الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحم الله ذاكَ الزمان

عصام الياسري

2009 / 7 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


في ليل حالك أسرج القوم جيادهم وليس عقولهم وأعدوا العدة للذهاب مع الاحتلال لغزو العراق والقضاء عليه وتضييق الخناق على شعبه من الوريد للوريد حتى يقضى وتجف آخر قطرة دم في جسده، وحدَّوا فياصلهم للاستئثار بالسلطة على أنقاض إرث دموي لا ينسى.. وكان الدور المناط بهؤلاء الحكام الجدد بعد أن نزلوا بغداد عام 2003 بدبابة أمريكية ليصنعوا أكاذيب وحكايات خرافية ضاق الناس بها ذرعاً، تأمين المصالح الإستعمارية والأجنبية واللعب بمقدرات الوطن ونهب خيراته وسرقة أموال الدولة وممتلكاتها تحت ذريعة "الضرورة لها أحكام" وأعمار الديمقراطية كما بشر بها الاحتلال حسب وصفة أمريكية الهوية والمنشأ في بلد كالعراق واحدة من هذه الضروريات التي تتطلب النهب والتسلط على هذا النحو، ولازال الستار يسدل على كثير من الأسرار والفواجع.
اليوم يترحم العراقيون على زمن الخير والنعم، بعد أن مضي أكثر من 6 سنوات على الاحتلال وفقدان الأمن والإستقرار والماء والكهرباء وتفشي البطالة والفساد المالي والإداري، زمن لا مكان للغش والكذب والاحتيال والنفاق أو التجاوز على الحقوق المدنية والعامة، الغني والفقير ينعم بالطمأنينة والأمان، أموال وممتلكات الشعب والوطن مصونة ولا يستطيع أحد التجاوز عليها، أو أن تتعرض للنهب والسرقة كما يحصل الآن في زمن العهر السياسي وكيد المتزلفين والمتحذلقين اللذين انتفخت كروشهم على حساب بؤس الفقراء وقوتهم دون أن يطال العقاب أحداً منهم.
فرحم الله ذاك الزمان الذي كان يحاسب فيه الجاني ويعاقب المجرم والخائن دون استثناء. وكانت حقوق الناس تحترم والمسؤوليات تعتبر، وللدولة قدسيتها وهيبتها وللقضاء حصانته. وفي بلاد الرافدين كان الفساد الإداري والمالي لا يعرف ولا تُعرف الرشوة والابتزاز، حتى الزبال "مع احترامي" لم تسمح عزة نفسه وكرامته رغم الضيق المادي الذي عانى، التعاطي مع الرشوة أو الاقتراب منها بأي حال من الأحوال، وثمة بعض الشرطة وموظفي الدولة تعرضوا للمساءلة القانونية لقبولهم سجائر من المراجعين أثناء الدوام، ومعروف عن العراقيين بأنهم يترفعون عن مثل هذه الأعمال.
رحم الله ذاك الزمان الذي ثار فيه أبناء الأمة العراقية على الظلم والمحتل فهُزِما، وكان العقل العراقي يعمل لرفع شأن الوطن مهما كان التباين السياسي والفكري، كما كان همه تحديث الدولة والمجتمع وبناء النهضة العلمية والعمرانية، ورحم الله ذاك الزمان الذي كان فيه رجالاً أصحاب كلمة وعهد وذمه.
رحم الله ذاك الزمان الذي كان يطعم فيه الغني الفقير وينصر القوي الضعيف، وطارق الباب يُحمى ويُحسن إليه حتى يستتب الأمان فينصرف.. رحم الله ذاك الزمان الذي لا وجود فيه للشوفينية العنصرية والمحاصصات الطائفية والسياسية، كما رحم الله قائداً عسكرياً كردياً، مثل بكر صدقي الذي جاهد من أجل بناء عراق متطور وموحد، وقاضياً تركمانيا مثل عمر نظمي الذي خدم العراق منذ العشرينات وحرص على بناء صرحه الواسع في كل المجالات، وصابئياً مثل الفنان عزيز علي الذي تغنى وحلم بعراق مزدهر ينعم شعبه بخيراته، ورحم الله يهودياً عراقياً مثل حسقيل ساسون الذي طالب بدفع الأنكليز ثمن النفط العراقي بالذهب بدل العملة الورقية التي كانت تطبع دون اي قيمة لها، وبنى اقتصاداً عراقياً قوياً، وحافظ على خزينة الدولة وخلص بدهاءه وحكمته وحرصه، العراق، من عجز مالي خطير حينما كان وزيراً للمالية.
رحم الله ملكاً كان يمر بموكبه دون حماية ومراسيم وقطع للطرق ويقف على شارة المرور حاله حال الآخرين ويتحدث مع المارة حتى يتحول الضوء الأخضر، وله راتباً مستحقاً لا يزيد عليه فلساً واحداً ولا يأخذ غيره إلا بتشريع دستوري كان غالباً ما يواجه بالرفض، ورحم الله مسئولين في الدولة كانوا يقطنون بين عامة الناس ويتبضعون بنفسهم ولا يستغلوا مناصبهم لشأن أو محسوبية وأطماع.
رحم الله نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي الذي أخذ قرضاَ بقيمة ألفي دينار من البنك، كان يقسطه، لإكمال بناء داره المتواضعة. رحمه الله ورحم رجالات ذلك العصر اللذين لم يُبعد أو يُهجر في زمانهم من العراقيين قسراً، إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد، ولم يرق عدد المساجين السياسيين إلى الثلاثمائة في جميع أنحاء العراق، ولم يعدم إلا ثلاثة سياسيين ويستشهد خلال الانتفاضات والمظاهرات التي شهدها العراق آنذاك إلا بضعة مواطنين.
رحم الله ذاك الزمان الذي كانت فيه رواتب النواب والوزراء متواضعة ومنسجمة مع أحوال البلد وإمكانياته، خالية من مظاهر الإنفاق والتبذير والاحتيال ولا تدخل فيها حسابات طائفية أو عرقية أو حزبية كما هو دارج اليوم في العراق، حيث بلغ راتب النائب سنوياً أكثر من مليون ونصف دولار غير مبالغ الصفقات السرية.
رحم الله ذاك الزمان الذي كان علم العراق يرفرف فوق كافة مدنه وحدوده من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وليس من دستور أو حكومة إلا الدستور والحكومة المركزية، ولا مَن يستضعف العرب العراقيين في ظرف محنهم الاستثنائية، فيستبز تارة ويسعى لتزوير التاريخ تارة أخرى للاستيلاء شرقاً على مناطق يصل مداها للفاو جنوباً والانبار غرباً. ورحم الله ذاك الزمان الذي كانت بغداد وغيرها من المدن، تتعرض للفيضان لوفرة المياه التي تصل العراق على مدى العام ولا ينقطع الماء والكهرباء، بفضل دفاع الأمة عن حقوقها أينما كانت.
رحم الله يوسف سلمان يوسف وحسين الشبيبي وزكي محمد نسيم اللذين صعدوا المشنقة في شباط 49 وهم يهتفون باسم الشعب والوطن. فيما لا يضع قادة الأحزاب الحاليين أي اعتبار لمثل هكذا قيّم بسبب سيطرة غرائزهم الذاتية على المباديء.. ورحم الله سلام عادل " محمد حسين الرضي" القائد الشيوعي الذي فضل أن يستشهد على أن يرضخ للانقلابين اللذين جاؤوا في 8 شباط 1963 بقطار أمريكي أوكل إليهم مهمة تأمين مصالحه مقابل السلطة على حساب مصالح الأمة والمجتمع، ورحم الله المناضل الوطني كامل الجادرجي الذي رفض الوزارة في ظل قيادة عسكرية كان شرطه أن تغادر.
رحم الله ذاك الزمان الذي ما انقضى وولى إلا وآثاره وملاحمه تبقى عالقة في أذهان العراقيين جيلاً بعد جيل، يتوارثونه دون أن يستوحشوا آلامه أو أفراحه. ورحم الله ذلك الزعيم الوطني الخالد عبد الكريم قاسم صاحب القول المأثور " وعفا الله عما سلف" الذي كان يتجول ليلاً دون حماية يتفقد أوضاع الناس إلى أن استشهد أثر انقلاب شباط 1963 ولم يملك قرشاً واحداً أو طقم أدوات طعام أو دار، حتى أنه قضى وهو لا زال مدوناً 35 ديناراً ثمن أيجار البيت والكهرباء ولم يحل أمر ذلك قضائياً حتى زمن الرئيس أحمد حسن البكر الذي اغلق الملف، ورحم الله هذا الرجل الذي لم يوقع على صرف مال لأحد المسؤولين وأشتد به الغضب يوماً وقال: اتقوا الله في نهب أموال الشعب!.. ورحم الله عبدالرحمن البزاز أول رئيس وزراء مدني في العهد الجمهوري الذي طرح في حزيران 1966 مشروع دستور وطني عراقي دائم ومتقدم، يعبر عن رغبة العراقيين جميعاً ويؤسس لمجلس تشريعي منتخب يكون السلطة التشريعية الوحيدة ولا سواها في البلاد.
رحم الله ذاك الزمان وذاك الذي كان من هدوء البال وراحة الوجدان وصدق الأيمان وخلو الحياة من الظمأ والجوع. عله يرجع فتنبري عن العراقيين همومهم التي شد أزرها حكام العراق الجدد اللذين طالت ألسنتهم بالكذب وامتدت سواعدهم كالإخطبوط في كل مفاصل الحياة، ينهبون ويسرقون ثروات الدولة وقوت الشعب باسم الديمقراطية والدين، يثأرون بسلطة لا تجسد إلآ الطائفية والعنصرية بكل مقاييسها لأجل الإمتيازات ونهب العراق حتى آخر فلس فيتبعثر ولا يبقى منه اثر، يمارسون ذات الصياغات والشعارات السياسية التي مارسها النظام المقبور، بهجاءاتها وقوافيها.
لكن السؤال الكبير، إلى متى سيبقى الطائفيون والشوفينيون العنصريون يتربعون على كاهل العراق، يمسكون بمقاليد الحكم كما كان النظام السابق متمسكاً به، يتصرفون كما يتصرف رجال المافيا، لا هم لهم غير أعمار إمبراطورياتهم الشاسعة بملايين الدولارات وعائدات النفط المسروقة، يحميهم المرتزقة والميليشيات الخاصة المدججة بالسلاح والصلاحيات؟. وإلى متى نبقى نترحم على تلك العصور والمرارة تثقل أفئدتنا؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أي تسوية قد تحاول إسرائيل فرضها في لبنان والإقليم؟


.. أي ترتيبات متوقعة من الحكومة اللبنانية وهل تُجرى جنازة رسمية




.. خبير عسكري: هدف عمليات إسرائيل إحداث شلل في منظومة حزب الله


.. نديم قطيش لضيف إيراني: لماذا لا يشتبك الحرس الثوري مع إسرائي




.. شوارع بيروت مأوى للنازحين بعد مطالبة الجيش الإسرائيلي للسكان