الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسخ الذي تصدى لصانعه

أوري أفنيري

2004 / 5 / 5
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


تروي الأسطورة اليهودية أن المسخ كان مخلوقا مصطنعا له قوة هائلة. فقد صنعه الحاخام يهودا ليف من براغ، من مواد ما ومنحه الحياة ودس تحت لسانه أقصوصة ورق كتب عليها اسم الله.

لقد ساعد المسخ اليهود على حماية أنفسهم من الأعداء اللاساميين غير أن هذا المسخ قد تصدى لصانعه في أحد أيام السبت. لقد زرع الخراب والدمار من حوله حتى نجح الحاخام في اللحظة الأخيرة بإخراج أقصوصة الورق من فمه. عاد المسخ ليتحول إلى مادة هامدة.

أرئيل شارون ليس حاخاما ولا يفقه أسرار الكبلاه (الحكمة الباطنية التي تفسر الكتاب المقدس حسب الصوفية اليهودية). لكنه قد صنع له مسخا: عملية الاستيطان في المناطق المحتلة.

لقد كان يظن بأن هذا المسخ سينصاع لأوامره دائما، فالمستوطنون مدينون له بكل شيء. هو الذي طورهم ونماهم خلال عشرات السنين وحوّل ميزانيات ضخمة إليهم واستغل كل المناصب السياسية التي تقلدها، الواحد بعد الآخر لمصلحتهم: وزارات الزراعة، الدفاع، الخارجية، البناء والإسكان، الصناعة والتجارة، البنى التحتية، وأخيرا مكتب رئيس الحكومة.

(أذكر أنني قمت قبل 25 سنة بزيارة شارون في بيته، في إطار تحقيق صحفي لكتابة مقال عن سيرة حياته. جلسنا راحيل وأنا في المطبخ مع ليلي شارون التي قدمت لنا من مأكولاتها، وقد استرعى انتباهي أن زعماء المستوطنين يجلسون في الصالون المحاذي. كان شارون ينتقل بين الغرفتين ذهابا وإيابا يقسّم وقته بين المستوطنين وبيننا. كان من الواضح، منذ ذلك الوقت، بأن المستوطنين ينظرون إليه على أنه وليهم).

على مر كل هذه السنين ومنذ أن كان قائد لواء الجنوب، كان شارون يقض مضجع كل من قابله، من الإسرائيليين والأجانب، بالدعوة لصالح المستوطنات، ففتح أمامهم الخرائط (الخرائط موجودة بحوزته دائما)، وطالبهم بالعمل لصالحهم. كانت إقامة المستوطنات حيوية في نظره لتحويل أرض إسرائيل كلها إلى دولة يهودية، ولبتر المناطق الفلسطينية إلى قطاعات قطاعات ولمنع إقامة الدولة الفلسطينية التي يرى فيها عائقا تاريخيا لتحقيق الصهيونية المثلى.

كجرافة تعطلت كوابحها، سحق شارون أية معارضة. لقد اهتم بتحويل عشرات مليارات الدولارات إلى المستوطنات (ليست هناك أي إمكانية للكشف عن مخابئها في ميزانية الدولة)، واهتم بطي القوانين لأجلهم وتجنيد الوظائف لصالحهم في كافة الدوائر الحكومية والوظائف في كافة أذرع الجيش. هكذا أقيمت شبكة مكثفة من المستوطنات والطرق الالتفافية يسكن فيها لربما 250,000 مستوطن (من يعدهم أصلا؟).

عندما وضع شعار "الانفصال أحادي الجانب" لم يعتقد بأن المستوطنين سيعارضونه بجدية. أليسوا مدينين له؟ أليس هو من اعتنى بهم؟ أليسوا مدينين له بالشكر الجزيل؟

لقد اقترح شارون عليهم صفقة كانت تبدو له معقولة – كما كان يراها معقولة أيضا يوسي بيلن الذي اخترعها، وإيهود أولمرط الذي حاول تنفيذها: تخلوا عن المستوطنات النائية التي يسكن فيها عشرات الآلاف فقط وبالمقابل ستضم كافة الكتل الاستيطانية الكبيرة إلى إسرائيل التي يسكنها 80% من المستوطنين، ضحوا ببعض الأصابع لإنقاذ الجسد كله. لن ننقذ بهذه الطريقة العملية الاستيطانية فحسب بل سننقذ الجزء الأكبر من الضفة الغربية التي ستبقى ضمن حدود دولة إسرائيل وفق برنامج شارون.

لكن المسخ، عندما تدس أقصوصة الورق تحت لسانه، فإن له منطق خاص به. فهو لم يقصد التخلي عن عشرات المستوطنات الصغيرة التي تسكن فيها النواة الصلبة من المتطرفين بالذات. لقد فهم أيضا أن إخلاء أول مستوطنة سيحقق سابقة، يمكنها أن تنتقم بعد ذلك من كافة المستوطنات الأخرى. يمكن للمستوطنين الاستهزاء بالمنتفعين في غوش قطيف غير أنهم يدركون جيدا بأن المعركة على غوش قطيف هي اختبار حاسم.

إلا أن شارون، مثله مثل رئيس الأركان، لم يولي مسخه أهمية كبيرة، فقد نظر إليه نظرة السيد إلى عبده وكيف له أن يحترم مخلوقا صنعه بكلتا يديه؟ ها هو يتعلم الآن أن صنع مسخ هو أمر أسهل من التحكم به.

لقد ذكر شارون، في سلسلة المقابلات اللانهائية التي أجراها في الأسبوع الأخير أن المستوطنين ليسوا إلا جزءا صغيرا من الشعب. وبالفعل، لو نظرنا إلى تعدادهم السكاني وفق معطياتهم هم، فإنهم يشكلون أقل من 4% من مواطني إسرائيل. غير أن هذه الأرقام الجافة لا تجسد قوتهم الحقيقية. ففي المجتمع الديمقراطي يمكن لأقلية متطرفة صغيرة، تتمتع بإصرار قوي، أن تتغلب أيضا على أغلبية كبيرة لا مبالية ومتراخية.

يعتمد شارون على حقيقة انخفاض شعبية المستوطنين في إسرائيل. إنهم مشاغبون وعنيفون، يتحدثون بلهجة مختلفة، يلبسون لباسا مختلفا وتصرفاتهم مختلفة. حتى لغة الجسد لديهم مختلفة. الإسرائيلي العادي يرى فيهم فئة غريبة الأطوار. في نهاية الأمر استوعب الإسرائيلي أيضا أن المستوطنات تبتلع المليارات وتتسبب في التدهور الاقتصادي والاجتماعي.

إلا أن المستوطنين أقاموا خلال عشرات السنوات منظومة ضخمة من السيطرة والإعلام. فقد تسربوا إلى الجيش بمجهود صبور وها هم الآن يتقلدون المناصب الهامة التي كان يتقلدها في الماضي أبناء الكيبوتسات. وسائل الإعلام المستقلة لديهم تتطور وتنتشر، بينما تخلى اليسار، على مر السنوات، عن وسائل إعلامه المستقلة، دون استثناء. تحت تصرف المستوطنين مصادر مالية ضخمة، أكثريتها خفية – ليست تلك الميزانيات الحكومية التي تسيل إليهم عبر مئات القنوات، وليست تلك تبرعات الأغنياء اليهود فحسب، بل تصل إليهم أيضا أموالا هائلة من المتطرفين المسيحيين في أمريكا.

يمكننا طرح السؤال: ما هو الشيطان الذي سكن شارون، حين اقترح تحويل الخلاف على برنامجه إلى جمهور المنتسبين إلى الليكود بالذات؟ ما أراده هو حل مشكلة آنية في مركز الليكود. لم يكن ليعتقد، في تلك اللحظة، بأنه قد اختار ميدان القتال الوحيد الذي يمكن للمستوطنين فيه أن يشكلوا أغلبية. لقد وقع في المصيدة التي نصبها بنفسه.

لماذا؟ كما جرت العادة لدى الجنرالات الثملين من القوة من خلال التكبر والاستهتار بالخصم، لم يحلم شارون بآلاف الزيارات البيتية والتوجهات المؤثرة والمنظومة اللوجستية الفعالة لدى المستوطنين، التي أقيمت بأموال الدولة.

أغلبية المستوطنين هم هيئة منصاعة. كأي فئة تؤمن بمجيء المسيح، ينصاعون دون قيد أو شرط لأوامر قادتهم، "حاخامية يهودا والسامرة وقطاع غزة". إنها بنية مستبدة بكل ما في هذه الكلمة من معنى: إيمان مطلق، تنظيم مطلق، انصياع مطلق.

"عقلي يؤيد شارون غير أن قلبي يؤيد المستوطنين"، هذا ما قاله أحد أعضاء الليكود. وهذا أمر طبيعي: حين يأتي زوجان من المستوطنين يحملان رضيعا (والرضيع محمول دائما!) إلى بيته ويسألانه: "هل تريد طردي من بيتي؟" – كيف كان له أن يصوّت؟ ناهيك عن أن شارون وحلفائه قد وعظوا له بأن الهدف هو أرض إسرائيل الكبرى وأن المستوطنين هم ملح الأرض، وأنه من الممكن تجاهل كل العالم – وها هو يأتي ويقول فجأة العكس؟

ولكن علينا أن نتذكر أن أقل من 2% من المنتخبين في إسرائيل قد صوتوا في هذا الاستطلاع الحزبي ضد برنامج شارون (لقد حظي الليكود في الانتخابات الأخيرة بأقل من 30% من أصوات الناخبين. من بين هؤلاء، أقل من الربع انتسب إلى الليكود. ومن بين هؤلاء، أقل من النصف صوتوا في الاستطلاع، ومن بين هؤلاء أقل من 60% صوتوا ضد البرنامج. هؤلاء، إضافة إلى المستوطنين الذين ليسوا أعضاء في الليكود، هم بمثابة ذلك المسخ).

لقد نتج عن ذلك الاستطلاع أمر إيجابي واحد: لقد أفاق الجمهور من غيبوبته ورأى ذلك المسخ الذي يتوسطه. لقد كان الأمر واضحا منذ البداية: الحركة الاستيطانية تمتص نخاع الدولة. إنها عائق في وجه أي حل سلمي. إنها تشكل خطرا على الديمقراطية الإسرائيلية وعلى مستقبل الدولة ذاتها. لقد أصبح الجمهور يرى هو أيضا الآن الخطورة الكامنة في ذلك المسخ المتهور.

الوقت ليس متأخرا لإخراج تلك الأقصوصة من تحت لسانه. حاليا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟


.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة




.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه