الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الخامسة)

سعدون محسن ضمد

2009 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


ختم النبوءات

انتهينا حتى الآن من تحديد ثلاث صفات رأيناها نموذجاً للصفات (الذتية) الملازمة للنبوة. وهي صفات مندرجة بما سميناه بـ(سكة المميزات الذاتية)؛ كون النبوة تسير على سكتين: سكة المميزات الذاتية وسكة المصادفات والاقدار. وبالاكتفاء بالصفات الذاتية الثلاث يمكن لنا ان ننتقل لسكة المصادفات للتعرف على العوامل غير الذاتية (الخارجية) التي تساعد على انضاج ظاهرة النبوة عند النبي. لكن قبل ذلك لا بد من وقفة نوضح بها الغاية من هذه الاعترافات:
مع أن النبوة واحدة من أخطر الظواهر الإنسانية، ومن أكثرها تأثيراً بالتاريخ والمنجز والمصير البشري، إلا أنها ظاهرة مغلقة على نفسها، ولا يمكن اقتحامها وتشريحها من أجل الوقوف على حقائقها وأوهامها. ففي النبوة، ومن خلالها، يدَّعي النبي الوساطة بين الطبيعة وما وراءها.. بين الله والإنسان.. ولأن المطلق أو عالم الماوراء، الذي يتولى النبي تمثيله والنطق باسمه، لم يحدث له أن خاطبنا أو اتصل بنا إلا من خلال النبوة والأنبياء، فعليه لا يمكن لنا أن نعرف هل أن دعوى الوساطة أو التمثيل ممكنة أم لا، وإذا كانت ممكنة، كيف يمكن لنا أن نتثبت من صدق مدعيها؟
هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، لا يمكن الإجابة عنها بسهولة، لأن النبوة تجربة ذاتية، شعورية، يختبرها النبي بينه وبين نفسه، ويتدرج بمستوياتها معتمداً على أحكامه ومستخدماً (قدراته) التأملية الخاصَّة. بعبارة أخرى: النبي هو الذي يعتقد بأنه وصل لمرحلة النبوة، وهو الذي يعتقد بأنه أصبح قادراً على سماع الخطاب الإلهي، وهو الذي يعتقد بآهليته لترجمة هذا الخطاب لمستويات إنسانية.
في الظواهر (الإبداعية) الأخرى، يترك لنا المبدع نتاجات نستخدمها للتحقق من مستواه الابداعي. الفن التشكيلي إبداع، لكننا لا نحتكم إلى نفس الفنان في تحديد مستوى إبداعه، بل نستخدم لوحاته لتحديد هذا المستوى. نفس الكلام ينطبق على الشعر والشعراء والفكر والمفكرين.. وهكذا. لكن ادعاء النطق باسم الرب كيف يمكن التحقق من صدقه ومن مستواه؟ فكما قلنا أن دعوى النطق باسم الرب اقتصرت على الأنبياء، إذن تبقى دعوى النبوة غير قابلة للتحقق؛ وتبقى النبوة إبداع لا يترك ورائه آثاراً تنفع للتحقق منه.
المضمون الموجود في الكتب المقدسة لا يستطيع أن ينهض بمهمة اثبات صدق النبوة، لأن هذه الكتب هي نفسها تمثل الخطاب الذي تدَّعي النبوة الوساطة بنقله عن السماء؛ أي أنها هي المضمون المطلوب من النبوة إثباته. هناك ظواهر أو انجازات أخرى يمكن أن نعدها ملحقة بالنبوة، لكنها هي الأخرى لا يمكن أن تنفعنا في مسعى الحكم عليها. فكثرة الاتباع، مثلاً، ظاهرة ملحقة بالنبوة، لكنها لا تنفع في الحكم على صدقها، إذ كثيراً ما يتبع الناس فكرة وهمية أو داعية مخطئاً، والعكس صحيح، فكثيراً ما يُعْرِض الناس عن دعوة صادقة وداع نزيه وحقيقي. النازية فكرة عنصرية غير صحيحة، لكنها حضيت بأتباع كثر ومخلصين وبالنتيجة لا يمكن أن نعدَّ كثرة أتباعها دليلاً كافياً على صدقها وصدق الداعين إليها. أما المعجزات، فهي أحداث تاريخية منقولة من قبل أفراد لا يمكن بسهولة الوثوق بدقة نقلهم، كما أن بعد المسافة الزمنية يقلل من قيمة هذه الأحداث، وفوق ذلك فالمعجزة بحاجة لاختبارات علمية تؤكد أنها خارقة للطبيعة وغير قابلة للتكرار. خاصَّة وأن هناك الآن الكثير من الأفعال التي يقوم بها أشخاص ويبدو عليها أول وهلة أنها معجزات، لكنها لا تعود كذلك بعد الكشف عليها علمياً.
إذن النبوة ظاهرة مغلقة على نفسها، وهي بلا معطيات تدعم صدقها. ونحن هنا لا نستهدف تكذيب النبوة، بل نحاول تشريحها للوصول إلى فهم أعمق لها. خاصَّة وأن للنبوة آثاراً هي من الثبات والرسوخ بحيث تجعل من عملية إلغائها أو تكذيبها خالية من الجدوى والمضمون. فليست هناك ظاهرة أثَّرت في تاريخ البشر أكثر مما فعلت النبوة. هذا من جهة، ومن جهة أهم فإن النبوة تُشْبع الحاجة البشرية للتدين، أو للاتصال بالماوراء، وهذه الحاجة لا يمكن إلغائها بالتكذيب أو بغيره. وهذا ما يفسر استمرار ظهور أفراد يدَّعون الاتصال بالغيب أو تمثيله، مع أن كل الأنبياء تقريباً حرصوا على ختم النبوة وتحريم ممارستها. ففي الديانة المسيحية نجد النبوة مقتصرة على المسيح نفسه، بالتالي فالمسيحية لا تسمح بتكرار النبوة. الإسلام أيضاً ختم النبوة، وربما بشكل أكثر وضوحاً وصرامة من المسيحية. ومع ذلك فأن الناطقين باسم الغيب ما يزالون مستمرين. ولدينا في العراق الآن أكثر من داع يَدْخُل في هذا المضمون.
إذن تأتي هذه الاعترافات في سياق البحث بامكان الاتصال بالغيب وكيفيته، وأيضاً لتبحث في إمكان إثبات صدق النبوة، وقيمة البحث عن هذا الامكان وتحقيقه. وتأتي اهمية النظر للنبوة بعين صوفية، من أن التصوف أكثر الظواهر البشرية التصاقاً بالنبوة، بل النبوة تخرج من رحم التصوف. والمقصود بالتصوف هنا هو: كامل الفعاليات البشرية التي تتصل بالعرفان أو التأمل أو الاشراق وأيضاً كل الرياضات الجسدية والممارسات الطقسية الملحقة بذلك. ويجب أن لا يخفى على أي باحث في، أو متتبع لـ، النبوة، أن محاولات عزلها عن حاضنتها (الإشراقية) وحبسها داخل تابو يحرم البحث فيها، إنما هي عمليات تريد التعمية على ظاهرة النبوة ومفهومها وجعلهما خارج إطار الدراسة والتحليل. ومن الطبيعي أن تخرج مثل هذه الممارسة من داخل المؤسسات التي تجد أن بقاءها مرهون ببقاء الدين غائماً وغير مفهوم، لتبقى محتكرة لعملية تفسيره للناس. كما إن المؤسسات الدينية تعتقد بأنها مكلفة أساساً بحماية بنية المقدس من أي عملية تخريب، لأنها تعتقد بأن فكرة المقدس قائمة على الغيب والماوراء، ومن هنا فإن أي عملية تحليل لهذا الماوراء يمكن لها أن تهدم مبررات تقديسه، وهذا صحيح لأن فهم أي ظاهرة غريبة يتنافى مع بقائها غيبية أو ماورائية، كما حصل مع بعض الظواهر الطبيعية التي كان يُعتقد بأنها ظواهر ماورائية ولذلك كانت تُعامل معاملة المقدس. لكن بعد أن فُهمت هذه الظواهر ما عاد بالإمكان إبقائها في حقل الماوراء، الأمر الذي أدى بالنتيجة لإخراجها من حقل المقدس. لكن السؤال هو: هل يتعلق وجود الدين ببقائه غير مفهوم؟
من هنا تأتي أهمية هذه الاعترافات، فهي تعالج النبوة من داخل حاضنتها الحقيقية، أي من التصوف، مع التذكير بأن النبوة وكما قلنا تشبه الدائرة المغلقة، وهذا يسوغ القول بأنها كظاهرة يجب أن تُدْرس من داخل وليس من خارج، فليست هناك معطيات يتركها النبي ويمكن لها أن تنفع في دراسة دعوى تمثيله الغيب أو نطقه باسمه، ولهذا السبب نحتاج لمن اختبر التصوف ويستطيع أن يفهم كيف تحدث النبوات.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع