الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاطع في حيّز العابر (2)

يوسف ليمود

2009 / 7 / 8
الادب والفن



فراغ

في لحظة ما، تميل الشمس في دماغ أحدهم فيتمدد ظله داخل الجمجمة وينتصب شبح السؤال: إلى أين؟

حين خرج جياكوميتي من السينما بعد ظهر يوم ما، قبض على جمجمة الواقع متمددا فيها الفراغ كظل طويل، ولا صوت، رغم صخب الميدان، سوى صفير السكون. هذه اللحظة بلورت عمل جياكوميتي، وهي مفتاح كل ما شكّلته يده المشروع بابه على أبدية من فراغ.

كيف للجسم الذي هو حيز وامتلاء أن يكون فراغا؟

كيف لنحاتٍ يعمل في الطين والحديد أن يجسّد بمادته الفراغ؟

وهل الفراغ المترامي في جنبات الجمجمة هو أصل السؤال: إلى أين؟


شفق

انتبه إلى نفسه غائبا في رماديّ الغروب. ربما اللون الذي تزيده أشلاء الغيوم ثقلاً هو ما أيقظه. كان جالسا، رغم الرذاذ، في الباحة الخارجية لمقهىً في مدينة غريبة. خلفه بأمتار، قطارات وسكك الحديد. الصدفة وحدها دحرجت عجلته ليتوقف أمام، أو ليكون جزءا من، هذا الديكور السينمائي: الغروب الرمادي، سكة الحديد، وبلل الهواء.

الغروب في ذاكرته أحمر. شفق. هذا ما طبعته على شاشته السماء التي ولد تحتها. الفجر أيضا في ذاكرته شفق. إنه الوقت الذي خرج فيه من رحم أمه. حتى لو لم ير السماء لحظة نزوله (هذا أكيد لأن أمه ولدته تحت سقف)، فقداسة لحظة الولادة، كقداسة لحظة الموت، تخترق السُقُف والحُجُب. الشفق يختصر خيط حياته المعلق بين لحظتيه. لكنه الآن جالس في الرمادي، في مدينة غريبة، في يده كأس نبيذ، ينتظر قطارا لم يقرر بعد في أي اتجاه يكون.

ربما الحياة شريط رمادي محصور بين أحمرين… لوحة تجريدية يعني!


عابر

تموّج في حلمه الوجه كما لو انعكس في ماء بئر. لكنه، حين صحا من نومه، لم يعرف من كان صاحبه ولا من أين جاء واختفى! حديثه أيضا (كان سلسا رائقا كما لو صيغت حروفه من ذهب) لم يتذكر منه كلمة واحدة! حدس فقط أنه واحد من الوجوه النادر مرورها في الدنيا. تمرّ، لو مرت، خفيفة متخفية. أنقى من نبي. هم زاهدون حتى في حظ الأنبياء. فما بال وجه كهذا يطوف بحلم ويتكلم كنبي ثم يتلاشى مع كلماته في أثير الصحو! أهي جمالية العدم تتوهج مفرداتها في التبدد لا في الرسوخ، في العابر لا في المقيم؟

يعرف أن الجمال شيء لا يُمسك: رمل بين أصابع. ماذا لو تجمّد الرمل بين الأصابع، هل يظل جميلا؟

صوت

أجراس الأبراج تلك، بدقاتها التي تقول الوقت. في السنوات الأولى كان وقع رنينها على طبلة أذني إعلان غربة. في سنوات لاحقة كان يفتح دماغي على بوابة التاريخ: عيون قرونٍ منكسرة تحت الصليب، محارق بشر خرجوا على المرسوم، أقماع الصلَع في مؤخرات رؤوس رهبان العصور الوسطى، مجازر باسم السيد، عقود زواج تعساءَ ينجبون سلالات أتعس، طقوس دفن آلامٍ أكثر ألما من آلام الرب، كتب صفراء وشموع واعترافات وترانيم أورج وقدّاسات، سحر أسود وأوهام وعبث بلون التراب. في مرحلة، أو في أوقات أخرى، كنت أضفي مسحة رومانسية على ذاك الطنين: شعراء يقصفون ويرعدون ويقيمون ولائم وهجهم على جناح سحابة أو تحت المطر، عاهرات وصلن إلى الروح ويرقصن على جرحهن، حزن كلب الوجود على ما لا يمكن التعبير عنه. الطنين الآن تستقبله طبلات سمعي كما هو. صوت. كما الطيور والآلات والأوقات صوت. لا تواريخ ولا رومانسية ولا يحزنون. مجرد غربة.

لحظة

لو أن هاملت أو سيزيف أو قيصر أو نوح أو اخناتون أو المقوقس أو عبدا رومانيا أو فلاحا أو أي شخص كان في أي زمن مضى نُفخت في غباره الروح فجأةً وجد نفسه جالسا مكاني لحظتي هذه أمام النهر بملامحي ملابسي ساعة يدي درّاجتي موبايلي صندلي علبة جعتي سجائري خبثي رهافتي شراهتي شكّي رحابة قلبي ألمي وحدتي توحدي لا مبالاتي…

س: فيما تراه يفكر؟

ج: ما أفكر أنا فيه الآن!

هاملت وسيزيف وقيصر ونوح واخناتون والمقوقس والعبد والفلاح وكل من مر ظله على هذه الأرض ليسوا سوى أنا، الآن وهذه اللحظة!

دائرة

خلف القبر. ارتفعت الشمس فاستيقظ الموتى ولملموا أجداثهم. كسا اللحم الهياكلَ وتوردت الخدود وجرت الأنهار من تحتهم. ركبوا السيارات وزمّروا. أقاموا الأفراح ورقصوا. تزاوجوا وتناسلوا. أحبوا وبغضوا وتعاركوا على شبر أرض ولقمة. حملوا السلاح واقتتلوا وعادوا إلى نومهم. لم ينظروا الشمس التي طلعت عليهم من الماوراء. الآن هم هناك، حيث كانوا، في دائرة الغبار والعناصر. لكن ما هذا الطيف المارق من الدائرة؟

عين

تلك النظرة المنسحبة في مائها الرائق. معدودون أصحابها. أقوياء وبلا سلطة. لا. هم لا يريدون سلطة!

- فيم هي غائبة؟

- في براءتها!

- إذن أفهم لم هي حزينة!

خليّة

هذه أمي تجلس الآن جنبي في برق لحظة دماغية. ماتت منذ سنوات. ماذا كنت أفعل لحظة موتها؟ عبثا تحاول ذاكرتي العثور على خليّة لحظتي لحظتها. كنت في الهند، أبحث عن الحياة بينما هي تموت واسمي ملء فمها. ربما كنت جالسا على النهر أنظر الموتى يُحرقون أو في المتعة مع امرأة أو في باص يقوده سكران يصعد ينزل التلال أو كنت نائما أو في مطعم… لن أعرف أبدا! قبل لحظة، تجسّدت أمي جنبي كما لو رجع الزمن عن المكان عشرين سنة. يُخيّل إليّ أنها لم توجد يوما في الواقع بل في دماغي فقط. خليّة في المخ وخزها دبّوس خفي فجسّدت صورة!

عدم

الشمس تغمر التراب وما فيه من موتى غبروا وأمثالِهم يتحركون وآخرين لم يولدوا بعد. بين سجادة الغبار هذه والمصباح الساطع ذاك، ملايين الكيلومترات، أو بضع سنوات ضوء. هذا يعني أن السجادة الترابية، من زاوية ما أبعد من المصباح، تُرى كنقطة باهتة أو تكاد لا تُرى كلما توغلنا في البعد حد حسبانها خلية في العدم.

أنا أعيش في مدينة هي فتلة في نسيج السجادة، جالس الآن في غرفة، شريط من الشمس يضيء نصف وركي العاري، أرى انعكاسات المنظر على زجاج الكأس في يدي، أسمع اسطوانة لحنجرة مبحوحة من آيسلندا (ماذا تفعل المغنية في هذه اللحظة؟)، أحاول أن أراني من زاوية خارج طوق المصباح: إذا كانت السجادة التي تطير بي / بنا تبدو، من زاوية سحيقة البعد، خلية في العدم، فأين أنا منها أو ماذا أنا فيها؟ غريب، رغم هذا أعتقد أنني الكون!

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي