الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيامة في فوتوغرافيا اندرياس جورسكي ومعرضه من جناح طائرة

يوسف ليمود

2009 / 7 / 15
الادب والفن


استحالت عليّ مشاهدة معرض الفوتوغرافي (الشرق) ألماني أندرياس جورسكي في متحف الفن بمدينة بازل بسبب تزامن فترة العرض مع رحلة تخص عملي كما للاستجمام، فحرصت على ألا يفوتني الحصول على نسخة من كتالوج المعرض الذي صادف أن يصل إلى إدارة المتحف قبيل مغادرتي المدينة إلى مطارها بساعات قلائل. فلتنقذني إذن الصور الفنية، ولو في كتالوج، من زنّة الساعات الضاغطة على الأذن وطبلتها، ولأرقب تجمعات الهياكل والوجوه العابرة خلال ساعات الانتظار في الصالات بالعدسة نفسها التي التقطت صور هذا المعرض، وليست مشاهدة صورة للعمل كالوقوف أمام العمل نفسه، حيث حجمه وخامته وعلاقته بالفراغ، ما لا يمكن لصورة في كتاب أن تنقله، لكن بعضا من شيء خير من عدم.

ترتفع الطائرة وتترامي أرض الله حتى حدود القوس ويخفق القلب بالتوق إلى ما لا يسمّى. ساعة ً، وتطفو رؤوسٌ من جبال الألب فوق مستوى السحاب، لا يمِّيز نصاعة أصداغِها عما تحتها سوى انغمارها في نور الشمس فتبدو كالمصدر الذي يستمد العالم منه أبيضَه. كتل شاهقة الارتفاع والبياض وسط طوفان من قطن، أراها النسخة السالبة من صورٍ ثلاث بالكتالوج المفتوح بين يدي، التقطها الفنان، من طائرة هليكوبتر فوق الساحل الشمالي بفيتنام لمجموعة من جزر السلسلة المعروفة بـ هالونج بآي، لتنطبع الكتل الخضراء على صورته كلطخاتٍ من سواد فوق ارتعاش رمادي. إنها الموضوع نفسه الذي اشتهر به عمل هذا الفنان (التجمّعات)، غير أنه تخطى هنا أشكالها البشرية، ليسلط عليها عدسته في الطبيعة الأكثر بدائية والتي لم تُمس، تقريبا. سبق لي، قبل أعوام، أن وقفت أمام هذه السلسلة من الكتل المتطاولة في الهواء أثناء زيارتي فيتنام، ودارت بي مركب حول العديد منها، بل قفزت إلى الماء ذات نزوة وسبحت إلى سفح إحداها حيث كهف شهير بداخلها يفوق خيالَ ألف ليلة وليلة، بعد أن تشجعت بمنظر أطفال الصيادين الذين يخيل للمرء أنهم طوروا لجهازهم التنفسي خياشيمَ بسبب حياتهم بين الماء والمركب. لكن الواقع شيء والصورة الفنية شيء آخر، فهنا اختيار لحظة رمادية تماهت فيها السماء مع البحر، كما غابت عنها التفاصيل البهيجة وصخب أولاد الصيادين في الضوء الآسر، فتحولت الكتل إلى مراثي وحدة رغم تجمّعها في تظاهرة صخرية منذ ملايين السنين. فكرة التجمع تأكيد على الوحدة. الوحدة ثبات والتجمع طارئ، من هنا تأتي طرافة الأعمال الفنية التي تتعامل مع فكرة الحشد، حيث تكون الإحالة، غالبا، ولو بغير قصد، على عكس ما هو ظاهر من سطح العمل، فالفرد الذائب في الحشد نسيان، بل يكاد يكون عدما بالنسبة للعين المشاهدة، لكنه ذاكرة وجودٍ بالنسبة لذاته التي أذابتها لا نهائية النُسخ والتكرار.
صورتان من فوق الماء لمجموعة جزر في الخليج العربي، الجزر الرملية استعارت الأبيض الناصع واسترخت على مسطحٍ أزرقٍ عميق في فلطحةٍ وامتداد يذكّر بمجموعة لوحات الانطباعي الفرنسي كلود مونيه الضخمة والشهيرة باسم “زنابق الماء”، غير أن زنابق جورسكي الصخرية، ولو أن المقارنة هنا ليست في محلها، تتفوق ببلاغة لونيها الأبيض والأزرق على غنائيات مونيه الزاخرة بكل الألوان، ناهيك عن الرمزية الشاعرية التي يحيل اجتماع هذين اللونين عليها. ثم، صورة عجيبة التركيب لصحراء تتلوى عليها أشرطة سوداء وكتل يصعب للوهلة الأولي التعرف علي كنهها، وهي أحزمة إسفلتية لطرق متداخلة، إلا بالتدقيق في بعض التفاصيل قليلا. أغلب الظن أن الفنان مازال طائرا فوق منطقة الخليج، إذ بعد صفحات نرى صورة خارقة في جماليتها وتعبيرها لبورصة كويتية ساد فيها أبيض الجلابيب على دُكنة المكان السوداء تقريبا، يتخللها ما تيسّر من أحمر المقاعد القطيفة الحمراء. الحركات في الصورة لا يمكن إلا أن تفتح للخيال أبوابا على فكرة البعث والنشور، إنها نوع من خروجٍ من أجداث، وأكفان تُجرّ، وتوابيتَ، وبشر يقرأون كتاب أعمالهم، وآخرون ينتظرون الصراط في وجل. ثمة صورة لبورصة عالمية، من منظور طائر، تبدو كيوم الحشر نفسه وقد دخل عليه الليل فابيضّت جسوم واسودّت جسوم. قيامة أخرى سُلط فيها الضوء على مغني الروك في إحدي الحفلات التي يحرص ملايين على ألا تفوتهم، بدا فيها المغني النجم كنبي أمام أمته. كذلك صورة في مستويين لملايين، لابد أنهم من حضروا حفلة المغني، يعلوها قوس غابةٍ مظلمة ومجرىً صغيرٍ في المنتصف يرعى فيه نثار من الحاضرين.

لا تقتصر التجمعات في صور هذا المعرض على البشر والجماد فقط، وقد كان عمل هذا الفنان، في بداياته الفنية، يركز على البضائع المكدّسة في السوبر ماركات والمباني الضاغط تعدد طوابقها المجنون على جرس إنذار أخرس. في صورة من صالة أحد المطارات انقسمت إلى ثلاثة مستويات عرضية غلب عليها الأسود كالسابقتين، تلعب لوحة المواعيد السوداء اللون، بكتاباتها وأرقامها الإلكترونية، دور البطل، حيث الأماكن حروفٌ، والأزمنة أرقام، والبشر عوانٌ بين هذا وذاك. صورة أخري في مستويات أربعة: الأول، من أسفل، نمل بشري في ساحة، الثاني كثافة من شجر، الثالث ميناء لمراكب واقفة كأنها جنازة بحرية، والسماء الغائرة بحشد من سحب هي المستوى الرابع الأخير. في مجموعة صور، نصب فيها جورسكي عدسته على زوايا استادٍ آسيوي في افتتاح أحد المواسم الأوليمبية، حيث التصميمات الزخرفية الخارقة التنفيذ بالأجساد والحركة، تبدو، في صوره، كالماندالا التي ينفذها بوذيّو التيبيت، في تعقيد ودقة متناهيتين، بالرمل الملون، خلال شهور أربعة من العمل المتواصل، ليأتي الدالايلاما - قائدهم الروحي، عند اكتمالها، ويحول، بحركة واحدة من يده، كل هذا الجمال والمجهود الهائل إلى كوم رمل فقد ألوانه في رمادي الامتزاج، ليُنثر بعد ذلك في ماء النهر المقدس كرمز للوجود ومآله. إنه الفردي عندما يتماهى في الروح الكلية بعد أن يكون قد تخلى عن الإيجو واندمج في العناصر. بضع صور لم أستطع تبيان ماهيتها، لكنني انتشيت بصريا بتركيباتها كانفجارات جمالية لما لا يمكن حصره من عناصر تكاد تتحول إلى كريستال وتذوب في الضوء. إلى جانب عدد من صورٍ لمبانٍ، شبه ناطحات سحاب، يتحرك على واجهاتها الشفافة، كما لو على سجون من زجاج ملون، كائناتٌ عنكبوتية هي بكل التأكيد بشر.. أي بشر.
بالرغم من اختلاف عالمهما الشديد، تذكرني لقطات جورسكي بفوتوغرافيا الأمريكي سبينسر تونيك المشهور بتصوير تجمعات بشرية عارية ومروِّعة في تعبيريتها. هما نقيضان في منطق التعامل مع الداخل إلى صندوقهما الأسود من لقطات، لكنهما يشتركان في “رؤيا الحشر” كما أسميها أنا. الأول، يخطط طويلا لصورته وبتجهيزات ضخمة لكنه يترك للتلقائية والصدفة حيزا داخل التفاصيل الدقيقة للصورة، والأخير يجهز لصورته، بشكل أضخم أحيانا، خاصة أنه يتعامل مباشرة والميكروفون في فمه، مع حشود من آلافٍ تطوعوا وسلّموا أنفسهم عرايا لعدسته، أحيانا في برد الميادين الشديد أو في الغابات، يحركهم كيف يشاء، فلا يكاد يترك للمصادفة سبيلا إلى صورته إلا فيما ندر.
الآن، وقد بان من النافذة الصغيرة أول شريط يابسةٍ من أرض بلدي الحبيب، واختلج القلب بمشاعر دامعة بين فرح وشجن وإسقاط الحدقة على المصير، أستودعك الفن يا عزيزي جورسكي، وأترك كتابك المحشود بالصورالتي تشي بحبك للكائن والجامد، على مقعد الطائرة، عساه يقع في يد راكب آخر فيتعرف على عالمك في الأرض أو فوق السحاب.

يوسف ليمود
النهار اللبناني
رابط لمادة سابقة عن الفنان:
http://www.doroob.com/?p=9156













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا