الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وحدة اليسار العراقي

خالد صبيح

2004 / 5 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


(ملاحظة عامة)
قد تباغت الحياة من لا يستطيع استشعار رهافة حركتها بالإقصاء والتهميش في زوايا مهملة ومنسية، لان ديناميكية حركة الحياة، وان لم تظهر جلية على السطح- والتقاط ذلك بحد ذاته اختبار جدارة خاص- تتطلب وبإلحاح ممن يعيشها المواكبة والتفاعل معها. وهذا يصلح في حياة الأفراد كما في حياة الجماعات السياسية والشعوب، فليس هناك في الواقع قيمة أو مكانة أو دور لأي كان يعطى مرة واحدة والى الأبد، فكل منجز في الحياة بحاجة، ولكي يستمر في نفس التطور وذات الاتجاه، إلى مستوى من الرهافة في تلمس متطلبات تقدمه وتطويره. وهذا إن بدا على مستوى الأفراد يحتمل بعض الجدل، بحكم ان من طبيعة الحياة الإنسانية الشيخوخة والتآكل، فهو كمعيار في حياة الجماعات السياسية يبقى قابلا للتجدد والديمومة طالما بقيت تلك المجموعة تهجس بحس التطور والتناغم مع معطيات الحياة المتجددة.
في هذا السياق ومن هذا المنطلق يمكن لكل جماعة سياسية ان تحاكم نفسها بمقاييس الاستجابة لمتطلبات الجديد في الحياة والواقع وان تحكم على منجزها وبالتالي اسمها ومكانتها وفق ما قدمته من إجابة على أسئلة الواقع المتغيرة وليس بالاعتماد، فقط وبشكل أساس، على ارثها أو عراقة اسم نحتته جهود وعقول من واقع وقدرات وظروف أخرى مختلفة.
يستطيع المتتبع ان يلاحظ انه خلال الحقبة المعاصرة التي عاشها المجتمع العراقي حققت حركة اليسار الشيوعي العراقي حضورا وتأثيرا فاعلين على المستوى التاريخي في نسيج المجتمع وعلى مدى تاريخها الذي تأسس بالتواكب مع تشكيل المجتمع الحديث الذي دشنه تشكيل الدولة العراقية الحديثة باعتبارها أداة دمج اجتماعي واقتصادي أسس لرؤية وطنية شاملة بنيت على أسس حضارية من معطيات التاريخ المركب لمكونات المجتمع العراقي عبر سنوات ومراحل تشكله. وترك حضور اليسار هذا بصمات مميزة في الحياة السياسية والاجتماعية امتد تأثيرها على مدى زماني طويل بحيث تحول إلى ارث غني قدم وسيقدم لمن يستولي عليه ويرثه، في بعض الظروف، مكانة وقدرات يعجز عن إتيانها وادعاءها بغير العون من هذا الإرث، وستشكل له غطاءا يستر به ضعفه أو عدم أهليته لوراثة هذا الاسم.
قد يفسر هذا الواقع إلى حد بعيد العديد من الصراعات الحزبية والكتلوية في تيار اليسار العراقي المتشكلة على أرضية الادعاء في أحقية هذا الاسم والإرث النضالي، بحيث تحول هذا الإرث بحد ذاته إلى أداة في الصراع فصار من يملك الاسم يستطيع به ومن خلاله ان يحكم على الآخرين بالمروق والارتداد. وهذا يشرح إلى حد بعيد التشبث والتشدد بالإبقاء على الاسم الذي يحمله الحزب الشيوعي العراقي – الوارث الرسمي لأرث النضال اليساري- لما يحمله هذا الاسم بحد ذاته من كمية من التأثير النفسي حتى لدى العاملين داخل الحزب، وان كانت خلفيات ودوافع هذا التشبث غير مدركة بشكل مباشر لديهم مما دفعهم لان يقدموا بسبب من ذلك مجموعة مبررات لتشبثهم هذا متأثرة ومستمدة بشكل أساس من القيمة المعنوية وشحنة التأثير العاطفي التي يقدمها هذا الاسم لهم، مع إن الكثير من تطورات الحياة وتبدلات الرؤى الفكرية وتطورات المرجعية الفكرية تتطلب نوع من المرونة والاستعداد لتقبل فكرة تغيير الاسم الذي سيكون بالضرورة منسجما مع تلك التطورات والتبدلات وعاكسا لها في نفس الوقت. لكن ذلك التغيير من الناحية العملية ووفق حسابات تلك العقلية سيعني بالضرورة إن حامل الاسم ومالك الإرث سيفقد الكثير من ممكنات نفوذه وتتقلص بالتالي سعة تملكه للشرعية التي بحوزته ولهذا وضع معيارا أو مقياسا يتعامل بمقتضاه مع طاقات تيار اليسار تعاملا كميا عدديا وشكلي لا يخرج عن دائرة ومفهوم الانسلاخ من التبعية له وبالتالي حدد أسلوبا وحيدا لإصلاح الخلل هو في عودة الأبناء الضالين إلى حضن ألام وامتثالهم لحامل الاسم الشرعي. لهذا نجد إن مالك ومحتكر ارث تيار اليسار وهو الحزب الشيوعي العراقي يتحسس بدرجة عالية جدا لحد الفزع من اي طرح أو مسمى يسعى أو يكون ندا أو منافسا للسيطرة على هذا الإرث الكبير. وبرؤيته هذه وسلوكه الذي ينتج عنها صار الحزب عائقا أمام ممكنات النمو والتطور المفترضين لحركة اليسار العراقي بحكم ماتتيحه الحياة من امكانات وما تطرحه من تحديات أمامه وما تفرضه من مهام لو كان قد استطاع أن يقف منها الموقف السليم ولم تعاق حركته وتطوره لتكونت لدينا حركة يسارية قوية وناضجة ومتميزة تكون وارثا فعليا لإرث حركة اليسار الشيوعي العراقي وامتداد عضوي له.
لهذا يمكن القول ان تلك الخلفية وذلك التصور هما اللذان صاغا موقف بعض من ناقش نيابة عن الحزب الشيوعي العراقي دعوة جيدة كانت قد طرحت حول وحدة اليسار بعيد سقوط النظام ألبعثي الفاشي في نيسان 2003. والمحاولة تلك طرحت بطريقة مناسبة تماما رغم ما شابها من طابع أكاديمي بارد ومارافقها من تعال شكي منه الكاتب الذي تبنى الرد عليها وهو تعال قادم، برأيي، من طبيعة الشخص حامل الفكرة ورمى بظله على الأطروحة وليس من الأطروحة بحد ذاتها. لكن الأطروحة في العموم كانت مبادرة سياسية ناضجة وواعية، بينما جاء الرد عليها متشككا ومتحسسا، للخلفيات والدوافع التي أشرت إليها. وبسب حالة الضيق من شخص الكاتب الذي قدمها وانعدام جدية التيارات والكتاب السياسيين اليساريين في الاهتمام بالموضوعة ومتابعة النقاش فيها – وهذا يجسد نوع من التراجع والخمول في النقاشات النظرية يتطلب الاهتمام به والتوقف عند أسبابه- تم نسيان المبادرة وبالتالي ضياع فرصة مهمة لفتح ملف حيوي وحساس للمعالجة. لكن أهم العوامل التي أعاقت، برأيي، إمكانية توسع النقاش هو عدم تبني اي طرف سياسي لهذه المبادرة ليفعلها ويمنحها بعدا عمليا. فالجميع يدرك الفرق بين ان تطرح مبادرة سياسية من طرف سياسي وبين أن تطرح من شخص باجتهاد فردي.
لكن الملفت للانتباه في فترة إثارة هذا الموضوع هو حالة الانتشاء التي بدا عليها الحزب الشيوعي العراقي بوضعه وحالة الرضا المفرط عن ألذات التي كان عليها والاعتداد المبالغ به بالنفس وصل لحدود الانتفاخ ألطاووسي، مما دفع بموقفه من أطروحة التوحيد، بالإضافة إلى عقدة الشك والخوف المزمنتين والملازمتين له من اي أطروحة مغايرة، إلى مستوى عال من الغطرسة وانعدام التواضع والتفهم لطبيعة الطرح.
أما ألان فان الوضع قد اختلف وبات من الممكن ملاحظة التبدل النوعي الحاصل في الظروف الحالية والتراجع الواسع أو الانحسار في مكانة واسم وبالتالي دور الحزب الشيوعي العراقي في الشارع والذي صار يستمد قدراته ألان بشكل أساس من خلال وجوده في هامش العملية السياسية الذي تقدمه له فرصة وجوده في مجلس الحكم. كما أن التوسع المحدود والقصير الاجل الذي وصل إليه الحزب الشيوعي في مرحلة ما بعد سقوط البعث لم يكن نتيجة مباشرة لاستيراثه اسم ونضالات اليسار العراقي فقط وإنما لارتباطه بعلاقات خاصة مع بعض التنظيمات والأحزاب التي دخلت في اللعبة السياسية وكان من مصلحتها كسب أسماء وعناوين إلى جانبها وهذا ربما يدلل إلى حد ما على إمكانية بداية عملية النضوب للميراث النضالي الذي يتحكم به الحزب ألان.
إن النشوة التي أوجدها سقوط النظام ألبعثي واندحاره قد بدأت الآن بالتبدد بصعود وعودة قوى النظام من بوابة (المقاومة) الخلفي. لكن الخطر الأكبر الآخر والتهديد الحقيقي للمجتمع كامن في صعود تيار إسلامي متطرف يريد احتكار الشارع السياسي بالقوة وفرض هيمنته عليه وهذا التيار يستهدف بصورة مباشرة، بحكم تركيبته وارثه ونوعية مشروعه، تصفية كل قوى الديمقراطية والتقدم في المجتمع. وأكيد إن حصة الحزب الشيوعي والتيار اليساري باجمعه ستكون كبيرة وسيتم التركيز عليهما بالضرورة.
إن طبيعة الصراع التي يرهص بها الواقع ألان هي في الحقيقة ليست في اطر الحكم أو المؤسسات ليستطيع اي طرف أن يستمد قوته وحضوره من خلال السلطة ومؤسساتها أو من إدارة الاحتلال وإنما هي، وخصوصا لتيار اليسار، هي صراع يدور فعليا في الشارع وفي المجتمع وعليهما في ذات الوقت. ومن هنا فان المهام المطروحة أمام قوى اليسار ألان وفي المستقبل هي اكبر واعقد لاسيما في ظل أرضية من التراجع والانكفاء في كل الفكر التقدمي وسيادة وشيوع العقل الغيبي والتوجه الديني اجتماعيا ودينيا وسياسيا وهذا الامر يتطلب حرصا اكبر وشعورا بالمسؤولية مضاعف لاجل تحقيق قوة معادلة تمتلك القدرة على الرد والدفاع عن المجتمع وهو مالا يمكن تحققه في ظل وضع لليسار اقل ما يقال عنه انه مشتت ومفكك.
والجهد المطلوب بذله الان والمطلب الأساس لتقويم الوضع وتصحيح مسار اليسار يقوم باختصار حول ضرورة بذل الجهود من اجل تعميق العلاقات بين فصائله وأفراده وفتح بوابة النقد والحوار فيه وحوله وتجنب الحساسيات في التعامل وتجاوز عقدة الاسم والمكانة وغيرها من أشياء تعيق إمكانية التقارب وإنضاج الرؤى المشتركة.
ان مراجعة تاريخ اليسار العراقي تدلل على ان الحزب الشيوعي العراقي وخلال تاريخه السياسي والنضالي الحافل، حينما كان رصيده قادما من دوره النضالي، وقبل ان يتحول إلى كيان مؤسسي بقدرات مادية وبطابع عمل بيروقراطي، كان يواجه حالات الاختلاف في الرأي، رغم هيمنة المفاهيم الستالينية على كل الفكر الشيوعي آنذاك، بطريقة استيعابية تسعى للاحتواء والاحتضان وتصفية الخلافات باتجاه التوحيد وليس العزل والقمع أو التهميش، مدركا حينها ان هذه القوى هي رصيد حقيقي له ولا ينبغي التفريط بها ودفعها أو تصنيفها إلى وفي خانة الأعداء، لان هذا في النتيجة سيخدم العدو وسيضر في البناء الداخلي للتنظيم. لهذا كان الحزب يخوض النقاشات السياسية والنظرية مع المختلفين معه من داخل التنظيم ويقدم على الحوار معهم سعيا لإعادة دمجهم مرة أخرى في التنظيم. وطبيعي إن هذا الأسلوب في النقاش والانفتاح والتعامل المرن سيتيح لقوى الحزب الذاتية من ان تطور اطروحاتها السياسية وتقوي من شان ودور تنظيماتها برفدها بالجديد والمختلف من الآراء. لهذا كانت اغلب الانشقاقات التي مرت في تاريخ الحزب إلى ما قبل شباط 1963 تنتهي غالبا بعودة المنشقين وتوحيد صفوف الحزب مرة أخرى وعلى أسس جديدة تستوعب نقاط الاختلاف وتدرجها في مضامين سياستها وخططها التنظيمية. إلا ان الوضع قد تغير للأسف بعد انقلاب شباط 1963 وصار الحزب يصنع خصومه وأعداءه بنفسه من داخل تنظيمه فشهدت المرحلة تلك توسع وتعدد في الانشقاقات ونوعيتها. صحيح إن تطورات الاحداث وعوامل التحول في الحياة السياسية والاجتماعية وفي المفاهيم النظرية والفكرية التي شهدتها الساحة السياسية في عقد الستينات، وهو عقد حافل وغني واستثنائي، ومنها صعود جديد لتيارات تروتسكية وماوية وتراجع في القيمة والقدوة الثورية التي كانت تشكلها الثورة الروسية بعدما أثمرت دولة بيروقراطية هي الاتحاد السوفيتي ومنها ايضا صعود اليسار الجديد والتجربة الجيفارية والتحول في مفهوم السلطة السياسية وطريقة الاستيلاء عليها. كل هذه المستجدات لعبت دورا في بلورة قوى وتنظيمات سياسية في ساحة اليسار العراقي عكست هذا التنوع والغنى الحاصل في الحركة الثورية العالمية وبالتالي وسعت من دائرة اليسار. لكن هذا التعدد في القوى والتنوع في الاتجاهات كان بحاجة إلى نمط علاقة وإطار سياسي وفكري يوحد جهوده وتوجهاته بدلا من شرذمتها وهو الدور الذي عجز عن أداءه الحزب الشيوعي العراقي، رغم اهليته التاريخية، وهذا يعود، كما أتصور وكما أشرت من قبل، إلى طبيعة التحول في أساليب العمل النضالي وأشكال القيادة الحزبية في الحزب الشيوعي العراقي وتحوله إلى مؤسسة شبه بيروقراطية وبقدرات مادية يستمدها بطبيعة الحال من علاقته بمنظومة الدول الاشتراكية آنذاك باعتباره الحزب الشيوعي الرسمي في البلد.
لكن رغم كل ذلك فالحياة لم تقل بعد كلمتها الأخيرة بشان مصير اليسار العراقي وإمكانيات توحده ولم تقل بعد الكلمة الفصل في من له الأحقية في ميراث اليسار ولا من سيمثله. إلا أن فكرة التوحيد، ولكي لا يتبدد هذا التراث أولا ولطبيعة الظروف السياسية وتعقيدات التطورات، تتطلب إعادة نظر جدية ووقفة مسؤولة أمام إشكالية وحدة اليسار العراقي تتخلص من عقدة الاسم والإرث والعراقة لتقدم رؤية تغلب مصالح حركة اليسار مجتمعة على مصالح محدودة لأحد فصائلها. لان الاخطار والصعوبات القادمة ومتطلبات مواجهتها هي اكبر واهم من كل الاسماء.

السويد
01-05-2004









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين في البحر الأحمر والمحيط الهن


.. لجنة مكافحة الإرهاب الروسية: انتهاء العملية التي شنت في جمهو




.. مشاهد توثق تبادل إطلاق النار بين الشرطة الروسية ومسلحين بكني


.. مراسل الجزيرة: طائرات الاحتلال تحلق على مسافة قريبة من سواحل




.. الحكومة اللبنانية تنظم جولة لوسائل الإعلام في مطار بيروت