الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغربال الأعمى

فاطمة الشيدي

2009 / 7 / 26
الادب والفن


في الليلة التي كان فيها الحلم بعيدا جدا، وكان الليل يأكل خبزه مغمسا بالصمت، الليل الأعمى بذاكرته المشتعلة بالحزن، وجسده الظلامي، وحنيه الهلام..
كان لاشيء هنا، لاشيء هناك، لا أنت، لا أنا. هكذا كانت تغني كمن تهدهد صغيرها الأرق.
وحدها الكلمات كانت تسكن أعشاش الروح، وتظمئ ما تبقى من سرادقات الحفظ، الكلمات المترملات في أثوابهن البيضاء، وفي جسد الورقة، والصمت الذي ران على الروح حتى ذبحت.
منذ زمن لم تعد تشفّع اللغة في ما تبقى منها، ولم تعد تستنجد بالوهم، فقد أدركت منذ عمر مبكر أن النازلة أكبر من اللغات، وأن الدرب المتفرع إلى زوايا يوصل كل منها لطريق مسدود ومرعب..
مرعب أن تسير بلا هدى ولا ظلال، بلا فرح وبلا حزن، بلا أمل وبلا يأس، اليأس أحيانا عافية الروح، وأخرى خرابها، وكذلك اللغة، في حين أن الهذيان سدرة الوقت..
كانت تدرك أن اللحن يسكن قلب الربان قبل أن تقلع السفينة، وأن الليل العشي والصبح المجدور بقطيرات الضوء، صنوان، ولن يغيرا على ما تبقى من فلول النزوح الأخير، ولن يغيرا على متاريس الزمن الذاهبة في الإيغال حتى ذاكرة الليل والعشق والصمت؛ ولكنها أحبت أن تسن سكين الحكاية قليلا لتذبح وريدها أو شريانها بما تبقى فيه من وله الحزن وصدى الغرغرات الكثيرة.
كان الذبح جائزا فهي من أشعلت قناديل العيد، وبخرت الحنين بالرقى.
قال: كانت وكانت.. تسكن قلب الحكاية، ونخاع العظم، وذهبت "حبيبتي" .
ذبحتها الكلمة، عرفت أن من يذهب لا يسكن بين حرفين، يصبح له لون الماء وطعمه ورائحته، وهي الآن تشتم رائحة الحريق والدم والذبح الحي.
قالت: سأغادر الحلم، ولكنها مكثت.
كان كوخ الوجد يغري بالمكوث في ليل العواصف الباهتة.
قال: غادر الصمت مدارات الكلام و"انتهى" ماكان من غبار لوث الذاكرة بالحنين حتى حين.
صرعتها النهايات المتدثرة بالاجتثاث الحي، وكانت إذ تربي شهيق الأجنحة في مغاور الكينونة، سقطت متلاشية.
وكان إذ يغادر كوته لا يحتاج يتمها الملون بمحارات البحر، وحديث الذاكرة الموغل في الأحراش والقدم، وإذ يعود يسيل كوادي "عاهن" أو " المحموم" بكل الهدير والأنين المنبعث من ارتطامه بالصخر، يصبح مهدودا ومكدودا كسيزيف.
حجز ما تهدّل من قامة الضوء، ومال عليها، سال ما سال من فنن الصبابة في مسارات بعيدة تماما عن كينونته، كي لا يخذل "تاريخ" الرسالات القديمة، وكي لا يخذل عرش بلقيس، وأطلالها الأثبت من وشم على ظاهر القلب وباطنه.
كان يحفر في جنب الظلمة بإزميل اللغات حكايات الطين، والعروش الطافرة بالدم والحنين والحليب والعشق، ويوغل في سرد ما تبقى من رئتيه وقلبه وعظامه.
ولذا أحبته بروحها..
فقد كانت مذ كانت لا يغريها إلا الكلام والدم، ولا يجرحها عشق إلا إذا انهمر مع انثيال اللغات إلى الطمي الراكس في القاع، لذا ذبحتها الشمس في مراتع الغيم، وكلما قررت أن تثأر ليتمها، يثأر منها الحزن.
كان يعيش في المعبد كراهب وثني، ويصلي صلواته العشبية عند مداخل الزمن الذي كان يحفظ عن ظهر وعظم وروح مخارجه، ومفاصله، وتفاصيله، ومفصلياته، وحيثياته، كراوية عتيق.
الآن هي تعتذر
للبدايات الهشة بتعابيرها البدئية
للحزن المستمر
للقدر المراوغ
هو : لمن تعتذرين الآن؟!
هي: أعتذر للسفينة وللبحر وللموت وللنهايات، وللحلم الأعمى ولي ولك.
هو: أنا أيضا أعتذر
هي: عم؟
هو: عن النقص المتصاعد، وعن عمى الحلم الذي كنت السبب فيه، حيث قلت لا ضير من معانقة الريح قليلا.
هي: لا عليك أنا أيضا تلذذت برعب المقل الزائغة نحو الحلم، كنت أدرك أن المسافة وهم، وأن حلم الربان ناقص، وأن الفراغات ذاكرة العدم، كنت أدرك عنف الموجات إذ تدغدغ حورية الماء، وأعرف تراتيل الشوق المقدس، وشهقات الحنين العظيم، كنت أعرف الحكاية، ولكنني كنت أطمح أن أغير طعم التاريخ، وأن أغير على المتبقي من الحبكة الجبّارة، وأنقص حجم الشخوص، وأشرب من ذاكراتهم قليلا على الظمأ، كنت أحلم أن يقتلع الصبح الأعشى مراود العتمة المبهرة، وأن يساوم الماء الظمأ في تراتيله المهيضة، وأن يستبقي الحنين كمادة لحمى أخرى، لكنني كنت أحلم فقط.
هو: وأنا أيضا كنت أحلم بتغيير منسوب الماء قليلا ليرتفع الشوق للروح، وربما كنت أحلم بالقليل من الملح المنثور فوق الجرح ليقتص من حرارة العشق.
لااااااا ربما كنت أختبر منسوب الماء، وخرائط الشوق وحميّات الزمن، كنت أختبر الفراغ هل تسرب بين يدي شقيّه وشقيقيه، كنت أختبر الحنين هل يمكن أن يتسرب من أصابع الغربال الأعمى مع تطاول العمر والشوق.
كان يقدم خطواته شبرا، ويهرول للخلف ذراعا، يذهب باتجاه الأشياء الغاربة، يدرك أن غروبه فقط عند مطلع الشمس، وأن مادون ذلك محاولات ظامئة للحياة الخرقاء، للهدنة بين القلب وكل ذلك الاحتفاء.
هي قررت أن تعود، خلعت الحذاء، وعادت حافية لتقنع الخطوات بلذة الألم إذ ينسكب الدم، وإذا يتعرّش الشوق، كان ذلك الألم ضرورة.
لم تك حزينة جدا، أنها حزينة فعلا، لكنها قالت: على الأقل وجدت المثال، كانت تشك في فكرة أفلاطون عن عالم المثل، وعن صيرورة انقسام الكواكب، الآن لا تشك سوى في الحظ السيء، وفي القدر وفي فكرة الكمال.
عادت أكثر خفة عادت بشكل يشبهها أكثر، وأدركت أن العمى ذاكرة الغربال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هاني خليفة من مهرجان وهران : سعيد باستقبال أهل الجزائر لفيلم


.. مهرجان وهران يحتفى بمرور عام يوما على طوفان الأقصى ويعرض أفل




.. زغاريد فلسطينية وهتافات قبل عرض أفلام -من المسافة صفر- في مه


.. فيلم -البقاء على قيد الحياة في 7 أكتوبر: سنرقص مرة أخرى-




.. عائلات وأصدقاء ضحايا هجوم مهرجان نوفا الموسيقي يجتمعون لإحيا