنصّ عالمي شمولي هو النصّ الديني المسيحي.
•وفوق هذا ، فإنّ فرنسا اللائيكية لا يمكن أن ترسّم لغة طقوسية كاللغة اللاتينية في نفس الوقت الذي تدعو فيه إلى فصل الديني عن المدني لكي يستمرّ الدين في أداء دوره الوجداني الأخلاقي بعيدا عن الاستعمال السياسي الانتهازي، ولكي يتحرّر العلم من الحصار الذي ظلّ رجال الدين يفرضونه على العلم ليبقى دائما مجرّد رجع صدى لنصوصهم الجامدة.
في الأخير نعتقد أننا قد كشفنا للقارئ الكريم المغالطة الكبرى التي يريد الدكتووووور عثمان سعدي تسويقها على أنّها الحقيقة، فإذا كان الدكتور يريد لنا أن نتأسّى بفرنسا – وهو الذي ظلّ يحذّرنا منها في جميع كتاباته- فلا نخاله يقصد أن نرسّم اللغة الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية قومية للجزائر وأن نبقي العربية دائما في إطار ليثورجي قدسي، لأنّ ذلك هو المعنى الوحيد للتأسّي بفرنسا في هذا الموضوع، وهو الموقف الذي اتخذته فرنسا المستنيرة وكان حريا بالجزائر غداة استقلالها ان تتأسى به للخروج من ظلمات القرون الوسطى والعودة إلى الذات الخلاّقة المبدعة لا أن تعيدنا إلى حالة التخلف التي أوقعت البلاد في قبضة الاحتلال الفرنسي أي أنّ منطق الإقلاع الحضاري الحقيقي كان يفرض اعتماد لغة متطوّرة تمتلك مفاتيح العلوم الحديثة وإعطاء الفرصة الكافية لتامازيغت لتنمو وتتطوّر في كنفها، ولو تمّ ذلك ما وقع الانهيار الذي نراه في مدارسنا وجامعاتنا وأكثر من ذلك حالة الدمار التي خلفتها الحرب التي يشنها الاسلاميون المدعومون من الأنظمة العروبية.

إن ما يدعو إليه الدكتور لا ينطبق مع ما تمّ في فرنسا في هذا الشأن، وهكذا استعمل الدكتور أدوات دحض وإثبات، تدعم عكس ما يريد دون أن يشعر، لأن المنطق لا يستقيم للمهاترات والأغاليط.


_____________________
(1) الجاهل لا يمتلك المعرفة المطلوبة فتكون مرافعاته إدانة له.
(2) نسبة إلى علي خشيم مناضل بعثي معروف بكتاباته التضليلية
(3) عثمان سعدي مناضل بعثي رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية في الجزائر معروف بكتاباته المعادية لتامازيغت والتاريخ الأمازيغي
(4) مختار العرباوي من تونس التحق هو الآخر بأيديولوجيا معاداة التاريخ واللغة الأمازيغية وقدّم دراسة في هذا المجال
(5) عابد الجابري من المغرب عبر في كثير من مواقفه على أن تامازيغت من الماضي المنتهي
(6) وكلمة اللهجات هذه عزيزة جدّا عليه وكثيرا ما استعملها لتحقير اللغة الأمازيغية والحطّ من شأنها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التاريخ لا يعود إلى الوراء
مختار ملساوي ( 2009 / 6 / 25 - 18:06 )
سيد حمدي حميد الدين مقالك جيد من ناحية دحضه لمواقف عثمان سعدي والتيار البعثي العروبي الذي كان من أبرز كتابه أيضا أحمد بن نعمان وحتى الوزير الراحل مولود قاسم. الغريب في أمر هؤلاء انهم كلهم أمازيغ من حيث الانتماء الراهن الشاوي والقبائلي، (طبعا مع إقراري أن أغلب الجزائريين هم أمازيغ، وإن تنكروا لأمازيغيتهم). وقد انجرف هؤلاء البعثيون (العلمانيون) وراء الإسلاميين نكاية في خصومهم. فما أقبحه عذر.
لكن هناك واقع جديد: هناك ملايين المتعلمين بالعربية، وأي مساس بها يعتبرونه من قبيل المساس بخبزة أولادهم، كما نقول، بغض النظر عن التستر وراء لغة الأجداد ولغة القرآن...
وهناك ملايين ممن يطالبون بالأمازيغية أيضا. فما العمل؟ هل يجب أن نبيد بعضنا البعض؟
أعتقد أنه لا مناص من الاعتراف بكل هذه الخصوصيات اللغوية وتطويرها وتشجيع الإبداع فيها. وهنا تجارب حتى فيس أروبا عن تعايش سلمي مثمر بين عدة لغات في بلد واحد.
تحياتي

اخر الافلام

.. تظاهرات في إسرائيل تطالب نتنياهو بقبول صفقة تبادل مع حماس |


.. مكتب نتنياهو: سنرسل وفدا للوسطاء لوضع اتفاق مناسب لنا




.. تقارير: السعودية قد تلجأ لتطبيع تدريجي مع إسرائيل بسبب استمر


.. واشنطن تقول إنها تقيم رد حماس على مقترح الهدنة | #أميركا_الي




.. جابر الحرمي: الوسطاء سيكونون طرفا في إيجاد ضمانات لتنفيذ اتف