الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة من النرويج

علي سالم

2009 / 7 / 20
الادب والفن


هذة القصة مترجمة عن مجموعة
The Norwegian feeling for real
الصادرة عن دار :
THE HARVILL PRESS
LONDON
2005
عنوان القصة الأصلي بالإنكليزية
I COULD NOT TELL YOU
يون فوسّة
هذيان رجل يحتضر
ثمة أمور في حياة المرء لايسعة إلقائها خلف ظهرة ، وهذا الشيء صحيح بالنسبة لي أنا ، على الأقل ، انا الذي أدركتة الشيخوخة الآن ، والذي انطوت حياتة على ومضات لن تبارحة أبداً ، لمحات من أيام حياتي الغابرة ، لمحات مضيئة ، كما يحلو لي تسميتها ، لمحات تجذرت في قرارة نفسي ، وترسخت في أعماق روحي ، لأنها مفعمة بمعنى ما ، معنى لاأستطيع تحديدة ، معنى بلامعنى ، إن أردت ، لانة قد لايعني شيئاً للأخرين البتة . والآن ، وأنا أحث الخطى على طريق النهاية مثقلاً بعنائي وذكرياتي ، ستموت معي هذة الومضات ، وقد لاتكون الخسارة فادحة الى هذة الدرجة ، لان ومضاتي هذة كانت قد اختفت فعلاً منذ زمن بعيد ، زمن موغل في القدم ، زمن مضى كانت لي فية جسراً احتضن الزمان والمكان ، زمن ضم بين حناياة حيزاً أعتدت على رؤيتك فية وانت تمارسين شيئاً من طقوس حياتك اليومية ، لكن كل ذلك أنتهى الآن ، أنتهى ذلك الزمان ، وأنتهيت أنت أيضاً ، وبعد قليل ، سأكون أنا نفسي قد أنتهيت . هذة هي الحقيقة . لكني في هذة اللحظة أراك ، وكأني أراك لأول مرة ، عندما كنت تخطرين عبر فناء المدرسة ، تسيرين بنفس إيقاع خطاك الذي لم يغادر دمي الى الآن . لقد شدني شيء ما في مشيتك ، وفي ميلان جذعك الى الأمام قليلاً ، بكبرياء وحياء ، وكأنك تحاولين إخفاء شيء ما . كنت أراك تخطرين عبر فناء المدرسة ، ومن مشيتك ، وشعرك الفاحم ، كان ينبعث زهو غامض ، زهو كان ينز من بين طيات معطفك الذي كان يبدو أكبر من مقاسك قليلاً . شيء ما أصابني وقتذاك عندما رأيتك في فناء المدرسة ، شيء بلا معنى ، شيء عميق الغور ، لكن لايهم ذلك الآن البتة . بيد إن تلك اللمحات المضيئة لاتني تذكرني بك ، تذكرني بمشيتك في ذلك اليوم ، عندما رحت تنقلين خطاك عبر فناء المدرسة ، تلك المدرسة بالذات ، تلك السنة بالذات ، ذلك الصباح بالذات ، يومك الأول في المدرسة ، مدرستنا ، في وقت ما من أواسط ذلك الخريف ، لقد أسرّت لي حركات جسدك بشيء ما ، في تلك اللحظة بالذات وذلك المكان بالذات ، شيء كان يلوح في تعطفات جسدك ، شيء تجذر في نفسي ، وفي ذاكرتي ، بل حتى في حركاتي وسكناتي . شاهدتك تسيرين عبر فناء المدرسة في صباح باكر من أحد صباحات ذلك الخريف ، ومسني ذلك الشيء ، ذلك الشيء الكامن في مشيتك غيرني ذلك الصباح ، عندما لمحتك وأنت تتؤدين في مشيتك داخل فناء المدرسة في العتمة الخفيفة . لك أن تضحكي ، نعم أضحكي ، لأن الأمر بلامعنى ، لكن ذلك الشيء الذي لمحتة في أعطافك أضحى قريباً مني الآن ، إنني أقترب منة أقترب الآن وسوف أراة من جديد ، وذلك الشيء هو أنت ، أنت عندما كنت تسيرين عبر فناء المدرسة في غبش ذلك الصباح الخريفي ، تلك الصورة ، صورتك التي أراها جد واضحة بعين خيالي ، تلك الصورة المفعمة بكل معنى بالنسبة لي ، تلك الصورة التي تمثل لمحة من أكثر لمحات حياتي إشراقاً وبهاءاً، تلك الصورة التي اراك فيها تجلسين في حانوت المدرسة ، مع فتيات أخريات ، لكنك مع ذلك كنت تبدين منفصلة عنهن . كنت تجلسين معهن ، لكنك كنت تجلسين وحدك ، تجلسين محاطة بشعرك الأسود ، وحدك تجلسين في نهاية الطاولة ، في مكانك المعتاد ، ولاأدري كم مرة رأيتك تجلسين هنالك ، لاأدري كم مرة ، لكني أتذكر هذة المرة الوحيدة بالذات ، أتذكرك فيها تجلسين هناك ، وفي عينيك يومض شيء ما ، شيء ما كان يتجلى للعيان كلما رفعت رأسك ، شيء خفي كان يلمع في نظراتك آنذاك ، شيء غامض يتحدى ادراكي ، شيء كان يكمن في عينيك ، شيء تجذر بقوة في أعماقي ، شيء عجزت عن فهم كنهة وسرة حينها ، وأعجز عن فهمة الآن ايضاً ، لكنك كنت تجلسين هناك ، تجلسين وترفعين عينيك ، وكل ماأقولة عن تلك النظرات يبدو خاطئاً ، فليس من السهل علي أن أصف ماكانت تقولة تلك النظرات ، التي كانت تحمل بين طياتها الكثير ، الكثير ، في ضحى ذلك اليوم ، في حانوت المدرسة ، حيث كنت تجلسين في نهاية الطاولة ، تجلسين وحيدة ، مع الأخريات ، وشيء ما عميق الغور كان يلمع في عينيك ، للحظة واحدة فقط ، تلك اللحظة بالذات ، وفي ذلك المكان بالذات . لايسعني نسيان مارأيت في عينيك حينذاك ،إني أحملة معي أينما حللت لانة تجذر في اعماقي ، لانة اصبح جزء من نظرتي ، لأني عندما أنظر حولي ، فاني أرى مارأيت حينها في عينيك . لايمكن لأي إنسان ادراك ذلك بسهولة ، لأن مارأيت في عينيك حينذاك قد لايعني لة شيئاً أبداً ، وقد لايكون لة أي مغزى بالنسبة إلية ، لكنة بالنسبة لي الآن ، وأنا مشرف على نهاية حياتي ، التي ستنتهي لامحالة ، أدرك بأن ما لمحتة في نظراتك حينئذ يمثل أكثر لحظات حياتي صفاءاً وروعة . قد يبدو ماأقول سخيفاً ومضحكاً ، لكني لم أر في كل من رأيت وأحببت ، شيئاً مثل ذلك الشيء الذي رأيتة في مشيتك ذلك الصباح ، ذلك الشيء الذي الشيء الذي كان يلوح لي من بين ثنايا جسدك في ذلك الصباح البعيد في أواسط ذلك الخريف ، الذي جئت فية حديثاً الى مدرستنا ، ذلك الشيء الذي يمثل أكثر لحظات حياتي صفاءاً واشراقاً . أنة شيء رهيب ، ومستحيل نوعاً ما ، مستحيل كما ذلك النور الذي أطل من عينيك ، ذات صباح ، في حانوت المدرسة ، عندما كنت تجلسين في نهاية الطاولة ، وحيدة مع الأخريات ، عندما كنت تجلسين وترفعين رأسك لتنظري بتلك العينين ، عيناك ، اللتان رأيت فيهما ذلك البريق ، ذلك المستحيل الذي يمثل كل مافي حياتي من معنى ، رغم أنة قد يكون بلا معنى تماماً بالنسبة للآخرين . أنا متأكد من إني لوكنت قد أخبرت بذك ، لو أخبرتك بما كنت أشعر ، لشعرت بالحرج ، ولرفضت الحديث معي ثانية ، ولأصبحت علاقتنا علاقة خرقاء ، علاقة مرتبكة ، وصعبة جداً، لأنك كنت ستعين كيف كنت أنظر اليك ، والى حركاتك ونظراتك الأكثر براءة وعفوية ، ولجعلك ذلك تشعرين في حضوري بالجفاء والقسوة والإرتباك ، أنا متأكد من أنك كنت ستشعرين بذلك لو أخبرتك بمعنى ذلك الشيء الذي كانت تخبئة حركات جسدك ، في ذلك الصباح ، صباحك الأول في مدرستي ، ذلك الصباح الخريفي ، الذي رايتك فية ، في الظلام الخفيف البارد ، عندما كان الرذاذ يهمي ، والريح تهب ناعمة . ماكان بوسعك أن تفهمي ، لو كنت قد حدثتك بمايدور في خلدي ، ولما كان ، بعد ذلك ، بمقدروك العيش معي ، لو كنت حدثتك عن ذلك الشيء الذي لمحتة في نظراتك ، في ضحى ذلك اليوم ، في حانوت المدرسة ، عندما كنت تجلسين وحدك مع الأخريات ، عندما رفعت بصرك ، لو كنت حدثتك بما يعنية ذلك الشيء لي ، لما كنت قادرة على التحديق بحرية بكل تلك السنين التي ضمتنا معاً . لاشك عندي في ذلك . لهذا السبب لم أخبرك . و لربما كنت أوهم نفسي بأن قول ذلك لك كان سيجعلك أكثر تحفظاً معي ، وربما لم يكن ذلك صحيحاً لوحدث العكس ، لاأدري . حتى عندما كنت أمسك بيدك وأنت تموتين ، لم اخبرك أبداً ، لم أخبرك حتى في لحظاتك الأخيرة ، لقد سمعت أنفاسك تتباطأ ، سمعت أنفاسك تتحشرج وتشرف على النهاية ، سمعت أنفاسك تتقطع ، ثم تختفي لوقت طويل ، ثم شاهدت الحياةً تعود الى عينيك ، ورأيت أنفاسك تعود ثانية لتتلاشى من جديد ، حتى أنقطعت تماماً ، وفي تلك اللحظة ، تلك اللحظة بالذات ، رأيت ماكان كامناً في عينيك يتحرك في فضاء الغرفة ، يتحرك يداً بيد مع ذلك الشيء المخبوء في حركة أعطافك ، وشاهدت ماكان في نظراتك وحركاتك يتغير ، شاهدتة بلمحة مضيئة واحدة ، يتحول الى شيء بلا ملامح ، ثم يغيب الى الأبد . شاهدت الخواء يحتل عينيك . شاهدت عينيك للمرة الأخيرة ، واغلقت جفنيك ، وسمعت صوتك ، صوتك الذي سمعتة عدة مرات ، صوتك الذي سيظل ، طالما حييت ، وقبل أن أتلاشى أنا ، وقبل أن يتلاشى هو ، في تلك اللحظة بالذات ، وذلك المكان بالذات ، سيظل يرن في ضميري . سمعت صوتك ، في منتصف نهار ما ، ينساب في اجتماع ما ، في قاعة الاجتماعات ، عندما وقفت ، وقلت شيئاً ما ، وعدت للجلوس ثانية ، لاأتذكر أي اجتماع كان ، لاأتذكر ماذا قلت ، لكني اتذكر شيئاً ما كان يرن في صوتك ، يرن بتلك الطريقة التي تناغم فيها صوتك وجسدك والتحما معاً عندما وقفت ، وقتها سمعت شيء في صوتك ، شيء ظل يتردد في أعماقي منذ ذلك اليوم ، لاأتذكر ماذا قلت ، لاأتذكر ذلك لأنة بلامعنى ، وليس لة أهمية تُذكر ، لكن ذلك الشيء الذي كان يسكن في صوتك ، في تلك الظهيرة ، في قاعة الاجتماعات ، في المدرسة التي درسنا فيها ، ذلك الشيء الموجود في صوتك ، عندما وقفت ، بشعرك الأسود ، سيظل يرن ابداً في قلبي . ولم اخبرك بذلك قط ، لأني لم أستطع أخبارك بمثل هذة الأمور . لم استطع اخبارك بكل ما قلتية ، لأن ماقلتية لم يكن لة ماكان لذلك الشيء الذي في صوتك من معنى ، في تلك الظهيرة ، في قاعة الاجتماعات ، في مدرستنا التي درسنا فيها ، حيث قلت شيئاً ما لاأتذكرة . رأيتك تقطعين فناء المدرسة في صباح مبكر من صباحات خريف ما ، في غبش النهار البارد ، ولمحت شيئاً في مشيتك ، لم يبارح ذاكرتي . ورأيتك تقفين ، في تلك الظهيرة في قاعة الاجتماعات ، في مدرستنا التي درسنا فيها ، وسمعت شيئاً ما في صوتك لم يبارحني . والآن بعد أن رحلت ، كان ثمة شيء في حركاتك ، في عينيك ، في صوتك ، تغلغل في جوانحي ، وأحاط بي وبك ، وانتشر في السماء الداكنة خارج نافذة غرفة المستشفى التي ضمتنا معاً . شيء لم أدرك كنهة من قبل ولاأعلم ماهو الى الآن ، ولو كنت حية ، لما حدثتك بة ، لأن ذلك كان سيجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لك ، لأن كل ماكنت أتمناة هو أن يتحرك جسدك بنفس الطريقة التي كان يتحرك بها ، عندما كنت تستيقظين ، مرهقة ومتعكرة المزاج ، عندما كنت تغضبين ، عندما كنت تشعرين بالسعادة ، عندما كنت تنفجرين غاضبة وتشتميني ، كنت أريد جسدك أن يكون بالضبط كما أريدة أن يكون ، ولم اشأ أن أقل لك ذلك ، لم أقل لك بأني كنت أدور حولك وفي رأسي ومضة مضيئة منك ، كما أحب أن أسميها ، ومضة في داخلي . لم أخبرك بما كنت اراة في نظراتك ، لقد كنت تنظرين بالضبط بنفس الطريقة التي كنت تنظرين بها ، طريقتك الخاصة ، غير آبهة بتطوافي حولك ، وتسمر نظرتي في نظرتك . لم أقل لك ذلك ، ولم اقل لك كيف أن شيئاً ما في صوتك قد تجذر في أعماقي ، لأني لو كنت قد قلت ذلك ، لما تسنى لي سماع رنين الغضب فية وهو يتجلى بكل وضوح ، يعني ، بالطريقة التي هو عليها الآن ، دائماً كنت تمنحيني شيئاً من روحك ، طوال اليوم ، طوال كل الأيام ، حتى عندما كنت تقولين لي أحمق ، وتصبين لعناتك على كل شيء . يجب السماح لك بالاحتفاظ بصوتك لنفسك . لم أحدثك أبداً عن ذلك الشيء الموجود في صوتك والذي تجذر في اعماقي . لأنك الآن ميتة . الآن لاوجود لك . الآن لاوجود لحركاتك ، لنظرتك ، لصوتك . لأن كل هذة الاشياء موجودة معي الآن ، في داخلي ، ولهذا لاأخشى الموت .

يون فوسّة
ترجمة علي سالم
السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟