الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدرس السادس عشر في التربية الشيوعية

حسب الله يحيى

2009 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


كان أخي وعد الله يحيى النجار ؛ يعرف جيداً أن عائلتنا تعاني من فاقة مزمنة ، وأننا بالكاد نسد رمقنا اليومي .. فكيف إذا كان الحال مع سجين سياسي يفترض أن نقدم له في كل مواجهة وجبة من الطعام ، بحيث يتلاءم وطبيعة نقل الطعام الى سجين يفتقر طعامه اليومي في السجن الى النوعية الجيدة والطعام الذي يحبه ويتوق الى تناوله ؟
كان وعد الله .. يعرف جيداً اننا نقتر على انفسنا حتى ننقل اليه الطعام وهو في السجن كأفضل مايمكننا اعداده وتقديمه .
كانت امي بالكاد توفر روث بقرة البيت الوحيدة لتشعل ناراً تعده لطعام الغد .. مثلما تعده كذلك لتنورها الطيني .. وتبدأ عملها فجراً وقبل يوم من المواجهة ..
كنا نشم رائحة الطعام فيسيل لعابنا بدون ان نقول شيئاً أو حتى أن نمني أنفسنا بتذوق ذاك الطعام اللذيذ الذي كانت أمي تطبخه بطريقة يثير الشهية .. وفي العادة كان يحدد في أحد الاكلات الثلاث : الباجة ، كبة الموصل ، خبز العروق المملوء باللحم المثروم .. وهي الاكلات التي كان يحبها أخي ويباهي السجناء باعداد أمي لها ..
ولكنه مع الايام وبعد أن طال أمد سجنه .. صار يلح علينا أنه ممنوع من تناول الوجبات الكثيرة الدسم وبخاصة الاكلات الثلاث التي يتوق لها وينتظر جلبها اليه ..
كنا نعرف أن صحته العامة جيدة ، وليس هناك طبيب يمكن أن يوجه النصيحة الى سجين ويدلله ويختار له الطعام المناسب .. لكن وعد الله ما كان يريد إحراجنا ، لا أن يكسر بخاطر أبي ولا ان يؤكد له فقره ومعاناته وأمكاناته ومشقته من اجل توفير هذا الطعام أثناء المواجهة في حين يحرم نفسه والعائلة بكاملها منه ..
ولما فشلت جميع حجج ودعوات أخي في ثني أبي عن أحضار أفضل مايمكن من الطعام الجيد الذي يرغبه ؛ راح وعد الله يبحث عن سبيل يساعد فيه أبي على محنته المعيشية .. وأخذ يزودنا في كل مواجهة بلوحات ملونة منسوجة من زجاج النمنم ، أو جوارب صوفية او ألياف للاستحمام أو حلي مصنوعة من النمنم ، او حقائب صغيرة منسوجة بخيوط ملونة مطرزة بالنمنم ، او أحذية منسوجة او عرقجين للرأس للكبار بلون أبيض وللصغار بألوان عدة .. ويطلب الينا بيعها خارج السجن .. او يعطينا نقوداً مدعياً أنها من مبيعات مثل هذه الحاجات للسجناء ، طالباً منا شراء خيوط ونمنم .. حتى يواصل العمل داخل السجن .
كنا نعرف أن وعد الله ما كان يتقن مهنة الحياكة والتطريز أبداً ، وما كان به ميل الى إشغال وقته في هذا النوع من العمل .. وإنما كان وقته داخل السجن - على طوله - وخارج السجن -على قصره - مملوء جله في قراءة الكتب ، وهذا هو شاغله الاساس .
سأله والدي :
- وعد الله أبني .. من قال لك انني احتاج الى عملك وانت سجين .. هل يعقل هذا ، وهل يمكن لسجين ان يساعد أهله على الحياة وهم خارج السجن وهو داخل السجن ؟
إعتذر وعد الله بخجل وقال لأبي مخففاً من الاحراج الذي أوقع نفسه فيه وأوقع أبي في محوره:
- ياب .. والله ، في السجن الوقت طويل ويصعب عليّ ان أظل بلا عمل .. عملي أقضي وقتي به..
يؤكد أبي :
- إبني .. الرزق موجود ، والحياة ماشية .. لاتشغل بالك .
ويضطر وعد الله للتصريح :
- حسيب ما زال صغيراً ، وانا إبنك الكبير ، ومهنتي مساعدة عائلتي على إحتمال أذاهم بسببي،ومشاركتكم في الاحتمال على هذه الحياة البالغة الصعوبة .. ومثلي يجب أن يعمل حتى في أصعب الظروف المحيطة به ..
لاينبغي على الانسان العيش عالة على غيره ..
- إبني وعد الله .. نحن لسنا الغير ، نحن أهلك .
أكد وعد الله :
- وإن كنتم اهلي .. وعندما إخترت دربي ، لاينبغي ان أحملكم عبء هذا الاختيار ، ولاينبغي ان أثقل عليكم وانغص عليكم الحياة .. لابد لي من اعانتكم مادمتم تشاركوني السجن وانتم خارجه،فان الامر يقتضي ان أشارككم مشقة الحياة وانا داخل السجن .. لاينبغي للمرء ان ينصرف للعكس في وقت يملك القدرة على العمل .. والعمل موجود والمرء له القدرة على ابتكار العمل الذي يناسب ظرفه وقدرته .
رأيت وعد الله ينظرني بشكل خفي .. وإكتشفت نظرته فأبتسمت وقلت :
- وعد الله .. إطمئن إنني اساعد أبي في عمله .. إنني بت قصاباً مثله ويمكنني التمييز بين اللحوم وجودتها ونوعها ..
ضحك وعد الله بإشراق .. وسرتني ضحكته ، وسرّت أمي التي إحتضنت اخي بلهفة وفي عينيها دموع حارة .. كأنما كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتقبله حتى قبل إنتهاء مدة المواجهة وكأنما كانت تعد تلك القبلات بمثابة كسب مضاف الى بدء المواجهة التي تكون في العادة مغمورة بالقبلات .
وراح أخي يتحدث عن مهنته الجديدة في محاولة منه لأن ينسينا جهده داخل صورة بهيجة لعمل مفتون به .
كنت انا الصغير أحس بهذا .. فكيف لايحس به أبي الخبير بدراسة كل زبون يمر في السوق ، وأمي التي تعرف بفطرتها ما بداخل الآخرين من دون أن تتكلم أو تبوح بما يجري في بالها ..
كنا نعرف جيداً .. كم يجهد اخي نفسه في العمل وهو السجين الذي يعاني من ضغوط نفسية حادة نتيجة للقضبان والاقفال الصدئة والجدران النتنة والايام الثقيلة والغد المجهول .. حتى يوفر للعائلة مبلغاً مادياً وإن كان ضئيلاً ، لكنه جهد ومشاركة ودعم لحالة نمر جميعاً بها وننوء تحت ضغوطها الصعبة ..
كنت أتنبه الى أن وعد الله يعمد الى إعطائي انا بالذات درساً في العمل .. وكيفية إستثمار الوقت وفي المساعدة حتى في أصعب الظروف ، وكيف يجعل وحدة العائلة قائمة ، وان وجوده بيننا قائم ومستمر وفاعل وهو يعاني من ضغوط السجن وعقدة الانتظار التي ينوء تحت ثقلها مثلما نجد أنفسنا وقد عجزنا حتى عن إحتمال ثقل هذا الانتظار وقد حولناه الى طقس عادي من طقوسنا في زيارة السجن كل إسبوعين .. وأمامنا ان نعد انفسنا لهذه ( المناسبة السعيدة ) التي تحولت من ثقل يرهق العائلة نفسياً ومادياً الى لقاء حميم وعمل يغنينا على البقاء مدة اطول نستعين بها على تقديم إضافات جديدة للطعام كالفواكه والحلويات .. وكان وعد الله يجد نفسه في حرج جديد ورغبة ملحة في العمل بشكل مضاعف حتى يجعل العائلة في حلٍ من ثقل المواجهة وضغوط الحياة .
كان وعد الله يحقق حضوره بيننا في كل لحظة ، عبر عمله المنتج وشغفه أن يكون عنصراً منتجاً ، لا عاطلاً ، يثقل بمبدأيته ومواقفه السياسية على أن يكبد العائلة المزيد من الاذى ..
هكذا كان يرى وجوده ، وهكذا كنا نتبين المبايء الشيوعية التي ينتمي اليها وهي تدفعه للعمل والاستعانة على الصعب بالجهد والعمل والأمل ..












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هذا مايميزهم عن البرجوازيين
ابو علي ( 2009 / 7 / 5 - 20:22 )
نعم ان الثقافة الشيوعية هكذا وان الشيوعيين هم المضحين وفي قمة الاخلاق النبيلة دائما ,هذا مايميزهم عن البرجوازيين

اخر الافلام

.. إسرائيل تؤكد إصرارها على توسيع العملية البرية في رفح


.. شرطة نيويورك تعتدي على مناصرين لغزة خلال مظاهرة




.. مشاهد للدمار إثر قصف إسرائيلي على منزل عائلة خفاجة غرب رفح ب


.. أحمد الحيلة: قرار الجنائية الدولية بحق إسرائيل سيحرج الدول ا




.. في ظل تحذيرات من تداعيات عملية عسكرية.. مجلس الأمن يعقد جلسة