الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما جرى في أبي غريب ليس بغريب

ناجح شاهين

2004 / 5 / 2
حقوق الانسان


لم نقل يوماً إن شعباً من شعوب الأرض لم يمارس العنف ضد الشعوب الأخرى، ولا حتى ضد أفراده بالذات. لكن أين ذلك العنف " البريء " والساذج كما وصفه الرجال البيض عند حديثهم عن حروب " الهنود الحمر" من العنف الأبيض "الراقي" الذي يعرف هدفه كل المعرفة، فيقوم باجتثاث الناس من الوجود بشكل تطهيري عميق وشامل بحيث لا يبقي ولا يذر. وهو ما يسمح بإعدام شعب بأكمله أو حضارة بأكملها أو حتى قارة بتمام سكانها. لذلك فقد أصاب سياتل زعيم دواميش في خطابه للرئيس الأمريكي -ولعله أن يكون أبراهام لنكولن العظيم بالذات- يطلب منه أن يرأف بالحيوانات والأشجار إذ لا أمل في أن تحل شفقة بالبيض تجاه البشر " الحمر". لقد أدرك سياتل المسكين من مشاهداته الكثيفة أن الرجل الأبيض لن يرضى بأقل من إعدام السكان نهائياً وكلياً حتى تصفى " أرض الميعاد " نقية من " الأميين " بشكل تام.
هذه ليست مقدمة وإنما تسويغ لما كشفته وسائل الإعلام من قتل وتعذيب وحشي للعراقيين خارج السجون وداخلها: التعرية والكهرباء والاغتصاب والتجويع والتبول على رؤوس المعتقلين. ونود أن نقول في هذا الباب أن الرجل الأبيض بصفته جنساً، لم يكن أكثر سوءا ولا أقل سوءاً من الكنعاني أو الآشوري أو الفارسي أو الياباني. إنما يبدأ فصل جديد في الحضارة الإنسانية منذ أن دخل "كولومبوس " الملعب التاريخي والجغرافي. نعم لقد كان المشهد الأوروبي حافلاً بالعنف، وخصوصا ضد المثقفين: من منشقين وملاحدة وفنانين وعلماء..الخ. لكن المشهد كان أيضاً حافلاً بأخلاق الفروسية التي تجد أن أي عنف يجب أن يكون مقبولاً من النواحي الأخلاقية. لقد كان الغطاء الأيديولوجي ضرورياً. وكان قادراً على ضبط حدة العنف وخصوصاً مدى اتساعه " وجماهيريته ". كان الناس في النهاية خراف الرب، وكان يجدر بك أن تعيدهم إلى حظيرة الرب، وهذا كان يكفي لحفظ حياتهم.
بعد كولومبوس، كان المقترح العودة إلى العهد القديم وإرضاء رب الجنود بالتخلص من كل " الغوييم " وتنظيف البلاد من أجل أن تكون خالصة للمؤمنين، خصوصاً أنه كان بالإمكان إحضار " زبائن " غيرهم من أفريقيا ليقوموا بخدمة مشروع الرجل الأبيض. لقد كان المشروع أكثر وضوحاً مما يتوهم البعض، وما كان كلام الرب أكثر من قشرة خارجية. كان المقصود البحث عن الثروة. وكانت الرأسمالية نطل برأسها بجرأة ووقاحة جديدتين على البشرية. لذلك لم يكن هناك مجال لحفظ العهد أو الوعد أو الرأفة بالأطفال وما إلى ذلك. وعلى من نسي أو أنه يجهل ذلك التاريخ القريب أن يعود للكتب الكثيرة جداً في هذا السياق مثل: " فتح أمريكا " لتودوروف أو " 501 الغزو مستمر " لتشومسكي، ليجد كل أصناف القتل العجيب للأطفال والنساء قبل الرجال. إن تحويل القتل إلى مهنة-وظيفة على نطاق استثماري لم تحصل من قبل أبداً. فقد تشكلت شركات متخصصة في قتل الهنود التعساء. وكانت الجمجمة التي تخص الرجل تبدل بمائة وخمسين جنيهاً –أي مبلغ هائل؟ – في حين أن المرأة والرجل أقل من لك. كان زمناً رائعاً لجمع ثروات طائلة تأسست على هديها شركات السلاح والمال المعاصرة. إنه زمن يحن له ديك تشيني وكونداليزا رايس دون أدنى شك. فهل يا ترى أحس أعضاء مجلس الحكم الأمريكي بأن هناك دماء تنزف في العراق أو في غير العراق؟ واضح أن السؤال غير ذي موضوع أبداً.
لم تضل أوروبا طريقها أبداً منذ بداية النهضة الحديثة. وقد دفع الناس في تلك البلاد الضريبة المستحقة للثروة. وتحول الربح إلى هدف أسمى. وقد دخل المال مرحلة الترميز والتأليه. وهو ما لم يغب عن مفكري الاشتراكية من جيل الآباء مثل سان سيمون وماركس. اليوم، هل تغيرت الرسالة عندما تم تزيينها بعلب ماكياج من ماركة حقوق الإنسان؟ لا نظن ذلك. وعلينا أن نتابع أن الصراع الكلاسيكي الذي مهد للحرب الإمبريالية الأولى سنة1914 يعود اليوم بقوة مع اختلاف بسيط: إن هناك قوة كبرى هائلة تفرض نفسها على الجميع تدعى الولايات المتحدة. ما عدا ذلك هناك صراع خفي وعلني لاقتسام كعكة المستعمرات. الآن تتركز هذه الكعكة في شكل سائل كريه الرائحة يشكل لعنة العروبة منذ مطلع القرن العشرين. إنه بطبيعة الحال زيت النفط.
دخلت رأسمالية الولايات المتحدة الساحة العالمية رسمياً في الحرب الإمبريالية الثانية. قبل ذلك كانت ترتب البيت الأمريكي المحلي: تنظيف ما تبقى من سكان البلاد الأصليين وتحرير العبيد..الخ كذلك كان عليها تطهير غربي الكرة من الأسبان والفرنسيين والإنجليز لكي تصفو القارة " لأهلها". بعد ذلك جاءت مرحلة قصيرة لتلمس موضع القدم، ثم تمددت بقوة ووضوح مرة واحدة. وعندما كشف رأسمال الصاعد عن وجهه لم يترك للناس المجال للتكهن، فقد ضرب " الأعداء " بالقنبلة النووية دون الحاجة إليها. طبعا تم اختيار طرف بعيد عن الرجل الأبيض، ويبدو العزاء فيه بارداً نسبياً ونعني به اليابان. هل أقول إن الولايات المتحدة حاقدة على العراقيين لأن نظام صدام لم يمتلك ولو عشرة غرامات من أسلحة الدمار الشامل لكي تسوغ تجريب أسلحة جديدة مثل قنبلة هيدروجينية تكتيكية محدودة أو ما أشبه.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب الثانية وهي تعرف طريقها خير المعرفة. ولذلك أعلنت بسرعة معركة أبدية لا مكان فيها للعواطف الطيبة على الاشتراكية المزهوة بنتائج الحرب ذاتها. ودون تردد قمعت تطلعات بريطانيا وفرنسا للعودة لأمجاد الماضي عام 1956. وعندما أخلت عجائز أوروبا مواقعهن في المستعمرات قسراً حل الاستعمار الأمريكي بوجه جديد مكانهن. ما عدا في حالات قليلة مثل فيتنام " اضطر " الأنكل سام إلى التدخل المباشر. ولست في حاجة إلى شرح القتل الرهيب الذي تعرضت له فيتنام أرضاَ وشعباً وحيواناً ونبات ثمنا للحرية. فقط نقول إن كل أنوع المبيدات قد ألقيت على رأس فيتنام المسكينة. لاحقاً وبعد التحرير سوف ُتعير فيتنام باستمرار بأنها بلد متخلف عن جيرانها في هونغ كونغ أو كوريا الجنوبية. ولن يتذكر أحد في " الغرب " أن اثنين ونصف مليون إنسان قد قتلوا، وأن ملايين الدونمات قد تلوثت وخربت إلى الأبد. لا وقت للبيض للتذكر خاصة عندما أفصحوا عن هوية عنصرية تبدو تعصبات القرون الوسطى أرحم منها من زوايا عديدة. حقاً أن للإنسان حقوق شريطة أن يكون أوروبياً أو من نسل القارة، أما بقية خلق الله فهم في مرتبة ما بين القرد والإنسان ولا ضير في أن يقتلوا بأعداد معقولة، وأن تمارس بحقهم أنواع التجارب الطبية والفيزيائية والتاريخية ..الخ
من دواميش إلى هيروشيما إلى ماي لاي (قرية فيتنامية أبيدت بالنابالم) إلى مشافي قندهار ومعتقلات كابول التي قصف فيها الناس ليموتوا في القيود أو على سرير " الشفاء " وصولاً إلى أبي غريب هناك لحظة واحدة هي لحظة الرأسمال يقطر دماً من رأسه حتى أخمص قدميه، لكي نترك ماركس يعبر عن اللحظة كما شاهدها وما زلنا نشاهدها مثله. ما الذي يجري في العراق إذن؟ إنه تواصل مسلسل الموت من أجل الربح الذي يشكل أسمى حقوق الإنسان. فهل تفاجأنا بما شاهدناه من صور وحشية؟ كلا البتة. نحن ضحايا الوحشية الصهيونية المدعومة أمريكياً نعي جيداً أن ذلك كله كان يحدث طوال الوقت، وأنه سيحدث طوال الآتي ما لم نتمكن من سن مدى المقاومة بكافة أشكالها بغرض تقويض الخيار الرأسمالي. فالوضع لا يحتمل إلا أحد خيارين: إما الاشتراكية وإما البربرية. وبانتظار بناء خيار إنسانوي اشتراكي يجب أن ُتقاوم الماكينة الوحشية للرأسمالية بكل السبل الممكنة. ويجب في هذا السياق أن ُتطرح كل الأوهام جانباً. وربما أن كشف هذه الصور المريعة يجعل العراقيين والعرب وكل أحرار العالم أقدر على تحديد رؤيتهم بوضوح أكبر، وبدرجة تكفي لدحر آخر موجات التتار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكيون يتظاهرون أمام البيت الأبيض للمطالبة بوقف حرب إسرائي


.. ليبيا.. ترحيب بأوامر اعتقال بحق ستة أشخاص متهمين بارتكاب جرا




.. -الخسائر بلبنان غير مقبولة-.. المتحدث باسم الأمم المتحدة: أو


.. موفدة العربية ترصد تطورات التصعيد على الضاحية ومأساة النازحي




.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - ‏الأمم المتحدة تدين العدوان الإسر