الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرة الدستور العراقية المغلقة

فلاح اسماعيل حاجم

2009 / 7 / 5
دراسات وابحاث قانونية


مما لا شك فيه ان عملية اعداد القانون الاساسي لاي دولة، او تعديله، لا ينبغي ان تكون خاضعة للصراع السياسي او المساومة بين القوى الاجتماعية المختلفة. بمعى اخر انه لا يجب ان يكون نتاجا وعاكسا للحالة الظرفية التي يعيشها المجتمع والدولة، بل ينبغي ان يكون ذلك وسيلة لتعزيز التوافق الاجتما – سياسي وتثبيت الاسس والمبادئ العامة التي هي من اولويات بناء الدولة الحديثة. واستنادا الى هذه الحقيقة العلمية يمكننا القول ان مصير الدستور العراقي (الدائم) لعام 2005 ومستوى واقعيته، او امكانية تحقيق بنوده (محتواه) لا يمكن، ولا ينبغي ان يحدد استنادا الى الالية التي تم سنه بها واستفتاء الشعب عليه، ذلك ان هذه الوثيقة، التي يطلق عليها جزافا (الدستور) جاءت نتيجة لمساومة عسيرة لحلقة صغيرة من قوى مختلفة الجذور والمشارب.
ولذا فليس من العجب ان لا تتمكن بنود هذه الوثيقة من تلبية الحد الادنى من طوحات المكونات المختلفة للمجتمع العراقي (القومية والدينية والطائفية ...الخ).
من هنا الاتهامات المتبادة بين الاطراف بمخالفة الدستور او تجاهل قواعده. ومن هنا ايضا يمكننا القول ان ما يطلق عليه الدستور الدائم لا يعدو ان يكون وثيقة غير مكتملة اصبح اعتمادها يثير اشكالات اكثر مما يطرحه من حلول. فدستور الدولة عادة ما يكون معرضا للخرق، اما في اوقات الازمات السياسية (غياب الدولة الفاعلة القادرة على حماية قانونها الاساسي)، او حينما تكون قواعد الدستور ذاتها قابلة للاختراق، وهو الامر الذي يمكن تلمسه في الحالة العراقية الراهنة، حيث تتيح قواعد (الدستور) العراقي تفسيرها بالشكل الذي يتناسب مع رغبة ومصالح هذا الطرف او ذاك من اطراف العملية السياسية، وهو الامر الذي يشير ايضا الى تعدد مراكز السلطة بالشكل الذي يفقد الدولة واحدا من اهم عناصرها، الا وهو وحدة السلطة، القادرة على جعل تشريعاتها سارية في جميع مناطق البلاد. وربما يكون من المفيد هنا التاكيد على الفشل الكامل (للقانون الاساسي) العراقي الراهن في تنظيم العلاقة بين الدولة المركزية وأطرافها (اقليم كردستان والمحافظات العراقية الاخرى). وعليه ربما يكون من المجدي القول ان السائد في العراق اليوم هو دائرة دستورية مغلقة ينبغي السعي الجاد للخروج منها والانطلاق لاجراء تعديلات جذرية على هذه الوثيقة،ان لم نقل الغائها والبدء بعملية دستورية جديدة، وذلك باعتماد وثيقة مؤقتة تؤمن تجاوز اشكاليات المرحلة الانتقالية في البلاد وتعقيداتها.
لقد بات من الواضح الان، وبعد مضي ست سنوات عجاف على اسقاط النظام الشمولي، ان القوى التي تطالب بادخال تعديلات دستورية هي ذات القوى التي سعت الى تمرير هذه الوثيقة الدستورية، بالاضافة الى القوى التي لم تتمكن، بفعل الظروف المعروفة، من المساهمة في اعدادها، أو تلك التي ضمت فيما بعد الى عملية صياغة (الدستور) كممثل للمكون (السني)، وهي قوى لا يمكن ان يشك أحد بالخسارة التي لحقت بجزء كبير منها بسبب اسقاط النظام السابق. غير ان دائرة المطالبين بادخال تعديلات على الدستور الحالي باتت تتسع لتشمل السلطة ذاتها، أو لنقل قطبها الاهم، وهو رئيس الوزراء (اهم سلطة في النظام البرلماني) ذلك انه (رئيس الوزراء) اكتشف، خلال عملية بناء الدولة واستكمال مؤسساتها ان ذلك سيكون مستحيلا في ظل وثيقة ليس بامكانها توفير الحد الادنى من المقدمات الاساسية لذلك البناء.
فيما تقف قوى اخرى بشكل قاطع ضد ادخال التعديلات، ولا زالت تنظر الى القانون الاساسي ليس كعقد اجتماعي لتنظيم العلاقات، التي تؤلف الدولة احد اطرافها الرئيسية، بل باعتباره احدى ادواة الصراع السياسي المرحلي (الظرفي). وهذا ما يفسر اخفاق لجنة التعديلات الدستورية في التوصل الى نتيجة ما، رغم انقضاء الفترة الممنوحة لها دستوريا (المادة 142).

وعلى العموم فانني ارى ان هناك خيارين للخروج من الدائرة الدستورية المغلقة هما خطوة راديكالية تتمثل بالغاء الوثيقة الحالية وسن مسودة دستور جديد للبلاد. او تعديل الدستور بالشكل الذي يجعله مؤهلا لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وهذا بالتحديد يتطلب جهدا استثنائيا. وربما كان هنالك خيار ثالث، سيكون الاكثر جدوى، على الارجح، وهو اعتماد وثيقة دستورية مؤقتة، على شاكلة قانون ادارة الدولة العراقية المؤقت، تؤمن الانتقال من المرحلة الانتقالية الى مرحلة سن واقرار الدستور الدائم. غير ان كلا الخيارين المطروحين يبدوان بعيدي المنال في ظل تناسب القوى الراهن ونوعية القوى المؤلفة للمشهد السياسي الحالي في العراق.
وفي جميع الاحوال فان ما قامت به لجنة التعديلات الدستورية من عمل لا يعدو ان يكون عمليات تجميلية، ربما تسعى الى تأجيل انفجار القنابل الموقوته التي وضعها المشرعون والقائمون ورائهم، في جل مفاصل (القانون الاساس) لدولتنا.
ان سن دستور جديد لدولة العراق يتطلب توفر جملة من الشروط، اعتقد ان مشروعية الدستور ستكون موضع شك بدون الالتزام به.
من بين تلك الشروط:
اولا- اقرار قانون جديد للانتخابات والاستفتاء يضع الضوابط الرئيبسية للعملية الانتخابية، بما في ذلك الاجرائية منها. ويحدد المبادئ والاطر العامة التي يتم على اساسها تنظيم الانتخابات والاستفتاء، بما في ذلك اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة، وذلك لتاكيد وحدة الدولة من جهة والحيلولة دون بروز نزعات انفصالية، سيما وان العراق محاط بواقع جيوسياسي قد يوفر الارضة المناسبة لتلك النزعات.
ثانيا- تضمين الدستور الحالي، أوالقادم (المزمع سنه)، قواعد لالية مرنة لتعديل الدساتير اللاحقة، شريطة الحفاظ على المبادئ الاساسية الكفيلة بتأمين بناء دولة مدنية ديموقراطية، يتم فيها تداول السلطة سلميا، ذلك ان وضع الدولة العراقية الراهن، وحتى مستقبلها على المدى المنظور، سيكون متغيرا بصورة مستمرة وجذرية، الامر الذي سيتطلب اعتماد قوانين اساسية قادرة على ادارة حركة الدولة والمجتمع. بالاضافة الى ذلك ان الالية المعتمدة لتعديل (الدستور) الحالي مرتهنة بمصالح القوى الانية (الظرفية)، في حين ان وضع الدولة يتطلب سن قواعد صارمة تؤمن المصالح العليا المشتركة للمكونات الاجتماعية، على اختلافها.
ثالثا- اجراء الاحصاء السكاني العام في البلاد واتخاذ الاجراءات الكفيلة بالحيلولة دون التلاعب في اي عملية انتخابية او استفتاء عام.
رابعا- الاسراع بسن تشريع للاحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية يحدد الاطر والمجالات التي يفترض ان تتحرك ضمنها تلك الاحزاب والمنظمات، وبالشكل الذي يؤمن ضمان حرية العمل السياسي من جهة، ومن جهة اخرى يعمل على تامين الطابع الوطني لتلك الاحزاب والمنظمات ويحد من ارتهان مواقفها وسلوكها (البرلماني) خصوصا بالاجندات الخارجية. وهنا اجد لزاما الاشارة الى انه ينبغي ان تكون مسألة تحديد مصادر التمويل لمادي للاحزاب السياسية في مركز اهتمام المشرع العراقي.
خامسا- لقد كان تنظيم العلاقة بين المركز الفيدرالي والاطراف (اقليم كردستان والمحافظات الحالية) من الاشكالات الاكثر تعقيدا في عملية اعداد واقرار الوثيقة الدستورية العراقية. واذا ما اخذنا بعين الاعتبار بأن هذه الوثيقة كانت نتاجا للمساومة الضيقة والظرفية (ظروف ما بعد انهيار الدولة العراقية) بين (الاكثرية ) الشيعية الكردية سيتبين لنا انها خضعت منذ البداية لما يمكن ان نطلق عليه المتاجرة السياسية، وذلك على حساب الاهداف الاستراتيجية الكبرى (بناء دولة الحق والمؤسسات). وهنا أجد لزاما الاشارة الى ان ما يجري التاسيس له في العراق من شكل للدولة لا يمكن، باي حال، تسميته بالفيدرالية. فوجود منظومتين للامن والدفاع ومنع الجيش (الفيدرالي ) ليس فقط من التواجد على حدود الدولة، بل والاقتراب من مناطق تواجد (جيش الاقليم) يحوّل الحدود الادارية للطرف الفيدرالي الى حدود سياسية دولية. بالاضافة الى ذلك فان التعاقد مع شركات اجنبية واستقدام العمالة من وراء ظهر السلطات الاتحادية، وبدون موافقتها ...كل ذلك، وغيره الكثير، يجعل من الصعب اطلاق تسمية الفيدرالية (الاتحادية) على الشكل الراهن للدولة العراقية. وبديهي ان قضايا مثل الامن والدفاع والسياسة الخارجية والمالية ...الخ تعتبر من الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، وان الاخلال بها يدخل في باب التجاوز على السيادة الوطنية، وهو الامرالذي لا يمكن التساهل ازاءه بأي حال.
من هنا ربما يكون من المفيد اعداد عقد فيدرالي، والتوقيع عليه، لتنظيم العلاقة بين المركز الاتحادي وسلطات الاطراف، وبالشكل الذي يرسم حدود اختصاصاتها بشكل واضح وغير قابل للتأويل، ويؤمن وحدة البلاد ويعزز مكانة سلطاتها ويضمن علوية تشريعاتها الفيدرالية على كافة اجزاء الدولة العراقية دون استثناء. وهنا تجدر الاشارة الى ان العقد الفيدرالي يعتبر من الاسس القانونية المعروفة (اضافة للدستور) لبناء الدولة الفيدرالية.
سادسا – ان واحدة من المعضلات الاكثر حساسية وخطورة في الحالة العراقية الراهنة هي تنظيم العلاقة بين الدين والدولة. ففي بلد متعدد الاديان والمذاهب والطوائف والملل والنحل و...الخ يكون من الصعب، وربما من المستحيل، صياغة قواعد قانونية ملزمة لتنظيم علاقات الناس الوجدانية (الروحية) باعتبار ان تلك العلاقات هي وشائج شخصية، بالغة الخصوصية، يدخل التدخل فيها في اطار التعدي على قواعد الوثيقة الدستورية ذاتها، والتي وضعت مبدأ المساواة في مقدمة قواعدها. فتمييز الاغلبية العددية (الطائفية) لابد وان ينمي لدى الاخرين شعورا بالغبن والتهميش، وهو الامر التي نرى تجلياته بكل وضوح في الحالة العراقية الراهنة. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان ذلك التمييز لابد وان يوفر الذريعة للحركات المتضررة من العملية السياسية لاستثمار التمييز الطائفي (بالسر أو العلن) كورقة مهمة وبالغة الخطورة في اللعبة السياسية الحالية.
بالاضافة الى ذلك فان ست سنوات عجاف من تأريخ العراق السياسي اثبتت، وبما لا يدع مجالا للشك، ان من يمارس الفساد المالي والاداري وينهب قوت الشعب هم ليسو اشباح هلامية، وانما اشخاص معروفون، ان لم يكونو في دائرة صنع القرار في المؤسسة الدينية العراقية الحالية (الشيعية والسنية) فانهم مرشحون من قبلها ويحضون بدعمها المباشر، الامر الذي يوجه اكبر اساءة الى الدين، الذي ينبغي ان يكون منزها من الفساد وعلى الضد منه.
من هنا يكون الفصل (الايجابي) للدين عن الدولة واحدة من الخطوات الاكثر اهمية، في اي عملية دستورية، وذلك لحماية الدين من فساد الدولة، وحماية الدولة من القراءات الخاطئة للدين والمستخدمة له.
ان بناء العلاقة بين الدين والدولة، وبالشكل الذي يستثمر خزين التعاليم الدينية الهائل من القواعد الاخلاقية الايجابية، مع وضع شروط وضوابط سبقتنا اليها بنجاح الكثير من الدول (تجربة الدول الاسكندنافية – الدنمارك على وجه الخصوص)، أقول ان بناء تلك العلاقة سيوفر على الدولة والمجتمع الكثير من الجهد والوقت والمال، وخصوصا في مجال تربية النشئ، والكثير مما يخص الاسرة والمدرسة ... وغيرها.
انني ارى ان تحقيق النقاط الانفة الذكر سوف لن يكون ممكنا، الا في حال توفر الارادة الحقيقية والنية الصادقة في بناء دولة الحق والمؤسسات، ونقل شعار الدولة المدنية من اطار الدعاية السياسية الى ميدان وضع اسس تلك الدولة. بخلاف ذلك سيبقى العراق اسير دائرته الدستورية المغلقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دكتورنا العزيز فلاح اسماعيل جاجم ... تحية محبه وتقدير
كامل الشطري ( 2009 / 7 / 4 - 21:11 )
من حيث المبدأ اتفق معك واقول فعلا هذا الدستور لايمكن له ان يؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية يتم فيها تداول السلطه السياسيه ديمقراطيآ وسلميآ وعبر صناديق الاقتراع وتصان فيها كرامة وحقوق المواطن العراقي وتعمل على توحيد العراقيين ارضآ وشعبآ وتتعزز فيها الهوية الوطنية العراقيه
بعيدآ عن المحاصصات الطائفية والتوافقات السياسية والديمقراطية في اتخاذ القرارات المصيريه
وبالتالي فأن الدستورالعراقي بشكله الحالي لا يصلح لبناء هياكل واسس الدولة العراقية المدنية في المراحل القادمه
و ما تفضلت به من مقترحات لتغيير الدستور الحالي يدخل في سياق الامنيات التي يتمناها كل عراقي وطني مخلص وشريف وأسألك هل لدى القوى والكتل والاحزاب السياسية في الوقت الحاضرالقدره وبطابعها السياسي الطائفي القومي والمذهبي ان تقدم وتتخذ هكذا قرارات لتغيير الدستور. انا لا أظن هذا لان مانريده نحن
من الدستور ان يضمن حقوق كل مكونات الشعب العراقي ولكن ما ثبته القاده السياسيون في العراق ان يكون الدستور محاصصاتي يضمن حقوق شرائح عراقية معينة على حساب الشرائح الاخرى والاقوى هو الذي فرض شروطه ودونها في الدستور واقول لك وبصراحة ان الدستور الحالي لا يصلح ان نسميه دستورآ لأن الدستور الحقيقي هو الذي يقف في كل بنوده على مسافة واحده م

اخر الافلام

.. شبح المجاعة يخيم على 282 مليون شخص وغزة في الصدارة.. تقرير ل


.. مندوب الصين بالأمم المتحدة: نحث إسرائيل على فتح جميع المعابر




.. مقررة الأمم المتحدة تحذر من تهديد السياسات الإسرائيلية لوجود


.. تعرف إلى أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023




.. طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة