الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاهد، المستبطن الرائي

عباس بيضون

2009 / 7 / 5
الادب والفن



في تعليق وليد صادق على اللوحة اليمنى من ثلاثية مملينغ «زواج القديسة كاترين بالروح» يتساءل «هل يسع القديس يوحنا أن يظل شاهداً، أيسعه ان يستمر في الكتابة مستبطناً ما يحيله هو حدثاً، تساؤل يصح مدخلاً لمعرض «طريق السلم، لوحات من زمن الحرب 1991ـ 1975» الذي نظمه صالح بركات في «مركز بيروت للفن». لماذا «طريق السلم» أليس في هذا العنوان اعتذار عن استذكار الحرب واسترجاع فظائعها. انه لطف يخرجنا من موقع الشاهد وموقع المستبطن، الى «طريق» ليست بعد مكاناً. إذا كان من الصعب ان يكون المرء شاهداً ومستبطناً ما غدا هو حدثاً له او استقبله في داخله، هل يسعه ان يكون في ذات الوقت رائياً لما بعده، أي في خارجه. يثير عنوان صالح بركات إشكالاً آخر، بالإضافة الى الشاهد والمستبطن هناك ايضاً المتنصل. الأرجح ان عنوان بركات الذي يبدو لأول وهلة مجاملة للحاضر ليس مجرد لياقة فهو «هفوة» بالمعنى الفرويدي للكلمة قد تؤشر الى مستور في إشكالية العلاقة بالحرب.
لا يفيد كثيراً التساؤل إذا كنا حقاً على «طريق السلم» لكن كلاماً كهذا بعد 7 أيار ولا نقول بعد حادثة «عائشة بكار» بالأمس قد يؤشر الى أمر آخر هو الخوف من أن تكون الحرب لا تزال موجودة. إنه، بهذا المعنى، سحري الى حد. بركات يقدم الحرب مع تعويذة يؤمل معها ان لا تعود بمجرد استذكارها. لكن هذا حد بسيط للمسألة, السؤال ينبغي ان يطرح على الفنان نفسه، الفنان اللبناني الذي واجه الحرب، التي باغتته وهو لا يزال في العصر الماتيسي او أي عصر آخر. الفنان الذي كان حتى ذلك الحين يستبعد العنف من عمله، ويستبعد الحرب بالتالي. لا يمكننا جمع الفنانين اللبنانيين تحت تصنيف واحد، اذ لا يسعنا في الأصل رصد مزاج لبناني خاص في هذا الباب او لحظة لبنانية. التنوع الذي يدحض كل جمع قد يكون خاصية، استضافة شتى الأساليب تقريباً تتم بنوع من اللاتزمين ومن عزلها منها عن ثقافاتها وظروفها. هكذا تغدو «أشكالاً» فحسب، تُنزع اشكالاتها وتتعرض في الغالب لتحلية وتبسيط وانتظام وتواز. هناك بالطبع استثناءات بل إرهاصات بفن اشكالي صارم اكثر تركيباً.
كانت الحرب بالتأكيد سؤالاً ثقيلاً على الفن اللبناني الذي لم يعتد ان يُدخل جثة الى المنزل او يجازف بسهولة بترتيبه وانتظامه وإغوائه. لذا تحضر فوراً ثلاثية وليد صادق وصالح بركات. أي ثلاثية الشاهد والمستبطن/ الحدث والرائي الى المستقبل.
يتراءى لنا ان الفنان اللبناني اصطدم بالحرب، لقد وجدها على طريق لم يكن جاهزاً لها اصلاً. كانت بالنسبة إليه نازلة وقعت عليه من حيث لا يحتسب ولم يفهم. هي هكذا لم تتحول الى موضوع ولم تتحول الى تجربة من أي نوع. كان الفنان ينفي نفسه منها كلما فاز بها. كان يغطي وجهه لكي لا يراها. لم يكن شاهداً بهذا المعنى، إنه فقط المرعوب، بينه وبين الحرب جسده وحواسه وفكرته، من هنا يصعب قياس المسافة. يتراءى لنا انه لأول وهلة ان الانفجار في جسده لكن نفهم بعد قليل ان المسافة غير موجودة لأن لا مكان أصلاً. الاستدعاء الميلودرامي للون الأحمر او التحوير في لوحة مونش بحيث تغيب الشهادة الحاضرة في «الصرخة» ويتحول الوجه الى الموت نفسه، الى الحرب ذاتها، فتضيع الشهادة تماماً، ويتلبس الشاهد شهادته. الفريسك المكسيكي الذي ترتصّ حشوده في لا مكان تقريباً اذ تستعصي هذه على ان تؤشر لأي خراب او قطيعة او فراغ، الامتلاء الفريسكي والدراما الفريسكية والحشد الفريسكي جزء من ملحمة تقع في مكان آخر او في لا مكان أساساً كما قلنا. ثم هناك بالطبع المانكان الشيروكي (شيريكو) محطماً او غير محطم مع ميتة ميلودرامية. يصعب في حال كهذه ان نبحث عن شاهد او شهادة. إذ ان الحرب هي كلياً في الخارج. إنها اصطلاحية الى ابعد حد، وما يظهر منها هو بلاغتها البالية، إنها تقول نفسها، في قاموس متواتر، بدمائها وجثثها وموتها، تقول اكسسوارها وكأنها لا تمر بعين أو رؤيا.
الشاهد لا يرى تماماً. انه يرى ويعاين ويعاني الحرب عبر اقنعتها. انه يقولها بلسانه بدون ان «تحدث» فيه. إذا لم نجد الشاهد فقد نجد «المُعْلم» او المذيع فهنا علم وخبر يتلقيان بلغة جاهزة او مسلوكة. تبدو الحرب فوق طاقة المعاينة او المعاناة، انها فقط الصدمة والهول والجثة. ما ان تكون المواجهة حتى يتم اللجوء الى وسيط، الى لغة ثالثة، الى شاهد أسبق.
إذا غاب الشاهد فإن المستبطن قد يعز وجوده ايضا، المستبطن لا يتذكر ولا يعاين ما دامت الحرب تحدث فيه. انها جسده ولحظته وداخله، لا يستطيع ان ينفصل عنها او يواجهها. هنا لا يعني الصمت شيئاً آخر. لا اعرف إذا كان اللجوء الى نحت معدني من شظايا الحرب او من معدن العبوات استبطان ام انه يندرج في خانة أخرى، هي خانة الرائي الى المستقبل. قيل في تفسير اللجوء الى نحت كهذا اننا هكذا ندمر الحرب بالحرب ونصنع من الشظايا القاتلة جمالاً، أي بعبارة اخرى مادة للسلام. نحن هكذا على طريق السلام مجدداً اكثر منا في الاستبطان، ربما ينفع لذلك عنوان بركات للمعرض. «طريق السلم» أي طريق الخروج من الحرب لكن قبل الدخول فيها.
توقظ الحرب على المدينة. نحن لا نراها هكذا ولكننا نرى الناس غير المقتولين بالضرورة. الناس لا الحشود ولا الصفوف المتراصة ولا الملاحم، الناس على الجسر، الناس تحت الجسر، نرى الإنسان والحجر او الإنسان مشتبكاً بالحجر. او نرى حقيبة او رداء مرفوعاً على فراغ رجل وفراغ كرسي. ولا نفهم لماذا نرى في ذلك شهادة، مع اننا لا نرى الحرب ولا نشعر بها في اللوحة. ان نعيد اكتشاف المدينة فلأن الحرب في مكان ما خارج اللوحة ولأن الحرب هي اتحاد المرء بالمكان، تشظية المكان ايضاً وتحويله الى بطاقات ويوميات وأجزاء جسدية قد تكون أيضا إعادة اكتشاف الشارع والحشد (غير الملحمي)، ثم قد نفكر بذلك التصدي المباشر للحرب، بالطموح لقولها دفعة واحدة ولو كغرنيكا محلية.


عن الحياة اللندنية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بحاجة لايميلك مع التحية
سليمان سليمان ( 2009 / 7 / 4 - 22:51 )
شاعرنا اللامع

استاذ عباس بيضون
ارجو منك ارسال ايميلك الي

لمراسلتك
لك مني كل الشكر
اخوكم
سليمان

اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب